اراهن أن ضيفي لا يحتاج إلى مقدمة بما يمتلك من مثابرة، إذ صنع لنفسه أفضل مقدمة، ممكن أن تقال محاورتي مع المبدع الكاتب والمخرج ( علي العبادي ) فبسم الله ابدأ.
ـ هل من باب التفرد يبحث الكاتب عن عنوان غرائبي مثل عنوان حذائي ؟ ولماذا حذائي، وما هي حدود الحذاء؟
لا شك أن أي شخص يعمل في حقل إبداعي يحاول أن يؤسس إلى خطاب يتفرد به عن غيره، كون هذا التفرد هو سر الجدل الذي يدور حوله، مما يجعله حياً لا يموت في الذاكرة حتى لو وافاه الأجل ، ومصداق كلامنا لوحة الجيوكاندا (الموناليزا) لدافنشي. أحاول جاهداً أن أخلق من العنوان نصاً موازياً للمتن أي لا يكون أقل منه شأناً، وأحياناً أجعل منه الشرارة الأولى للتثوير، لابد من مغادرة العناوين الجاهزة والمعلبة، أحياناً تجد أن العنوان عبئاً على النص من الناحية الجمالية والفكرية والدلالية، وأحياناً تجده بمستوى النص وفيه جنبه تسويقيه له بما يثير من استفزاز لدى المتلقي . (لماذا حذائي) هو فضاء مقترح للهروب من جحيم إلى جحيم بفعل التداعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إذ تعاني الشخصية البطل من صراع نفسي حاد وهي أمام خيارين أم أن يبقى داخل الحذاء ويتحمل عفونتها أو يخرج ويتحمل عفونة الخارج، طبعاً هذا النص هو إدانة لكل أشكال الموت والإقصاء الذي تعرضت له الشخصية العراقية عبر عدة تمرحلات تأريخية. أما ما يخص حدود الحذاء فهي بحدود الوجع المجاني الذي أرغمنا عليه، ما أن ينتهي سوف تتلاشى هذه الحدود، لكن كيف ستتلاشى إزاء هذه الفوضى العارمة.
مفردات تحتاج الى تأملاتك عبر حذائي ( الواقع، التراث، الذاكرة، الجرح، الإنتماء، الموقف) .
(الواقع) الآن جعلنا في منطقة حرجة خصوصاً نحن الذين نعمل في حقل الدراما كون أن الدراما التي نألفها في الواقع أكثر أدهاشاً، لذا حينما نبدأ بالشروع في تدوين خيباتنا درامياً نكون في حيرة من أمرنا عبر تساؤلات عدة، ماذا نكتب؟ وكيف نكتب؟ الكتابة عن واقع جدلي معاش ليس بالأمر السهل، لذا أحاول أن أخذ المتلقي إلى أن يتأمل خيبته بشيء من القسوة عليه كي يساهم في الاحتجاج من أجل أن يغير واقعه المرير.
(التراث) لا أحبذ الاتكاء على التراث دون مشاكسته وسحبه إلى المتغيرات التي تعصف بالبلاد، وإن الاتكاء عليه موت للمبدع، كون التراث هوية متشكلة، فعلينا أن ننتج هوية أخرى تتماهى مع الراهن، نأخذ من التراث ما يعزز الاشتغال الإبداعي وليس الاتكاء عليه.
(الذاكرة) الذاكرة حطب الأيام، مؤسف أن تدوينات كلها أرشفة للخيبة والضياع والموت المجاني والاستلاب والإقصاء، حينما نرجع إلى الذاكرة كي ترفدنا في مجال اشتغالنا نجد أن لهيب النيران يخرج من بين ثنايا صمتها، موجعة الذاكرة جداً، لذا أحيانا نذهب صوبها كونها فيها الكثير مما نعاني الآن من أوجاع مستديمة.
(الجرح) العراقي هويته الجرح، جروحنا غائرة في أعماق الروح، لذا قلت ذاته يوم (الموت نهدين وشعبي الرضيع لا يرضى الفطام)، الجرح هو اختزال لتدويناتنا في الخيبة والخراب، أحيانا تكون اللغة عاقر إزاء ما يتعرض له المرء من بلاغة الجرح، وأقسى تلك الجروح التي لا ذنب لك في حصادها.
