سماحة آية الله العلامة السيد منير الخباز (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الم «1» تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ «2»﴾[لقمان: 1 - 2]
صدق الله العلي العظيم
إن هذه السورة الشريفة تتضمن عدة مطالب كلامية وتحليلية وأخلاقية، ولذا اخترنا التعرض لها ابتداءً، كما أننا لم نتعرض إلى اختلاف المناهج التفسيرية، وسنتعرض لها في ضمن الدروس الآتية إن شاء الله تعالى. وسنتناول في هذه السورة - بعونه تعالى - عدة بحوث تباعاً.
البحث الأول: حول الحروف المقطعة.
حيث ابتدأت السورة المباركة بقوله تعالى: ﴿الٓمٓ﴾، كان مناسبا أن نستهل أبحاث هذه السورة المباركة بالبحث حول الحروف المقطعة في القرآن الكريم، ولاستيعاب هذا البحث نطرح عدة محاور:
المحور الأول: هل أن الحروف المقطعة من صميم الوحي أم هي من الإضافات؟
ذكر بعض المستشرقين[1]أن الحروف المقطعة من قبيل: «ألم، حم، عسق» وغيرها ليست جزءاً من الوحي، بل هي إضافات ألحقت بالقرآن بمرور الأيام، وأنها رموزٌ لمصاحف بعض الصحابة، فمثلاً «كهيعص» هو رمز لمصحف ابن مسعود، و«حم، عسق» رمز لمصحف ابن عباس، و«طس» رمز لمصحف ابن عمر وهكذا. إلا أن المسلمين بمرور الأيام غفلوا عن رمزية هذه الحروف فدخلت هذه الحروف المقطعة ضمن آيات القرآن الكريم واحتسبت على أنها من الوحي، وهي ليست كذلك.
هذا حاصل ما ذكره هذا المستشرق، إلا أن دعواه واضحة الفساد والسقم، وذلك لعدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
إنه عند مراجعة النسخ القديمة للقرآن الكريم، لا سيما أقدم نسخة منسوبة له، كالنسخة الموجودة في متحف السلطان أحمد بإسطنبول، وفي برمنغهام في بريطانيا، والتي يعود تاريخها إلى عام خمس وعشرين للهجرة.
وقد قرّر المتخصصون بدراسة المخطوطات القديمة أن الحبر المستخدم في تلك النسخة بالإضافة لنوع الورق يدل على أنها تعود إلى النصف الأول من القرن الأول الهجري، وإذا لوحظت هذه النسخة نجدها مشتملة على هذه الحروف المقطعة، وهذا شاهد على أن هذه الحروف من القرآن نفسه، لا أنها صارت جزءاً من القرآن بمرور الأيام نتيجة غفلة المسلمين عن رمزيتها لبعض مصاحف الصحابة، خصوصا وأن أصحاب هذه المصاحف كانوا موجودين في زمن كتابة هذه النسخة.
الملاحظة الثانية:
من غير المحتمل لدى العرف العقلائي العام أن المسلمين الذين دأبوا منذ القرن الأول على الاهتمام الشديد بالقرآن الكريم عن طريق حفظه وتلاوته وتدبره بحيث لم يمر جيل على المسلمين إلا والقرآن معهود عندهم من أوله إلى آخره، وكانوا يتسابقون في حفظه ويفتخرون بوجود الحفظة في كل جيل أنهم غفلوا عن عدم علاقة هذه الحروف بآيات القرآن، وإنما هي رموز لمصاحف بعض الصحابة.
والحاصل: أن تنبه هذا المستشرق لمثل هذه الدعوى وغفلة المسلمين عنها - مع الحالة التي كانوا عليها وذكرناها آنفا - يكشف عن وهنها وعدم معقوليتها في حد نفسها، خصوصا مع عدم إقامته لأي قرينة تاريخية أو أدبية على مدعاه.
