كانت ماريا تهم بالضغط على زر المصعد الموجود في محل عملها، عندما سقط الهاتف من يدها وسرعان ما اختفى عن ناضريها في تلك الفتحة الصغيرة الموجودة مابين باب المصعد والارض.
حينها أدركت ماريا إنها لم تفقد هاتفها فحسب، بل كانت المحفظة التي تضم إجازة السوق وبطاقة الائتمان وكل حياتها.
اسرعت ماريا نحو موظف الأمن راي، والذي أسعده رؤيتها، لانها من القلة الذين يلقون عليه التحية حين رؤيته، في الواقع كانت ماريا من أولئك الناس الذين يعرفون تاريخ ميلادك وطعامك المفضل، ويوم عطلتك، ليس لأنها غريبة الأطوار بل لأنها فعلا تحب الناس وتحب ان تُشعرهم بانهم مرئيون.
أخبرها راي بان الامر سيكلفها 500$.
رضخت للأمر، ومضى هو لانجاز عمله.
بعد حوالي عشرين دقيقة اتصل بها راي واخبرها أنه لاحظ اقتراب موعد الصيانة السنوية في وثيقة الفحص الدوري للمصعد، لذا سيطلب منهم المجيء اليوم لإجراء اعمال الصيانة، و لن يكلفها استرجاع الهاتف اي شيء!
في ذات اليوم الذي حصل فيه هذا الأمر، قرأتُ مقالة عن سيرة حياة إحدى الشخصيات الإدارية الناجحة في المجتمع، والتر باتنجر، وكان يتحدث عن امتحانه المهني الأخير في الجامعة.
توقع اجتياز الاختبار بتفوق، لكن الأستاذ طرح سؤالا واحدا: " من هو الشخص الذي ينظف هذه الغرفة؟ "
فرسب في الامتحان!!
كان قد رآه لكنه لم يتعرف إليه يوما.
اسمه دوتي. في ذلك اليوم أخذ على نفسه عهدا بأن يتعرف دائما إلى الأشخاص من أمثال دوتي في حياته.
لقد أدرك كلا من والتر وماريا مقدار تلك القوة الكامنة في جعل الناس يشعرون بأنهم موجودون ومرئيون، خاصة إذا كنت قائداً.
عندما عدت إلى العمل استفدت كثيرا من هذه القصص، أذ أنني مسؤلة عن التشكيل الثقافي لحوالي 90000 موظف في 150 بلد.
اكتشفت أن القصص وسيلة رائعة للتواصل مع الناس وجعلهم يفكرون:" مالذي كنت سأفعله لو كنت في هكذا ظرف؟ هل كنت سأتعرف إلى دوتي؟ "أو " من هي ' دوتي' التي احتاج الى التعرف إليها في حياتي ؟ "
إن للقصص صداها وأثرها في العالم بغض النظر عن الجنس او الزمن أو الموقع الجغرافي.
في عملي مع القادة، اكتشفت ايضا إنهم، الى حدما، يتحسسون من رواية القصص، فهم ليسوا واثقين حيال كيفية ايجادها او كيفية سردها!
هم يعتقدون أن عليهم تقديم المعلومات والبيانات ولامجال للقصص على اي حال! وهذه هي النقطة التي ارغب في التركيز عليها اليوم، لان العلاقة مابين القصة و المعلومات ليست "إما- أو" بل هي علاقة "و" التي تخلق انسجاما فعالا يربطك بالمعلومات على نحو مختلف. ولنفهم الأمر يجب علينا أولا أن نفهم مالذي يحصل من الناحية العصبية عندما تصغي الى القصة والمعلومات معا.
مثلا عندما تكون في محاضرة او في اجتماع فسينشط جزئان صغيران في دماغك هما منطقة ويرنك و بروكا(Wernick and Broca's area) هنالك حيث يتم معالجة معلوماتك، ولهذا السبب يحتمل ان 50% من هذه المعلومات قابلة للنسيان!