(الإنتماء) أنا أنتمي للانسانية وأعد الأمام علي (ع) قدوتي في ذلك، وأنتمي للحلم، لذا كثيراً ما أقول (أنا حالم وسط الضجيج) ووضعت هذه العبارة في إشهار مسرحية (عزف نخلة) بدلاً من مفردة (تمثيل)، الإنتماء لغير الإنسانية في هذا الوضع الذي عليه رهانات كثيرة بحد ذاته خيبة.
(الموقف) نعاني من أزمة كبيرة وفادحة في الموقف والتي هي نتاج أزمة أخلاقية، جعلت من مساحات التيه التي نحن فيها تتسع بشكل مخيف ومرعب، الإنسان الذي لم يكن له موقف ما الذي يتبقى منه ؟
ألا تخشى الترجمة الاستباقية من المتلقي / الذائقة؟
مؤكد جداً في الكتابة أضع دائماً المتلقي نصب عيني أثناء وقبل الشروع بالعمل، أخشى جداً من المتلقي الحاذق الذي يقرأ العمل منذ الوهلة الأولى، لذا أحاول أن أخلق مسارات أكسر من خلالها أفق التوقع لديه، تارة من خلال التحولات الشخصية المتعددة أو من خلال العنوان والذي أحاول أن أجعله مدهشاً ومستفزاً، لذا أعد أن الإبداع هو استفزاز للذات، ولا أحبذ أن يكون العنوان كاشفاً عن بنية الحدث، أدعو أن تكون المكاشفة عبر القراءة أو مشاهدة العرض، وبذلك يكون العنوان أشبه باستفهام تتم الاجابة عليه من خلال النص أو العرض.
وما الذي تريده من المتلقي ؟ ولماذا تواجهه بتغريبيه عالية؟
ما أريده من المتلقي أن يكون منتجاً وليس مستهلاكاً -أي قارئ ومفككاً ومحتجاً- على واقعه المرير، المسرح ليس متنزهاً نقضي فيه بعض من الوقت، بل هو ورشة للرؤى والأفكار والتطلعات والحلم للمرء، هو ليس ترفاً مثلما صوره البعض، مخرجات الوعي هي محددات سلوك، كيف لبوصلة السلوك ان تكون ترفاً؟ أواجه المتلقي بغرائبيه، لأني مثقل بتساؤلات عدة منها: كيف أقدم عرضاً أو أكتب نصاً يوازي ما يقدم في نفس العام الذي اقدم فيه النتاج هذا على صعيد الشكل؟ أما على صعيد المضمون كيف أقدم قراءة مغايرة لما هو مألوف؟ كيف أشتبك مع الراهن والتراث والماضي برؤى وتطلعات عميقة، بمستوى الموضوع المطروح؟ لا نستطيع أن نقرأ الجحيم بوصفه ضرباً من ضروب الرومانسية، ما نعيشه الآن هو أحد مستويات الجحيم، أحاول أن أخذ بيد القارئ على مناطق العتمة وأدعوه ليرى العالم وذاته ويحتج على كلاهما، الكتابة ليست صعبة الصعوبة هي ماذا تكتب؟ نحن أجهدنا الواقع كثيراً مثلما قلت لك سابقاً غرائبية الواقع بدأت تفوق غرائبية الدراما، لذا هذا الأمر ربما جعلني مقل في الكتابة .
عندما يكون المكان أكثر حضوراً في النص باعتبار الحذاء بيت ووطن ؟
طبعا تتعدد قراءة وتأويل البعد الدلالي للعنوان وفضاء الحدث والذي هو ذاته (الحذاء)، أحاول أن يكون المكان هو بطل مشروعي المسرحي ليس على صعيد النص بل حتى العرض، حينما أخرجت هذه المسرحية وقدمت في (٥) عروض بواقع أربع مهرجانات مابين محلية ودولية، حاولت جاهداً أن لا أتخلى عن المكان حيث عرضت في (باحة المركز الثقافي و أطلال المحاكم المحروقة في شارع المتنبي في بغداد، وفي شارع أبو نؤاس في بغداد والقعلة في كركوك وفوق سطح آثار خان النخيلة بين طريق كربلاء النجف) المكان أحياناً يشكل الحافز أو المهلم لي في تناول موضوعة ما على صعيد التأليف أو الإخراج، لذا أبحث عن فضاءات ضمن المهمل الثقافي والتي بدورها تجعلني أنفتح على آفق واسعة من الاحتجاج والتنديد بكل من يتسبب بإيذاء أي إنسان مهما كان توجهه، وإن المكان يشكل ذاكرة وهوية والكثير من الأمكنة فيها الكثير من الاستفزاز للمشتغلين بالحقول الإبداعي وهذا بدور يخلق أو يفتح حوار ساخنا استفزازيا مع المتلقي. أما فيما يخص (الحذاء) هو فضاء للاختباء مؤقتاً لم أقصد به بيتاً أو وطناً وحقيقة ساء فهم العنوان والمتن الدرامي حتى من قبل الأكاديميين حيث أجبر أحد تدريسيي (معهد الفنون الجميلة في بغداد) الطالب والمخرج (غيث الافريجي) الذي قدم العرض بتغيير اسمه النص إلى (هذبان الصمت) زاعماً إن النص فيه إساء للوطن، علماً أن الشخص هو يبحث عن وطن، هرباً من جحيمه إلى الحذاء والتي هي هنا اشبه بمحطة .
