مقدّمة
حين يستقرئ الناظر في أُفق التأريخ حراك الأُمم والشعوب بعين الناقد البصير، سيكتشف من آثارها مدى الاهتمام البالغ برمزية معتقداتهم، وبتقديس شعائرهم، سواء أكانوا قد اعتنقوا أدياناً سماوية أم تبنّوا أفكاراً مادّية وأُسطورية، وتلك الحقيقة التأريخية هي الحاضرة باستمرار؛ إذ يعتمدها مريدو أغلب نظريات الحداثة المادّية وما بعدها، وأهمّها العلمانية، فضلاً عن الأُصولي المتديِّن؛ لأنّ أهمّ أسباب ديمومة أفكار الأُمم وخلودها هو تقديس رموزها والدفاع عنها.
إنّ النظرية الإسلامية يرتكز بناؤها نظريّاً على محورين، أحدهما متمّم للآخر: فالأوّل يهتمّ بالكمال العلمي والفكري، والآخر يعتني بجهة الكمال الروحي الضامن للخلود الأبدي.
وأمّا الارتكاز العملي في دائرة الدين الإسلامي، فيعتمد في ديمومته على ركنين يكمّل أحدهما الآخر، وهما: الالتزام بالقرآن الكريم، ذلك الكتاب الصامت، والآخر هو اتّباع العترة الطاهرة، وهي الكتاب الناطق بالحقّ إلى يوم القيامة. فأمّا القرآن فقد أُحرز خلوده بإعجازه وانتسابه إلى الله تعالى، سواء على مستوى البيان والفصاحة، أم على غير ذلك من وجوه الإعجاز الأُخرى، وأمّا في مقام الدلالة فلا بدّ له من مفسِّر لآياته ومبيِّن لأحكامه، وهنا يأتي دور النبيّ(صلى الله عليه واله) وأهل بيته(عليهم السلام)، فهم عِدله، قد اختارهم الله تعالى بحكمته، بعد أن شرط عليهم الزهد في الدنيا وزُخرفها، وتحقّق الوفاء منهم بأداء هذه الرسالة الكبرى على أتمّ وجه.
إنّ من أولويات مهامّ النبوّة هو التأكيد على كلّ ما يُفضي إلى توحيد الله(عز وجل)، والحثّ على ذلك، وفي مقابل ذلك التفنيد لكلّ ما يؤدّي إلى الشرك، والنهي عنه، فقد عمد النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) إلى تحطيم الأصنام يوم فتح مكّة، والنهي عن زيارة قبور المشركين، بعد أن أعرض(صلى الله عليه واله) عن القصاص من زعماء قريش، فهذا خيرُ دالٍّ على أهمّية تلك الرموز في نفوس المشركين، ومقدار تأثيرها في ضلالهم عاجلاً وآجلاً، وفي المقابل ورد الحثّ على زيارة قبور المسلمين والتبرّك بالحجر الأسعد، فالفارق بين التعبّد بحجر الصنم وبين التبرّك بالحجر الأسعد، هو أنّ الأوّل من روح الشيطان ووسوسته، أمّا الآخر فمن وحي الله تعالى وأمره؛ لذا كان الرمز الأوّل يدلّ على الشرك، وكان الرمز الثاني يدلّ على التوحيد.
وقد ترتفع دلالة التوحيد درجة إن كان الدالّ عليه هو جسد وليٍّ اصطفاه الله تعالى لحمل أمانة وحيه، بعد أن اصطنعه لنفسه، حتّى صار مزيجاً من روحٍ قدسية، ونفسٍ زكيّة، مع جسدٍ طاهر، وبينهما علقة خفيّة، ورابطة قويّة، تختلف عمّا سواها من الأجسام البشرية.
لقد أوْلى الإسلام الجانب الروحي عنايةً خاصّة تفوق عنايته بالجانب المادّي، فالبدن محدود القدرة ضمن نطاق (الزمكانية)، أمّا الروح فطاقة حيوية متجدّدة عبر الأجيال، قد اخترقت أسوار المحدودية وكسبت سرّ خلود المبادئ الدينية، وحكمة تشريعاتها؛ ومن هذا المنطلق فقد أضفى الإسلام قدسية على رموزه وشعاراته، وحثّ مريديه على استلهام الدروس والعبر من تلكم الدوال، وأهمّ مصداق لها مراقد الأولياء والصالحين والشهداء، فهم الأحياء بحياة الروح الزاكية، ولهم حقّ الوفاء، وجميل الثناء.