عندما تصغي الى قصة فإن الدماغ كلهُ سيكون في حالة نشاط. كل فص من الدماغ سيضيء وسيُلهب مشاعرك واحاسيسك. عندما كنت أتحدث عن سقوط الهاتف على الارض ومن ثم اختفاءه في الفتحة ...فإن الفصان الصدغيان والفص القذلي في الدماغ سوف ينتعشان، وكأنك ترى بالفعل حادثة سقوط الهاتف تلك وتسمع صوت ارتطامه بالأرض.
هنالك مصطلح وهو الاقتران العصبي(nerual coupling) وهو يعني ان دماغ المستمع ينشط تماما كنشاط راوي القصة، فهو يعكس هذه الفاعلية وكأن المستمع يعيش تلك الاحداث بالفعل. راوي القصة يمنحك هذه الواقعية المصطنعة.
لو قلت لكم مثلا أني أسير على الثلج وهو يتكسر تحت قدمي ونتف البرَد تتساقط على وجنتيًّ، فان دماغك سوف ينشط وكأنك تسير خلال الثلج وستستشعر هذه الامور بنفسك، لهذا فإنك عندما تشاهد افلام الاكشن ورغم كونك لا تتحرك لكن نبضات قلبك تتسارع ، وكأنك أنت بطل الفلم، لان الاقتران العصبي يشعل دماغك بالحماس و أنت جالس.
اثناء اصغائك للقصة ستتعاطف مع راوي القصة تلقائيا، وكلما زاد شعورالتعاطف لديك زاد إنتاج هرمون الاوكسي توكسين(oxytocin) في دماغك ومعه ستزداد ثقتك بالراوي.
من هنا أصبحت رواية القصة مهارة مهمة جدا بالنسبة للقادة، من حيث أنها ستزيد ثقة الناس بهم .
عندما تصغي للمعلومات فإن أمور مختلفة ستحصل، وهنالك سوء فهم حيال هذا الامر!
المعلومات لا تغير سلوكنا، العواطف تفعل ذلك.
لو كانت المعلومات تغير سلوكنا لكنا ننام ثمان ساعات ونمارس التمارين الرياضية يوميا ونشرب ثمان أقداح من الماء! لكن هذا ليس ما نفعله في الواقع.
علماء الأعصاب درسوا صناعة القرار وقالوا أنه يبدأ من اللوزة (amygdala)وهي مركز العواطف في دماغنا حيث نتمكن من خلالها من الشعور بأحاسيس مختلفة. وهنا تحديدا في مرحلة اللاوعي نبدأ باتخاذ القرار وتحديد الخيارات سعيا وراء المتعة، أو لتجنب المخاطرة.
يحدث كل هذا في مرحلة اللاوعي. وفي مرحلة الوعي نبدأ بالعقلنة والتفكير المنطقي، ولهذا السبب نعتقد بأننا نتخذ قرارات عقلائية، من دون أن ندرك باننا قد إتخذناها مسبقا في مكان آخر !
انطونيوا داميسيوا خبير في مجال الاعصاب، بدأ بدراسة المرضى الذين يعانون من اصابة في منطقة اللوزة(amygdala)
جميع وظائفهم الفسلجية والحيوية سليمة، باستثناء أنهم لا يمتلكون مشاعر وبالتالي لايستطيعون اتخاذ القرارات
حتى وإن كان قرارا بمنتهى البساطة مثلا: أي طريق اسلك؟ جانب اليمين او جانب الشمال؟
لقد كانوا أناسا ناجحين في حياتهم ، لكنهم ألان لم يعد بمقدورهم إكمال أعمالهم، لأنهم عاجزين عن اتخاذ أي قرار لفقدانهم الشعور العاطفي.
مفهوم خاطئ آخر متعلق بالمعلومات، المعلومات لا تعبر عن نفسها، أدمغتنا تميل وبشدة نحو التوقع وعندها سنقع في مصيدة فهم كل ما نسمعه أو نراه بالاعتماد على ما نملكه من معارف وخبرات، إضافة إلى التحيز الشخصي، وبالتالي سيكون فهمي للمعلومات مختلف عن فهم الآخرين لان كل واحد منا اعتمد تفسيره الشخصي، إلا اذا كان هناك موجّه يحدد للمتلقين مسار فهم موحد.