الملاحظة الثالثة:
أن إقحام هذه الحروف داخل القرآن - لو لم تكن من القرآن - عمل قصدي عمدي كما هو ظاهر، فلا يحتمل فيه أن يصدر بنحو الغفلة، لا سيما مع ملاحظة كونها في بدايات السور، وتكررها في تسعة وعشرين سورة، وأنها ظاهرة مبهمة تثير التساؤل، ولأجل هذا فليس من المعقول أن يكون إقحامها غفلةً ونسيانا، بل لو لم تكن من القرآن الكريم وأقحمت فيه فإنها لا بد وأن تكون فعلاً عمدياً قصدياً، وإذا كان اقحامها كذلك فلا يتصوّر له هدف إلا من باب تعريض القرآن للتحريف والزيادة، ومن يكون غرضه هو هذا فلن يلجأ إلى زيادات واضحة ليفتضح أمره وينتقض غرضه، بل سيلجأ إلى زيادات تكون خفية، كالزيادات في وسط السور، وبكلمات تكون منسجمة مع الطابع العام لمفردات القرآن لكيلا يُلتفت إلى كونها زيادة وتحريفا، وأما أن يلجأ إلى الزيادة بحروف واضحة في أوائل تسعة وعشرين سورة فهذا مما لا يقوم به عاقل يريد الوصول إلى غرض معين.
والمتحصل: أن هذه الدعوى لا وجه لها. المحور الثاني: هل الحروف المقطعة تنسجم مع كون القرآن كتاب بيان وهداية؟
هناك سؤال يطرحه الكثير من القراء للقرآن الكريم وهو أن الحروف المقطعة هل تنسجم مع كون القرآن كتاب بيان وهداية، بلحاظ أن هذه الحروف المقطعة مبهمة المعنى وغامضة المضمون فكيف تنسجم مع ما وصف به القرآن نفسه حيث قال في سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ192 نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ194 بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ195﴾.
وقالت في الآية أخرى: ﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ89﴾«النحل».
وقال في آية ثالثة: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا9﴾«الإسراء».
فإذا كان القرآن كتاباً مبيناً وهادياً ومرشداً فهل ينسجم معه أن تذكر فيه حروف غامضة المعنى مبهمة المضمون لا يعرف تأويلها ولا تفسيرها إلا بالرجوع إلى النبي
ويمكن الإجابة عن ذلك بعدة وجوه:
الوجه الأول:
أن البيان الذي ذكر في القرآن الكريم هو وصف للفظ وليس وصفاً للمعنى، ففي قوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ192 نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ193 عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ194 بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ195﴾ ذُكر البيان وصفا للسان وليس وصفاً للمعنى، فلا تنافي بين أن يكون اللسان واضحا وأن يكون المعنى مبهماً وغامضاً.
ومما يؤكد ذلك ما تضمنته بعض الآيات من أن القرآن الكريم فيه جميع المعلومات المطلوبة للإنسان ومع ذلك فهي بالوجدان مما لا يمكن استخراجها من الألفاظ البينة والعبارات الواضحة في القرآن الكريم، مثلاً قوله عز وجل: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ38﴾«الأنعام»، والآية السابقة - ﴿تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ﴾- فهل يمكن استنتاج المضامين كلها من الكتاب بعبارات واضحة لدى القارئ؟ أو يجتمع ذلك مع غموض بعض هذه المعاني؟
والنتيجة: أنه لا يستفاد من الآيات القرآنية جميعها أن كل مضامين القرآن كانت واضحة كي تتنافى مع وجود الحروف المقطعة. الوجه الثاني:
أن هذا الإشكال كما يأتي في الحروف المقطعة يأتي على الآيات المتشابهة، حيث صرح القرآن بوجود آيات متشابهات فقال عز من قائل: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ7﴾«آل عمران 7».
فكيف يجمع بين وجود الآيات المتشابهات وبين كون القرآن كتاب بيان واضح وهداية وإرشاد؟
والصحيح أن الجمع بين هذه الآيات وما دلّ على كون القرآن بياناً واضحاً يدلنا على أن فهم القرآن الكريم له درجات ومراتب، وأن العرف العام يمكنه فهم القرآن ببعض مراتبه، فهو بالنسبة إليه كتاب هداية، لكن أعلى درجاته لا يمكن الوصول لها من قبل قارئ القرآن الكريم، وإنما يحتاج فهمها إلى الرجوع إلى أهل القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ7﴾«آل عمران 7».
وقال في آية أخرى في سورة العنكبوت: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ48 بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ49﴾، وهو ما أكد عليه حديث الثقلين: «إني تارك فيكم كتاب الله وعترة أهل بيتي».
مما يعني أن في البين هدفاً من وجود الآيات المتشابهات والحروف المقطعة، وهو إرجاع الأمة في فهم القرآن الكريم بالدرجة الموثوق بها إلى أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».
بل إن نفس القرآن يصرح أن القرآن يحتاج إلى تعليم قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ2﴾«الجمعة 2».
فوجود الآيات متشابهة والحروف المقطعة إنما هو لربط الأمة بعلمائها، وهم أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
تعليق