مما تقدّم يمكن أن يقدّم الكاتب جملة التجلّيات العقدية من زيارة مرقد الإمام الحسين(عليه السلام) خاصّة كأُنموذجٍ لأهمّ الزيارات التي حثّ عليها الشرع الحنيف، وجعلها محطّ رحال أفئدة المؤمنين، فقد جاء مخطّط هذا المبحث مبتدِئاً بالتمهيد لبيان مفاهيم العنوان، وأهمّية الزيارة، مع الاستدلال على استحبابها، ثمّ الحديث بعد ذلك عن أهمّ التجلّيات العقدية من تلك النصوص الشرعية في ثلاثة مطالب، وهي التوحيد، والنبوّة مع لازمها الخلافة، ثمّ المعاد، معتمدين في دراستنا هذه على أهمّ نصوص الزيارات المعتبرة والمشهورة. هذا، ونسأله تعالى التوفيق والسداد إنّه نعم المولى ونعم النصير.
تمهيد
أوّلاً: بيان معاني مفردات الموضوع
معنى التجلّي: وردت معاني غزيرة ومتعدّدة للفظ (جلا)، سأذكر منها ما يخصُّ البحث كما وردت في لسان العرب، فقد قال ابن منظور: «والجَلاء (ممدود): الأَمر البَيِّنُ الواضح. والجَلاءُ (بالفتح والمدِّ): الأَمرُ الجَليُّ، وتقول منه: جَلا لي الخبرُ، أَي: وَضَح... ويقال: أَخْبرني عن جَلِيَّةِ الأَمر، أَي: حقيقته... والجَلِيَّة: الخبر اليقين... والجَلِيَّة: البَصِيرة... وجَلَوْت، أَي: أَوضحت وكشَفْتُ، وجَلَّى الشيءَ، أَي: كشفه»[1].
معنى الزيارة: قال الطريحي: «زاره يزوره زيارة: قصده، فهو زائر وزور وزوّار، مثل سافر وسفر وسفّار»[2]، وورد أنّ «زيارة الله تعالى زيارة أنبيائه وحججه(صلى الله عليه واله)، مَن زارهم فقد زار عرش الله(عز وجل).وفي الدعاء اللّهمّ اجعلني من زوّارك»[3]، أيّ: من القاصدين لك الملتجئين إليك.
من خلال ما تقدّم نحصل على خلاصة مفادها: ظهور حقيقة أُصول الدين وانكشافها من آثار مضمون وطقوس مقاصد المؤمنين لمرقد سيّد الشهداء(عليه السلام).
ثانياً: أهمّية الزيارة وشرعيّتها
تكمن أهمّية الزيارة للأماكن المقدّسة ومراقد المعصومين والأولياء(عليهم السلام) في دلالتها وآثارها؛ فللزيارة أقسام كثيرة، لكلّ واحدة منها فوائد خاصّة، منها زيارة بيت الله الحرام التي تنطوي على فلسفة وآداب خاصّة ذُكرت مفصّلاً في المصادر الفقهية؛ ولا شكّ في أنّ لزيارة قبور المؤمنين ثمرات ذات اتجاهين: منها ما يعود إلى الزائر، ومنها ما يرجع إلى المزور، فبالإضافة إلى الثواب المترتِّب على زيارة المؤمن فإنّ الروايات أكّدت أنّ صاحب القبر يفرح بزيارة قبره، وأنّ هذه الزيارة تترتّب عليها أيضاً فوائد مهمّة أُخرى للمؤمنين، هي: تذكّر الموت، والعبرة، والاستعداد لإصلاح النفس وتهذيبها، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «زوروا موتاكم؛ فإنّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أُمّه بما يدعو لهما»[4]. وفي الحديث الذي روته صحاح العامّة ومصادرهم عن أبي مويهبة مولى رسول اللهﷺ قال: «أُمر رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أن يصلِّي على أهل البقيع، فصلّى عليهم رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ليلةً ثلاث مرّات، فلمّا كانت ليلة الثانية، قال: يا أبا مويهبة، أسرج لي دابتي. قال: فركب فمشيت حتّى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة، ووقف عليهم أو قال: قام عليهم، فقال: ليهنئكم ما أنتم فيه ممّا فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل يركب بعضها بعضاً، الآخرة أشدّ من الأُولى...»[5]، وهذا دليل يُلزِم أتباع مدرسة الحديث والسلفية السماح بزيارة قبور الأولياء والصالحين وإعمارها، لا العكس كما نراه في زماننا، فالموثِّق لهذا الحديث ومصحِّحه هو من كبار علماء مذهب السلفية.
