اللهم صل على محمد وآل محمد
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴿26﴾
النزول:
روي عن ابن مسعود وابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قولـه: { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً }
وقولـه: { أو كصيب من السماء }
- قال المنافقون الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي عن قتادة والحسن لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره فأنزل الله هذه الآية.
المعنى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي ﴾
معنى لا يستحي قيل انه لا يدع، وقيل لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شيء تركه وامتنع منه .
ومعناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها
وقيل معناه هو أن الذي يستحيى منه ما يكون قبيحاً في نفسه ويكون لفاعله عيب في فعله، فأخبر الله تعالى أنّ ضرب المثل ليس بقبيح ولا عيب حتى يستحيي منه وقيل معناه إنه لا يخشى أن يضرب مثلاً .
فالاستحياء بمعنى الخشية هنا كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والإمتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح.
﴿ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
أي ليس من العيب ان ضرب الله بعوضة مثلا ، فيضرب بها المثل و ما هو أعظم منها عن قتادة وابن جريج .
وقيل فما فوقها في الصغر والقلة لأن الغرض هنا هو الصغر.
وقال الربيع بن أنس: إن البعوضة تحيى ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلأوا من الدنيا ريّاً أخذهم الله عند ذلك.
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله تعالى أن ينبِّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه وقد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشيء الحقير في كلام العرب.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
أي صدقوا محمداً والقرآن وقبلوا الاسلام .
﴿ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾
مدحهم الله تعالى بأنهم تدبّروا حتى علموا أنه من ربهم وأن المثل وقع في حقه.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ﴾
يعني وأما الذين كفروا بالقرآن فيقولون بلإعراضهم عن طريق الاستدلال وانكارهم الحق ورفضوا هذا المثل فقالوا:
﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ﴾ اي يعني ماذا أراد الله بهذا المثل فحذف الألف واللام.وهذا المثل ميز القلوب المنافقة من التى عمرها الايمان
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ﴾
فيه وجهان :
الاول : حكي عن الفراء أنه قال إنه حكاية عمّن قال ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً أي يضل به قوم ويهتدي به قوم ثم بيّن تعالى أنه لا يضل إلا فاسقاًَ ضالاً وهذا وجه حسن.
الثاني : أن الكفار يكذبون به وينكرونه ويقولون ليس هو من عند الله فيضلون بسببه وإذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه .
﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾
الذين آمنوا به وصدقوه وقالوا هذا في موضعه فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه وزادهم هدى.
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾
معنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال وذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن فضلَّ عندها سميت إضلالاً وإذا سهلت فاهتدى سميت هداية فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير ويهتدي بها قوم كثير .
وقد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال والحكم به كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال وأكفره إذا نسبه إلى الكفر
وقد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك والعذاب والتدمير . أن الله تعالى يهلك ويعذب بالكفر به كثيراً بأن يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسببه فيهلكوا ويهدي إلى الثواب وطريق الجنة بالإيمان به كثيراًعن أبي الجبائي
وقد يكون العقوبة على التكذيب كما قلناه أو يكون أراد به التحيير والتشكيك .
والفسق هو الخروج من القشرة ،وهو خرق الاطار التكليفي الذي وضعه الله لحماية خلقه.
--------------------
مختصر تفسير الميزان
للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله.
تعليق