خرج الشاعر التسعيني بحصيلة أكثر من جيل شعري سبقه بالتجربة، اكثر من رؤية، وقد تميزت هذه الحقبة بنصوص شعرية واجهت حصاراً, وتمردت على شعرية التعبئة والمناسباتية، وصارت تمثل هويتها الانسانية، فكان الشعر يعني قيادة ثورة روحية حضارية، تعتمد على توسيع رقعة الخيال، وغزارة الوجدان والحدث الشعري المعتمد على كسر عقلانية الجملة.
وكان الشاعر يبحث عن رؤيته الشعرية المتمثلة بالحضارة، يبحث عن صوته، عن حياته، لذلك التزم التغريبية كنوع من انواع ردة فعل الشاعر، وتمويهيا يبعد سلطة الرقيب عنه، وهذا التمويه بطبيعته يشكل، صعوبة بالتوصيل الشمولي، ويحدد نوعية التلقي النخبوي، فكان الشعر الهوية التي تمثل انسانية الشاعر ووطنيته، ولرفض كل اشكال السلطوية، وتجار الحروب وقاتلي الشعوب.
لكن تبقى المشكلة ومنها تنطلق ازمة الشعر، البحث عن المضمونية التي تحمل طابع المواجهة، طابع الرفض لابد ان تكون شمولية ذات شيوع لتؤثر داخل مجتمعها.. اعتقد ان المواجهة كانت حامية بين مثقفي المزادات السياسية، وبين ابناء المواجهة الفاعلة، لذلك كان المرور السليم يحتاج الى اتقان، الى العمل في تراكيب الكلمات داخل النص الشعري الى اختيار مضامين فلسفية فكرية، وهذا سيصعب دور التلقي، ومع هذا كان من حظ الشعراء ان الشعب يعرف هذه الحقائق وهو متلقٍ جريء، قادر ان يتنفس في اجواء التحدي النغمية والانزياحات استطاعت على خلق تعددية تأويلية بمثابة متنفس للتلقي الخاص والعام.
ومع وجود التجييل الشعري، كان لا احد من الشعراء يبوب منجزه الشعري تحت امرة التجييل او خلق خصوصية تمثيل لحدث ما، او لواقع ما، بل كان الشعر تعبيرا عن الاحاسيس سوى بنظرته المألوفة أو بنظرته الحداثوية التي تجاوزت التفسير العقلاني الى رحاب اللغة الشعرية المعبرة عن قوى النظائر.
لم أكن ارغب في تصديق دعابة رفض المعنى عشقت الاحالة وتغريبية الفعل الشعري من اجل خلق معادلات تحفز القراءة النشيطة والتلقي الفاعل، ومن اجل ان تربك رموز الثقافة السلطوية، فهذه اللغة الانزياحية كانت تجسد وعيا يعبر عن الواقع المرتبك، علاقة الشعر بالمجتمع وحتى بالتراث هو مسعى اسلوبي شكل واقعا في الشعر التسعيني.
اللغة التفجيرية هي لغة متعالقة مع بنية الرؤى المتنوعة مع التعالق بالبنى السردية وامتلاكها للحوارية والبناء الدرامي، والمفردات الاسطورية واستخدام المشاع، كذلك الاستخدامات القرآنية والارتكاز على النسيج الصوتي والصور الاستعارية ذات السعة والتنوع، فهذا يمنح الشعرية اتساع وعمق حرية.
مهما اتهمت تلك الشعرية بالعزلة، فهي تمثل صوت الجرأة، ومهما قالوا عن عزلة القصيدة، فهي موجودة ومعبرة عن صدق احاسيس تلك المرحلة، وفاقت على نظيرتها الموزونة والمقفاة بأنها انتمت الى الحياة وليس الى السلطة.
والتراث الاسلامي موجود في جميع صيغ التعبير الحداثوي التسعيني؛ لكون ابطال ذلك التراث يشكلون العصب الفاعل للرفض، وباحتواء هذه الرموز الفاعلة يشكل قوة وفن واقع الحياة والثقافة، ويزيد النص قوة ومتانة وجرأة ويزيدها وعيا إدراكيا وانتماء الى هويتها الفكرية، ومن خلالها يمكن معاينة الاشياء وفرز المنتمي منها وإلا هذا الخلط العجيب في تركيز كل شيء، يؤدي بالتأكيد الى تهميش الواقع وتهميش دور الشعر، والشخصيات التي تستحق ان تمثل رمزاً أو قناعاً أو معادلاً موضوعياً أو منهلاً هي الشخصيات التي تنبض بالحياة، تنبض بالحراك الانساني، وبالعطاء الذي لا يشيخ.. والاهم انه يمتلك التأثير الاسمى بالحث على التكامل الانساني، وهذا النوع يكشف عن ثقافة الشاعر ورؤاه ويعرب عن حضوره.
هناك رموز دينية ورموز ادبية ورموز فكرية ووطنية، وهناك توجهات تتواءم مع المستوى الدلالي المعبر عن تلك الشخصيات.. هناك شعور بالحاجة لضمان التمثيل الابهى لرموز التاريخ، وتقبل الناس لهذا النموذج أو ذاك، وخصوصية هذا التمثيل وفاعليته، مسائل كثير تعود للادوات الاجرائية ومنها اختيار بما يناسب الموضوع بالمعروض للناس، وإضفاء الروح على تلك المقاربة.