إنّ النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) هم المصداق الأمثل للإنسان الكامل، وإنّهم أحبّ الخلق إلى الله تعالى؛ لِما اتّسموا به من صفات الكمال تقوى وورعاً وعلماً، وقد عصمهم الله من الذنوب ظاهراً وباطناً، وأمر تعالى بحبّهم وولائهم، وإنّ مَن حاربهم فقد حارب الله تعالى، فلا يصل الإنسان إلى مقام القرب الإلهي إلّا بمحبّتهم وقبول ولايتهم.
إنّ الفضل المترتِّب على زيارتهم(عليهم السلام) واضح العلّة؛ باعتبارها تمثّل أفضل الطرق للتواصل مع أئمّة الهدى المعصومين(عليهم السلام)، ممّا يوجب فلاح الإنسان، وترسيخ الجانب المعنوي في شخصيته، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه الزيارة من الحظوة بكرامة الأئمّة(عليهم السلام)، وتعزيز الآصرة القلبية بين الزائر والإمام المعصوم(عليه السلام)؛ تجديداً للعهد باستمرار المسيرة الروحية التي يتحرّك فيها المؤمن استلهاماً منهم، وتأسّياً بهم(عليهم السلام).
ومن الآثار المترتِّبة أيضاً على زيارة مراقدهم(عليهم السلام) الشريفة غفران الذنوب، والفوز بشفاعتهم، وإنجاح طلبات الزائرين، وسأحاول هنا الإشارة إلى نماذج من الروايات التي تُشير إلى ثمار الزيارة وما يترتّب عليها:
فقد رُوي عن رسول الله(صلى الله عليه واله) أنّه قال: «مَن زارني إلى المدينة كنتُ له شهيداً وشفيعاً»[6].
ورُوي أيضاً: «مَن زارني بعد وفاتي وسلَّم عليَّ رددت(عليه السلام) عشراً، وزاره عشرة من الملائكة، كلّهم يسلِّمون عليه...»[7].
كما أكّد النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) شرعية الزيارة عمليّاً، فقد نُقِلَ خبرٌ مفاده: «أنّ رسول الله(صلى الله عليه واله) حين انصرف من معركة أُحد مرَّ على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريفة، فوقف عليه(صلى الله عليه واله)، ودعا له، ثمّ قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[8]، ثمّ قال رسول(صلى الله عليه واله): أشهد أنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده، لا يُسلِّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه»[9]. وعلَّق الحاكم النيسابوري على هذا الحديث بأنّه صحيح على شرط الشيخين (البخاري، ومسلم)، ولكن لم يخرجاه[10]. وما إعراض الشيخين عن إخراج الحديث وغيره من المرويّات الدالة على استحباب الزيارة إلّا لأسباب سياسية عملت عليها الدولة الأُمويّة؛ لغرض إنكار فضل الشهداء، وتقليل شأن الرموز الإسلامية.
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ زار قبرَ الحسين(عليه السلام) لله وفي الله أعْتَقَهُ من النار، وآمنهُ يومَ الفزع الأكبر، ولم يسأل الله حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة إلّا أعطاهُ»[11].
هذا غيض من فيض المتواترات والروايات المستفيضة والمعتبرة الكثيرة في تأكيد شرعية زيارة المعصومين(عليهم السلام) والأولياء والصالحين، ذكرتها المصادر الحديثيّة، وأشبعها العلماء بحثاً وتحقيقاً.
وممّا تقدّم يمكن استنتاج أهمّ ثمرات الزيارة وآثارها، مرتبةً في نقاط عديدة، منها ما يلي:
تنامي معارف الزائر وعلومه الدينية من خلال المفاهيم والقيم التي تنطوي عليها نصوص الزيارات.
