كنت أظنه معانداً، يسألني وأنا أعرف نوعية هذه الأسئلة، وطبيعة الاستقبال والاستجابة، فهناك الكثير من الاسئلة تطرح لتثير جدلا، هو يسألني عن معنى المعصومة؟
قلت: هي شهيدة علوية شابة، قتلت وعمرها 28 سنة في 201 هجرية في مدينة قم المقدسة، فتحت عينها على الحياة، فرأت أباها سجيناً يلاقي صنوف التعذيب والإرهاب من الدولة العباسية.. قال: أريد أن أعرف معنى المعصومة؟
أجبته:ـ أولاً.. عليك أن تعرف اهمية الاسم أو اللقب عند مدرسة اهل البيت(عليهم السلام)، حيث له عناية خاصة، المعروف انها وضعت للتعامل وهي موجبة للتمييز، وأضافت رعاية الجوانب النفسانية والأخلاقية، فحثت على اطلاق الاسم الحسن.
ثانياً: عليك أن تعرف أن اسمها فاطمة، وهذا الاسم له شأن كبير عندنا الشيعة، فله تذكير وايحاءات قداسة مجروحة متأثرة بمجريات ما حصل لسيدة نساء العالمين، ولقبت بالمعصومة، وهو اسم يقترن بها دون غيرها، وتدل على بلوغ الكمال والنزاهة والفضل مرتبة شامخة والعصمة تعني الحفظ والوقاية.
والمعصوم هو الممتنع عن جميع محارم الله تعالى وهي ذات مراتب.
سألني حينها: كيف هي المراتب؟
قلت: مراتب العصمة تتفاوت فيها القابليات والاستعدادات من شخص لآخر كعصمة السيدة زينب(عليها السلام)، وأبي الفضل العباس(عليه السلام)، وأما عصمة الانبياء والأئمة(عليهم السلام)، فهي من أرقى درجات العصمة، ومع هذا فلفاطمة المعصومة(عليها السلام) الكثير من الألقاب مثل: الطاهرة، الرشيدة، التقية، النقية أخت الرضا...
القضية ليست في ثبوت هذه الاسماء والألقاب، بل القضية بما تتضمنه من معان ودلالات على هذه السيدة الجليلة. ولقب المعصومة اساسا هو من المعصومية دلالة على مقامها الرفيع الذي بلغته السيدة فاطمة(عليها السلام).
كان صمته يثير فيّ الكثير من القلق؛ لكونه ايضا يمتلك موروثات مؤثرة على قناعات قداسته.. أين هو الآن؟
قلت: أرى صمتك طال يا صاحبي..! قال بهدوء مصحوباً بحرقة شجن:ـ عرفني بها ارجوك.. هذا السؤال غيّر عندي الموازيين كلها، وبدأت أشعر بأنه قريب عن منالها. قلت:ـ أخي الغالي، هي ابنة سابع أئمة الشيعة موسى بن جعفر(عليهما السلام)، وأمها تكتم وتسمى نجمة، فتحت عيونها منذ صغرها على وضع سلطوي ارهابي، فقدت والدها وهي في سن الطفولة؛ لأن هارون العباسي أودع أباها عام ولادتها السجن، ثم اغتاله بالسم عام 183، فهي لم تحظ بلقاء أب، وإنما نشأت في كنف اخيها الرضا(عليه السلام).
وفي سنة 200 هجرية، أبعد الرضا(عليه السلام) الى مرو، صرت اسمع نحيبه الذي أشجاه.. يا الهي انه يبكي، سكت قليلا فصاح بي:ـ اكمل ارجوك.
قلت:ـ خرجت خلف الإمام الرضا (عليهم السّلام) سنة 201هـ وخرج معها موكب قوامه اثنان وعشرون شخصاً من الإخوة وأبنائهم والغلمان؛ طلباً لأخيها.. اكتنفت السيّدةَ المعصومة (عليهم السّلام)، ومعها آل أبي طالب، حالةٌ من القلق الشديد على مصير الإمام الرضا (عليهم السّلام)، منذ أن استقدمه المأمون إلى خراسان، لقد كانوا في خوف بعدما أخبرهم أخوها أبو الحسن الرضا (عليهم السّلام)، أنّه سيُستشهد في سفره هذا إلى طوس، خاصّة وأنّ القلوب الكليمة ما تزال تَدمى لمصابهم بالكاظم (عليهم السّلام)، الذي استُقدم إلى عاصمة الحكم بغداد، فلم يخرج من سجونها وطواميرها إلاّ قتيلاً مسموماً، شدّت الرحال، لتقتفي أثر أخيها الرضا (عليهم السّلام)، والأمل يحدوها في لقائه حيّاً.
وكان الناس يستقبلونها ويكرمونها أينما حلّت، وكانت في الطريق تبيّن للناس مظلومية أخيها وغربته، ومعارضته للحكم العباسي.. وفي أثناء ذلك، وحينما وصلت القافلة مدينة (ساوه) توجّه بعض أعداء أهل البيت بصحبة بعض جنود الحكومة، واعترضوا طريق القافلة، وحصلت بينهم معركة استشهد على إثرها جميع رجال القافلة تقريباً، وسقيت السيدة معصومة السم، فمرضت، ولم يمكنها مواصلة السير، فخرج أهل قم لاستقبالها وهي مريضة، فلمّا وصلت استقبلها أشراف قم، وأخذوا الناس زمام ناقتها، ودخلت قم سنة 201 هـ، ثم أناخت الناقة في محل يسمى اليوم (ميدان مير).
بقيت السيدة فاطمة في قم 17 يوماً كانت مشغولة فيها بالعبادة والدعاء في محل يسمى (بيت النور)، ويقع الآن في مدرسة (ستيه).. وأخيراً.. حانت منيّتها في العاشر من ربيع الثاني، (أو الثاني عشر منه على قول) قبل أن تحظى برؤية أخيها.
تُوفّيت(عليها السلام) بالسمّ، في 10 ربيع الثاني 201ﻫ بمدينة قم المقدّسة.
صاح صاحبي وهو يبكي: زدني يا اخي، اين نحن عن هذه الرموز التاريخية الفاعلة اكمل يا صديقي؟
قلت:ـ تم تشييعها في موكب عزاء مهيب بقم؛ حزناً على فقدنها، وحملوها إلى مقبرة (بابلان)، وهو موضع قبرها حالياً.. قال صاحبي:ـ أيعقل أن نترك مثل هذه الرموز ونذهب صوب رموز قلقة.. دعني أقول لك كلمة كنت اسخر منها، واليوم اقولها من صميم القلب: يا صديقي، عظم الله لكم الاجر، وأحسن لكم العزاء، وسلام الله على سيدتي فاطمة المعصوم
تعليق