البعض من الشعراء تشدق بالانفصال عن الموروث، والموروث اكبر منهم، ومما يتوالد من الفراغ.. المشروع الابداعي هو مشروع تواصلي، ولا يمكن لأحد يبدأ من اللاشيء هذا هو الوهم الذي عاشه البعض، الابداع تواصلي عن قضية استلام حيثيات المنجز تتبع ثقافات كل جيل، كل فرد من المجتمع كيف يقرأ هذا الموروث، وكيف يستقي منه، والموروث اسس لجوهر زمان غير هذا الزمان، لقابليات وثقافات اختلفت عن ابناء هذا الجيل، فلابد من تغيير جذري عند التحول لبيئة مختلفة، هذا التنظير يراه البعض انفصالا، الجو الشعري المعاصر هو نفسه يحتضن التواريخ، والقضية كيف يقدر هذا المتبلور الشعري ان يخلد نتاجا هو يتهمه بالنكوص، بينما الموروث له مرتكزاته ومناهجه ومقارباته.
الموروث هو نفسه قادر على الانصهار في بوتقة كل جيل، والخوف من ان يصبح ذلك الانفصال موروثا، كيف يتم تحديد الشيوع، والإمام علي(عليه السلام) له شيوع تاريخي ومساحة كبيرة في ذاكرة الكون، ولهذا ان الشيوع معاصرة.. جيل الحرب كان يختار رموزا تختلف عن رموز جيل الحصار، وجيل السياسة.. المنتفضون، الثائرون، كل له جيل، فكل رمز له خاصية، وهناك خطاب شعري يتفنن في ايجاد رموزه لقوة الموائمة.
كان عصب الابداع هو الحسين(عليه السلام)، الشعراء الحقيقيون مدججون بالحسين؛ لأنه هو النص، وهو الواقع، وإليه الاحالة، ومنه يستمدون قدرة الاضاءة، النص الحسيني نص مدرك، وأهم خصائصه ان له التلقي الشمولي والنص المنتمي للمستويات الدلالية، وله رؤية ثورية، فمن يحمله رمزا انسانيا في حياته كيف سيحمل هذا الرمز المبارك كشاعر؟ الطف المبارك عالم كبير مفتوح المساحة قوي التأثير، يقدم لنا منهلاً يانعا، ونستطيع في الشعر ان نكون مع الحسين(عليه السلام) قلباً وروحاً..
تناولت قصيدة النثر التركيبات الشعرية التي رسمت عوالم شعرية صارخة، لكن في المسرح الشعري استطاع الشاعر ان يشتغل على مواضيع كاملة، وليس تراكيب جملية. وقد تضمن السعي الكثير من النتائج المهمة في حياته، ويعتز بما تحقق ومؤمن بما سيتحقق، فهو يعمل دون ان يشخص الكثير من سمات عمله، ويترك ذلك للنقاد لتأشير نقاط الافادة، فربما يقلد الشاعر بعض التجارب في مشواره الاول، لكن حين يستقيم له العود الشعري، يدرك معنى ان يبدع في فكرة أو ومضة حسينية، يعني ان يقدم جديدا في كتابة قائمة منذ قرون، مشروع القصيدة الحسينية، تشمخ بالمبدعين.
هناك قبول نفسي عالٍ، يشعر الشاعر بارتياح ضميري، لكن أيام الانظمة البائدة كان الشاعر يخشى من التأويلية التي تعني حياته، اليوم انتقلنا من الهاجس الامني الى الهاجس الفني، آلاف الشعراء اليوم يكتبون قصيدة النثر دون الوقوف عند اي معيار فني، سهولة النشر ووجود وسائل الاتصال خفض الاداء الفني، ضاعت الموازيين، ادعاءات ثرية وفقر منجز لبس لبوس الخاطرة.
الموانع الان موانع فنية، واستفحال القصيدة المناسباتية ذات الجرس الخطابي، أهدرت دم قصيدة النثر، حتى صار الكثير من الشعراء يسحب اعترافه عن قصيدة النثر جهاراً.. لا فرق بين الحسين(عليه السلام) وسماته، استخدام الرمز الحسيني في قصائد النثر ليس لأغراض المديح والاحتفاء، وانما لموضوع الحسين(عليه السلام) مسارات تأثيرية كبيرة، وله حضور ضميري اوسع، ويستطيع كرمز انساني ان يلبي كل احتياجات الاستشهاد، سوى ان كان شعريا او للعبة القناع، او ربما تمويهي أو صريح. الكثير من الشعراء ماتوا ولم يدركوا اهميتهم الشعرية، وهذا يبقى رهين ما سيقرأه المستقبل، وما يراه في شعريته.
والنشاط الانطباعي بدأ يهتم بالكشف عن تجارب شعرية لم يسلط عليها الضوء، وأسماء شعراء لم يأخذوا نصيبهم الطبيعي من النقد.. تتحكم اسلوبية الشاعر وفهمه الادراكي لمهمة الشعر، هناك البعض يعشق الغموض؛ باعتباره فنياً يصبح جزءا لا يتجزأ من القصيدة، لكن التغريب والرمزية والتشفير وسائل توصيلية جمالية، لكنها غير سهلة التفسير، تفتح باب التأويلية، لذلك، تصبح مهمة الشاعر في البحث عن فرادته. قصيدة النثر منحت نفسها فرصة تأمل كبيرة، والدخول بمماحكات اللغة، وجمالية تخلق نوعاً من القطيعة بينها وبين شمولية المجتمع، رغم انه يحاول التعبير عنها.
يرى معظم النقاد ان القصيدة النثر هي ابنة عهود الانكسار والهزيمة، ولذلك ما عاد ليفهم النمط الكلاسيكي، قصيدة والنثر سلكت طرقا فوضوية في نظامها التركيبي والصوتي، وهذه الفوضوية قد يسميها حرية الارتقاء راحوا يعوضون هذه الفوضوية بالضغط والتكثيف والتركيز على الايحائية.. الكثير من الشعراء يؤمنون بأن قصيدة النثر تأملية، وليست للحفظ أو الانشاد، فلذلك ضعف تأثيرها حسب ما يراه معظم النقاد