معرفة مقام الأئمّة(عليهم السلام)، وتحكيم آصرة الولاء بين الزائر والأولياء الربّانيين.
اختيار النموذج الأمثل لمقام قيادة المجتمع.
توفير الأرضية المناسبة لاجتناب المعاصي واقتراف الذنوب، وكسب محاسن الأخلاق.
تعزيز روحية العمل الجمعي، وصيانة هوية التشيّع من الضياع، ومواصلة التعايش مع ثورات الأئمّة وتحرّكاتهم السياسية والاجتماعية.
إشاعة روح الثورة، وتعزيز الشجاعة والفداء في الوسط الاجتماعي، وبثّ روح المطالبة بالحقّ والعدل والتأكيد على إحقاق حقوق الجماهير كأهمّ شعار يرفعه الشيعة.
تقوية روح التصدّي للظالمين، وفضح جرائمهم التي وقعت على مرّ التاريخ بحقّ المسلمين أئمّة ورعايا، وجعل المجتمع يعيش أمل الحكومة النموذجية، ويُمهِّد لتحقّقها على يد المنقذ الحجّة بن الحسن العسكري(عجل الله فرجه الشريف).
تلك الثمار هي بعض ما يظهر من الآثار المعنوية والاجتماعية لدى المتأمِّل في أهمّية الزيارة وفوائدها، وما يخفى من الأُمور المعنوية والأُخروية أكثر، قد لا يتسنّى لنا إدراكه، والله أعلم بأسرار أوليائه وشريعته.
لقد أولى علماء الإمامية تحقيق نصوص الزيارات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) اهتماماً بالغاً، ووثّقوها في كتبهم، من قبيل (كامل الزيارات) لابن قولويه القمّي، هذا الكتاب الذي يُعدّ من أهمّ الكتب المصنّفة في هذا المجال، ومنها أيضاً: كتاب (المزار) للشيخ المفيد، و(مصباح المتهجّد) للشيخ الطوسي، و(مهج الدعوات) للسيّد ابن طاووس، و(المزار الكبير) للشيخ محمد بن جعفر المشهدي، و(تحفة الزائر) للعلّامة المجلسي، وكتاب (مفاتيح الجنان) المشهور للشيخ عباس القمّي.
وعلى الرغم من الأُصول التأريخية المتينة لشعيرة الزيارة في الفكر الإسلامي عامّة، والشيعي خاصّة، إلّا أنّ هناك طائفة ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري تُعرف بالوهابية، رفعت راية المخالفة والرفض لزيارة المراقد المقدّسة وقبور الصالحين، بل وهدمها، بدعوى أنّها من مظاهر الشرك وعبادة الأصنام، وهذا ما لا ينسجم مع السنّة النبوية وسيرتها، مثيرين بذلك الكثير من الشكوك والاستفهامات، فتصدّى للإجابة عنها علماء الفريقين من الشيعة والسنّة بإثبات رجحان الزيارة وشرعيتها.
والملاحِظ لنصوص الزيارات التي وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) يجدّها تتضمّن كمّاً هائلاً من المعارف الإسلامية والعقائدية، وقد اشتهرت من بين تلك الزيارات، بسبب اعتبار أسانيدها وعمق محتواها مجموعة من الزيارات كزيارة (عاشوراء)، وزيارة (الجامعة الكبيرة)، وزيارة (أمين الله)، بالإضافة إلى زيارة (وارث) المشهورة.
تنقسم الزيارات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) إلى طائفتين، هما: الأُولى الزيارات الخاصّة ببعض المعصومين، والثانية الزيارات المشتركة التي يصحّ زيارة أكثر من معصوم بها. وسأعتمد في هذه المقالة على جميع الزيارات المخصوصة بالإمام الحسين(عليه السلام)، بالإضافة إلى بعض الزيارات المشتركة التي يُزار بها جميع المعصومين(عليهم السلام) كما ذُكِرَ أعلاه، وأستنطق مضامينها؛ لمعرفة أهمّ التجلّيات العقدية من تلك الكلمات النورانية، وهي كما يلي بالترتيب.