بالطبع أنا لا أدعي أن المعلومات سيئة والقصص جيدة فكلاهما يلعب دورا محوريا، ولنفهم كيف، ينبغي أن نعرف ما الذي يصنع قصة عظيمة ؟
القصة الجيدة تجيب على ثلاث اسئلة أساسية:-
اولا اين تجري أحداث القصة ومن هم ابطالها، ولماذا يحب أن اهتم بها؟
ثانيا ماهي ذروة القصة، حيث يتغير كل شيء؟
ثالثا ما هي المحصلة؟ وبما تختلف عن الأخريات؟ وما هو المخرج أو الحل المطروح ضمن سياقات القصة؟
القصة الجيدة تمتلك أيضا ثلاث خصائص:-
١/ إنها تثير حماسة المتلقي وتشد انتباهه، لان أدمغتنا تحب التوقع، فأن القصة الجيدة تشد انتباهك بجعلك تتساءل مثلا: الى أين تريد أن تصل بفعلها هذا؟! مالذي سيحصل؟
القصة الجيدة تبقيك منجذبا الى تفاصيلها عبر الأحداث المفاجئة، وهي تفعل ذلك مرارا وتكرارا باستمرار خلال أحداث القصة
٢/القصة الجيدة تبني الأفكار، إنها تساعدك على رؤية أشياء لم يعد بوسعك تجاهلها، مما يجعلك تتغير، وهذا ماتفعله القصة تماما، إنها تدفعك نحو التتغير!
٣/القصة الجيدة تمتلك مهارة ايصال القيم الى المتلقي.
اجرت جامعة ستانفورد في كاليفورنيا بحثا حول الطريقة المثلى لتشكيل الثقافة التنظيمية والنتيجة هي 'رواية القصص' لانها ستبرهن وتثبت ما يقيمه المتلقي ويشجع عليه او ما يبخسه ويحذر منه.
معظم الناس عندما يريدون إيصال فكرة معينة فإنهم يبدأون بالمعلومات ويرغبون في ترسيخها، لاننا غالبا ما نمتلك أكوام من البيانات والمعلومات، لكن هنالك خطأ شائع نرتكبه عندما نقوم بذلك.
كنت أعمل مع أحد المدراء التنفيذيين، إذ طلبت مني مساعدتها للتحضير للاجتماع السنوي العام للشركة، ولديها 45 شريحة بيانات ويجب عرضها خلال 45 دقيقة !
وصفة مدهشة لحديث ممل قابل النسيان. وهذا ما يفعله معظم الناس، فهم يأتون مسلحين بهذا الكم الهائل من المعلومات ويحاولون أن يشقوا طريقهم خلالها، من دون أن يكون لديهم فكرة عامة عما هو مطلوب وبالتالي سيتيهون.
وضعت البيانات جانبا وطرحت عليها سؤال واحد، "ما هي المشكلة التي ترغبون في حلها؟ ماهو الشيء المطلوب تغييره في افكار الناس وفي سلوكهم ؟"
هذه هي نقطة البداية التي تجمع مابين المعلومات والقصة، ستخلص بالتالي الى صيغة عامة تحدد مسار الاثنين معا.
بالنسبة لها هي تريد لشركتها أن تكون قادرة على الدخول الى الأسواق الجديدة، وأن تبقى منافسة .
هذه إحدى خياراتكم..هل ستكون القصة حول المعلومات
بحد ذاتها، أم ستكون قصتكم على مسار مواز بحيث تستلون منها نقاط تعزز تلك المعلومات. عندما تبدأون بصناعة مزيج متجانس من القصة والمعلومات، فإنكم ستعتمدونه ولوقت طويل لإنكم ستلمسون تأثيره
لن يكون أمام المتلقي سبب لتجاهل المعلومات عندما تجعله يرى ما يجب أن يراه، وهذا هو السحر الكامن في هذا المزيج.
عندما تحاولون تشكيل أفكار وسلوكيات الناس بوصفكم قادة لا تقتصروا على المعلومات، وظفوا القصص، ولا تبحثوا عن قصة عظيمة بل إجعلوا قصتكم عظيمة .
كل