الشعرية العالية في النص المسرحي قد يحرف النص عن جنسه، لذلك كان الاستفهام عوناً على الهوية المسرحية .
لا أخفيك سراً في البدايات كنت مولعاً في كتابة النص المسرحي بأسلوب شعري حتى أصدرت مجموعتي (نهر قطعت أنفاسه النار)، ومن ثم تركت كتابة الشعر ووظفت الطاقة الشعرية في كتابة النص المسرحي خصوصاً في النصوص الأولى، لذا انتبهت الى ما أشرت له في سؤالك لكن عالجته عبر تفخيخ اللغة الشعرية بالدراما تارة وبالقسوة التي يتعرض لها المرء تارة أخرى، إذ تحولت اللغة الشعرية في المتن النصي إلى سوط درامي يجلد به من أنتج هذا الوجع، حتى أني أحاول أحياناً أن أحاول اللغة من وسيط تواصلي إلى جمرة أقذف به الآخرين محتجاً على كل ما آل إليه الوضع، وبذلك تكون الكلمة الشعرية المعنوية معادلاً للجحيم المعنوي اليومي .
الجرأة كانت أحياناً تدق ناقوس الخطر وخاصة عند عرض (اللا) للبيع .
لابد من الصراخ والاحتجاج إزاء كل هذا الموت المجاني والعذابات التي يعيش الانسان ليس لسبب يستحق إلا من أجل مراهقة الصبية من السياسيين، إذ أصبح كل منا عبارة عن رقم لجثة تنتظر من يعلن عن موتها بطريقة رسمية، إن تحدثت عن اضطهادك قتلت، إن صمت قتلت من الوجع والهم والنكد في كل الأحوال أنت جثة، من ترفع عن شراء (اللا) وهي تعبير مجازي للدعوة للاحتجاج هو نفسه من رفض الانخراط في الاحتجاج، وبذلك هو لا يمتلك قيماً إنسانية لذا هو جثة، فكان لابد من احتجاج يعري ويسلخ جسد الخيبة والضياع والتيه عبر الجرأة في الطرح، وكثيراً ما ذكرت من خلال مناسبات عدة أن المسرح أن خلا من الاحتجاج انتفت حاجته خصوصاً في الدول النامية، لذلك لابد من مسرح يعري ويكشف من ينتج الخراب الذي يؤسس لمدن الديستوبيا، ومحاكمة هذه الخطابات بطرح صادم يوازي حجم الفجيعة التي نعيشها.
ماذا اردت ان تقول ؟
بوصفي جثة كل حقوقها مصادرة وأبسطها وهو التعبير بصوت عال، لابد من الحلم وأن كان وسط الضجيج، إن تسكت على جرائم بشعة بحق الإنسانية تحت ذرائع عدة هذا بحد ذاته خيانه للوطن وللإنسان كونه المحور الكوني لك ما يحدث، لابد أن نحتج بطرق حضارية وأن نتخذ من المعرفة والجمال مسلكاً لنا في قول، وقمية ما نقوله هو ما لا يستطيع الاخرون قوله، لابد أن نصرخ وبصوت عال أننا لسنا جثث، لابد من حياة أجمل بما تليق بالإنسان وكرامته مثلما كرمه الله عزوجل، هذا النص وكل النصوص التي أكتبها هي دعوة للاحتجاج على الراهن والمتغير أو الماضي وحتى التراث ممن يشكل ويساهم في بناء الخراب ليؤسس لفجائع لا حصر لها، ويكون دورنا في ذلك
تعليق