حين يستقرئ الناظر في أُفق التأريخ حراك الأُمم والشعوب بعين الناقد البصير، سيكتشف من آثارها مدى الاهتمام البالغ برمزية معتقداتهم، وبتقديس شعائرهم، سواء أكانوا قد اعتنقوا أدياناً سماوية أم تبنّوا أفكاراً مادّية وأُسطورية، وتلك الحقيقة التأريخية هي الحاضرة باستمرار؛ إذ يعتمدها مريدو أغلب نظريات الحداثة المادّية وما بعدها، وأهمّها العلمانية، فضلاً عن الأُصولي المتديِّن؛ لأنّ أهمّ أسباب ديمومة أفكار الأُمم وخلودها هو تقديس رموزها والدفاع عنها.
إنّ النظرية الإسلامية يرتكز بناؤها نظريّاً على محورين، أحدهما متمّم للآخر: فالأوّل يهتمّ بالكمال العلمي والفكري، والآخر يعتني بجهة الكمال الروحي الضامن للخلود الأبدي.
وأمّا الارتكاز العملي في دائرة الدين الإسلامي، فيعتمد في ديمومته على ركنين يكمّل أحدهما الآخر، وهما: الالتزام بالقرآن الكريم، ذلك الكتاب الصامت، والآخر هو اتّباع العترة الطاهرة، وهي الكتاب الناطق بالحقّ إلى يوم القيامة. فأمّا القرآن فقد أُحرز خلوده بإعجازه وانتسابه إلى الله تعالى، سواء على مستوى البيان والفصاحة، أم على غير ذلك من وجوه الإعجاز الأُخرى، وأمّا في مقام الدلالة فلا بدّ له من مفسِّر لآياته ومبيِّن لأحكامه، وهنا يأتي دور النبيّ(صلى الله عليه واله) وأهل بيته(عليهم السلام)، فهم عِدله، قد اختارهم الله تعالى بحكمته، بعد أن شرط عليهم الزهد في الدنيا وزُخرفها، وتحقّق الوفاء منهم بأداء هذه الرسالة الكبرى على أتمّ وجه.
إنّ من أولويات مهامّ النبوّة هو التأكيد على كلّ ما يُفضي إلى توحيد الله(عز وجل)، والحثّ على ذلك، وفي مقابل ذلك التفنيد لكلّ ما يؤدّي إلى الشرك، والنهي عنه، فقد عمد النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) إلى تحطيم الأصنام يوم فتح مكّة، والنهي عن زيارة قبور المشركين، بعد أن أعرض(صلى الله عليه واله) عن القصاص من زعماء قريش، فهذا خيرُ دالٍّ على أهمّية تلك الرموز في نفوس المشركين، ومقدار تأثيرها في ضلالهم عاجلاً وآجلاً، وفي المقابل ورد الحثّ على زيارة قبور المسلمين والتبرّك بالحجر الأسعد، فالفارق بين التعبّد بحجر الصنم وبين التبرّك بالحجر الأسعد، هو أنّ الأوّل من روح الشيطان ووسوسته، أمّا الآخر فمن وحي الله تعالى وأمره؛ لذا كان الرمز الأوّل يدلّ على الشرك، وكان الرمز الثاني يدلّ على التوحيد.
وقد ترتفع دلالة التوحيد درجة إن كان الدالّ عليه هو جسد وليٍّ اصطفاه الله تعالى لحمل أمانة وحيه، بعد أن اصطنعه لنفسه، حتّى صار مزيجاً من روحٍ قدسية، ونفسٍ زكيّة، مع جسدٍ طاهر، وبينهما علقة خفيّة، ورابطة قويّة، تختلف عمّا سواها من الأجسام البشرية.
لقد أوْلى الإسلام الجانب الروحي عنايةً خاصّة تفوق عنايته بالجانب المادّي، فالبدن محدود القدرة ضمن نطاق (الزمكانية)، أمّا الروح فطاقة حيوية متجدّدة عبر الأجيال، قد اخترقت أسوار المحدودية وكسبت سرّ خلود المبادئ الدينية، وحكمة تشريعاتها؛ ومن هذا المنطلق فقد أضفى الإسلام قدسية على رموزه وشعاراته، وحثّ مريديه على استلهام الدروس والعبر من تلكم الدوال، وأهمّ مصداق لها مراقد الأولياء والصالحين والشهداء، فهم الأحياء بحياة الروح الزاكية، ولهم حقّ الوفاء، وجميل الثناء.
مما تقدّم يمكن أن يقدّم الكاتب جملة التجلّيات العقدية من زيارة مرقد الإمام الحسين(عليه السلام) خاصّة كأُنموذجٍ لأهمّ الزيارات التي حثّ عليها الشرع الحنيف، وجعلها محطّ رحال أفئدة المؤمنين، فقد جاء مخطّط هذا المبحث مبتدِئاً بالتمهيد لبيان مفاهيم العنوان، وأهمّية الزيارة، مع الاستدلال على استحبابها، ثمّ الحديث بعد ذلك عن أهمّ التجلّيات العقدية من تلك النصوص الشرعية في ثلاثة مطالب، وهي التوحيد، والنبوّة مع لازمها الخلافة، ثمّ المعاد، معتمدين في دراستنا هذه على أهمّ نصوص الزيارات المعتبرة والمشهورة. هذا، ونسأله تعالى التوفيق والسداد إنّه نعم المولى ونعم النصير.
تمهيد
أوّلاً: بيان معاني مفردات الموضوع
معنى التجلّي: وردت معاني غزيرة ومتعدّدة للفظ (جلا)، سأذكر منها ما يخصُّ البحث كما وردت في لسان العرب، فقد قال ابن منظور: «والجَلاء (ممدود): الأَمر البَيِّنُ الواضح. والجَلاءُ (بالفتح والمدِّ): الأَمرُ الجَليُّ، وتقول منه: جَلا لي الخبرُ، أَي: وَضَح... ويقال: أَخْبرني عن جَلِيَّةِ الأَمر، أَي: حقيقته... والجَلِيَّة: الخبر اليقين... والجَلِيَّة: البَصِيرة... وجَلَوْت، أَي: أَوضحت وكشَفْتُ، وجَلَّى الشيءَ، أَي: كشفه»[1].
معنى الزيارة: قال الطريحي: «زاره يزوره زيارة: قصده، فهو زائر وزور وزوّار، مثل سافر وسفر وسفّار»[2]، وورد أنّ «زيارة الله تعالى زيارة أنبيائه وحججه(صلى الله عليه واله)، مَن زارهم فقد زار عرش الله(عز وجل).وفي الدعاء اللّهمّ اجعلني من زوّارك»[3]، أيّ: من القاصدين لك الملتجئين إليك.
من خلال ما تقدّم نحصل على خلاصة مفادها: ظهور حقيقة أُصول الدين وانكشافها من آثار مضمون وطقوس مقاصد المؤمنين لمرقد سيّد الشهداء(عليه السلام).
ثانياً: أهمّية الزيارة وشرعيّتها
تكمن أهمّية الزيارة للأماكن المقدّسة ومراقد المعصومين والأولياء(عليهم السلام) في دلالتها وآثارها؛ فللزيارة أقسام كثيرة، لكلّ واحدة منها فوائد خاصّة، منها زيارة بيت الله الحرام التي تنطوي على فلسفة وآداب خاصّة ذُكرت مفصّلاً في المصادر الفقهية؛ ولا شكّ في أنّ لزيارة قبور المؤمنين ثمرات ذات اتجاهين: منها ما يعود إلى الزائر، ومنها ما يرجع إلى المزور، فبالإضافة إلى الثواب المترتِّب على زيارة المؤمن فإنّ الروايات أكّدت أنّ صاحب القبر يفرح بزيارة قبره، وأنّ هذه الزيارة تترتّب عليها أيضاً فوائد مهمّة أُخرى للمؤمنين، هي: تذكّر الموت، والعبرة، والاستعداد لإصلاح النفس وتهذيبها، فقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «زوروا موتاكم؛ فإنّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أُمّه بما يدعو لهما»[4]. وفي الحديث الذي روته صحاح العامّة ومصادرهم عن أبي مويهبة مولى رسول اللهﷺ قال: «أُمر رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أن يصلِّي على أهل البقيع، فصلّى عليهم رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ليلةً ثلاث مرّات، فلمّا كانت ليلة الثانية، قال: يا أبا مويهبة، أسرج لي دابتي. قال: فركب فمشيت حتّى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة، ووقف عليهم أو قال: قام عليهم، فقال: ليهنئكم ما أنتم فيه ممّا فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل يركب بعضها بعضاً، الآخرة أشدّ من الأُولى...»[5]، وهذا دليل يُلزِم أتباع مدرسة الحديث والسلفية السماح بزيارة قبور الأولياء والصالحين وإعمارها، لا العكس كما نراه في زماننا، فالموثِّق لهذا الحديث ومصحِّحه هو من كبار علماء مذهب السلفية.
إنّ النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) هم المصداق الأمثل للإنسان الكامل، وإنّهم أحبّ الخلق إلى الله تعالى؛ لِما اتّسموا به من صفات الكمال تقوى وورعاً وعلماً، وقد عصمهم الله من الذنوب ظاهراً وباطناً، وأمر تعالى بحبّهم وولائهم، وإنّ مَن حاربهم فقد حارب الله تعالى، فلا يصل الإنسان إلى مقام القرب الإلهي إلّا بمحبّتهم وقبول ولايتهم.
إنّ الفضل المترتِّب على زيارتهم(عليهم السلام) واضح العلّة؛ باعتبارها تمثّل أفضل الطرق للتواصل مع أئمّة الهدى المعصومين(عليهم السلام)، ممّا يوجب فلاح الإنسان، وترسيخ الجانب المعنوي في شخصيته، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه الزيارة من الحظوة بكرامة الأئمّة(عليهم السلام)، وتعزيز الآصرة القلبية بين الزائر والإمام المعصوم(عليه السلام)؛ تجديداً للعهد باستمرار المسيرة الروحية التي يتحرّك فيها المؤمن استلهاماً منهم، وتأسّياً بهم(عليهم السلام).
ومن الآثار المترتِّبة أيضاً على زيارة مراقدهم(عليهم السلام) الشريفة غفران الذنوب، والفوز بشفاعتهم، وإنجاح طلبات الزائرين، وسأحاول هنا الإشارة إلى نماذج من الروايات التي تُشير إلى ثمار الزيارة وما يترتّب عليها:
فقد رُوي عن رسول الله(صلى الله عليه واله) أنّه قال: «مَن زارني إلى المدينة كنتُ له شهيداً وشفيعاً»[6].
ورُوي أيضاً: «مَن زارني بعد وفاتي وسلَّم عليَّ رددت(عليه السلام) عشراً، وزاره عشرة من الملائكة، كلّهم يسلِّمون عليه...»[7].
كما أكّد النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) شرعية الزيارة عمليّاً، فقد نُقِلَ خبرٌ مفاده: «أنّ رسول الله(صلى الله عليه واله) حين انصرف من معركة أُحد مرَّ على مصعب بن عمير، وهو مقتول على طريفة، فوقف عليه(صلى الله عليه واله)، ودعا له، ثمّ قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[8]، ثمّ قال رسول(صلى الله عليه واله): أشهد أنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده، لا يُسلِّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه»[9]. وعلَّق الحاكم النيسابوري على هذا الحديث بأنّه صحيح على شرط الشيخين (البخاري، ومسلم)، ولكن لم يخرجاه[10]. وما إعراض الشيخين عن إخراج الحديث وغيره من المرويّات الدالة على استحباب الزيارة إلّا لأسباب سياسية عملت عليها الدولة الأُمويّة؛ لغرض إنكار فضل الشهداء، وتقليل شأن الرموز الإسلامية.
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «مَنْ زار قبرَ الحسين(عليه السلام) لله وفي الله أعْتَقَهُ من النار، وآمنهُ يومَ الفزع الأكبر، ولم يسأل الله حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة إلّا أعطاهُ»[11].
هذا غيض من فيض المتواترات والروايات المستفيضة والمعتبرة الكثيرة في تأكيد شرعية زيارة المعصومين(عليهم السلام) والأولياء والصالحين، ذكرتها المصادر الحديثيّة، وأشبعها العلماء بحثاً وتحقيقاً.
وممّا تقدّم يمكن استنتاج أهمّ ثمرات الزيارة وآثارها، مرتبةً في نقاط عديدة، منها ما يلي:
تنامي معارف الزائر وعلومه الدينية من خلال المفاهيم والقيم التي تنطوي عليها نصوص الزيارات.
معرفة مقام الأئمّة(عليهم السلام)، وتحكيم آصرة الولاء بين الزائر والأولياء الربّانيين.
اختيار النموذج الأمثل لمقام قيادة المجتمع.
توفير الأرضية المناسبة لاجتناب المعاصي واقتراف الذنوب، وكسب محاسن الأخلاق.
تعزيز روحية العمل الجمعي، وصيانة هوية التشيّع من الضياع، ومواصلة التعايش مع ثورات الأئمّة وتحرّكاتهم السياسية والاجتماعية.
إشاعة روح الثورة، وتعزيز الشجاعة والفداء في الوسط الاجتماعي، وبثّ روح المطالبة بالحقّ والعدل والتأكيد على إحقاق حقوق الجماهير كأهمّ شعار يرفعه الشيعة.
تقوية روح التصدّي للظالمين، وفضح جرائمهم التي وقعت على مرّ التاريخ بحقّ المسلمين أئمّة ورعايا، وجعل المجتمع يعيش أمل الحكومة النموذجية، ويُمهِّد لتحقّقها على يد المنقذ الحجّة بن الحسن العسكري(عجل الله فرجه الشريف).
تلك الثمار هي بعض ما يظهر من الآثار المعنوية والاجتماعية لدى المتأمِّل في أهمّية الزيارة وفوائدها، وما يخفى من الأُمور المعنوية والأُخروية أكثر، قد لا يتسنّى لنا إدراكه، والله أعلم بأسرار أوليائه وشريعته.
لقد أولى علماء الإمامية تحقيق نصوص الزيارات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) اهتماماً بالغاً، ووثّقوها في كتبهم، من قبيل (كامل الزيارات) لابن قولويه القمّي، هذا الكتاب الذي يُعدّ من أهمّ الكتب المصنّفة في هذا المجال، ومنها أيضاً: كتاب (المزار) للشيخ المفيد، و(مصباح المتهجّد) للشيخ الطوسي، و(مهج الدعوات) للسيّد ابن طاووس، و(المزار الكبير) للشيخ محمد بن جعفر المشهدي، و(تحفة الزائر) للعلّامة المجلسي، وكتاب (مفاتيح الجنان) المشهور للشيخ عباس القمّي.
وعلى الرغم من الأُصول التأريخية المتينة لشعيرة الزيارة في الفكر الإسلامي عامّة، والشيعي خاصّة، إلّا أنّ هناك طائفة ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري تُعرف بالوهابية، رفعت راية المخالفة والرفض لزيارة المراقد المقدّسة وقبور الصالحين، بل وهدمها، بدعوى أنّها من مظاهر الشرك وعبادة الأصنام، وهذا ما لا ينسجم مع السنّة النبوية وسيرتها، مثيرين بذلك الكثير من الشكوك والاستفهامات، فتصدّى للإجابة عنها علماء الفريقين من الشيعة والسنّة بإثبات رجحان الزيارة وشرعيتها.
والملاحِظ لنصوص الزيارات التي وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) يجدّها تتضمّن كمّاً هائلاً من المعارف الإسلامية والعقائدية، وقد اشتهرت من بين تلك الزيارات، بسبب اعتبار أسانيدها وعمق محتواها مجموعة من الزيارات كزيارة (عاشوراء)، وزيارة (الجامعة الكبيرة)، وزيارة (أمين الله)، بالإضافة إلى زيارة (وارث) المشهورة.
تنقسم الزيارات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) إلى طائفتين، هما: الأُولى الزيارات الخاصّة ببعض المعصومين، والثانية الزيارات المشتركة التي يصحّ زيارة أكثر من معصوم بها. وسأعتمد في هذه المقالة على جميع الزيارات المخصوصة بالإمام الحسين(عليه السلام)، بالإضافة إلى بعض الزيارات المشتركة التي يُزار بها جميع المعصومين(عليهم السلام) كما ذُكِرَ أعلاه، وأستنطق مضامينها؛ لمعرفة أهمّ التجلّيات العقدية من تلك الكلمات النورانية، وهي كما يلي بالترتيب.
تعليق