٠
م. د ساجد صباح ميس العسكري
مقدمة:تُعدّ القضية المهدوية من أهم قضايا الفكر الإسلامي؛ لارتباطها بالإمامة، ولكونها قضية جدلية كثرت الأقوال فيها، وتعددت الآراء بين إفراطٍ وتفريطٍ، فقد أفرط بعضهم في سرد المغيبات التي دلت عليها الروايات من دون إخضاع تلك الروايات لمنهج النقد العلمي، وفرط آخرون عندما رفضوا جميع القضايا الغيبية وأصرّوا على إخضاعها للمنهج الحسي، وبين هذا وذاك يقع المنهج المعتدل في قراءة القضية المهدوية.
ومن المسائل المرتبطة بالقضية المهدوية: القضايا الإعجازية الخارقة، سواء كانت قبل الظهور المبارك أم بعده.
وجاء هذا البحث الموسوم (أحداث عصر الظهور بين الإعجاز والتطور العلمي) ليميز ما هو معجزٌ وما هو غير معجزٍ، وفق شروط وقوانين المعجزة.
وعُنْون البحث بأحداث الظهور ولم يُعَنْون بعلامات الظهور؛ لأنّ الأحداث أعم، تشمل العلامات وغيرها، كما أن العلامات سابقة لعصر الظهور بينما البحث تناول الأحداث قبل الظهور وبعده.
واقتضت طبيعة البحث أن يقسم على مبحثين:
الأول: نظري تأصيلي اختص ببيان مفهوم المعجزة وشرائطها والفرق بينها وبين غيرها من الخوارق.
والثاني: تطبيقي اقتصر على ذكر بعض النماذج المهمة قبل الظهور وبعده، اختصاراً بما يناسب المقام وفق منهج البحث العلمي.
هذا وقد بذل الباحث جهداً ليكون البحث بالصورة المطلوبة، فإن كان كذلك فللّه الحمد أولاً وأخيراً، وإن لم يكن فألتمسكم العذر فالنقص من سمات الممكن.
المبحث الأول: دراسة نظرية في مفهوم المعجزة:
المطلب الأول: مفهوم المعجزة وشرائطها:
أولاً: المعجزة في اللغة:
المعجزة: الجذر اللغوي، والذي له في اللغة معنيان هما:
١ - الضعف: فقد جاء في العين: (عجز: أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه. والعجزُ نقيض الحزم. وعَجَزَ يَعْجِزُ عَجْزاً فهو عاجزٌ ضعيفٌ)(١).
وجاء في معجم مقاييس اللغة: (عَجِزَ عَنِ الشَّيْءِ يَعْجِزُ عَجْزاً، فَهُوَ عَاجِزٌ، أَيْ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُهُمْ إِنَّ العَجْزَ نَقِيضُ الحَزْمِ فَمِنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَضْعُفُ رَأْيُهُ... وَمِنَ البَابِ: العَجُوزُ: المَرْأَةُ الشَّيْخَةُ، وَالجَمْعُ عَجَائِزُ)(٢).
٢- مؤخر الشيء: (فَالعَجُزُ: مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَالجَمْعُ أَعْجَازٌ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: عَجُزُ الأَمْرِ، وَأَعْجَازُ الأُمُورِ)(٣)، وقال الراغب: (وأَعْجَزْتُ فلاناً وعَجَّزْتُهُ وعَاجَزْتُهُ: جعلته عَاجِزاً)(٤).
أمّا الإعجاز فمشتق من الفعل الرباعي (أعجز) وتعني الفوت والسبق، يقال: أعجزه الأمر أي فاته، ويقال: أعجز الرجل خصمه: أي سبقه وغلبه(٥).
ثانياً: المعجزة في الاستعمال القرآني:
جاءت الإشارة إلى المعجزة في القرآن الكريم بالجذر اللغوي ومشتقاته كثيراً نحو:
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَحِيمِ﴾ (الحج: ٥١).
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ ( يونس: ٥٣).
وجاءت الإشارة إليها بألفاظ أخرى منها:
١ - الآية: قال تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: ١٠٩).
٢ - البينة: قال تعالى على لسان موسى (عليه السلام): ﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ (الأعراف: ٧٣).
ثالثاً: المعجزة في الاصطلاح:
عُرِّفت المعجزة بتعريفات متعددة، فعرَّفها الخواجة نصير الدين الطوسي (ت٦٧٢هـ) بأنها: (ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوة)(٦).
وعرفها السيوطي (ت٩١١هـ) بقوله: (أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، مصون عن المعارضة)(٧).
وعرفها الزرقاني (ت ١٣٦٧هـ) بأنها: (أمرٌ يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله أو هي أمر خارق للعادة خارج عن حدود الأسباب المعروفة يخلقه الله تعالى على يد مدَّعي النبوة عند دعواه إيّاها شاهداً على صدقه)(٨).
وجاء تعريف العلامة البلاغي بقيود أكثر مما تقدم فعرفها بقوله: (المعجزة هو الذي يأتي به مدَّعي النبوة بعناية الله الخاصة، خارقاً للعادة وخارجاً عن حدود القدرة البشرية وقوانين العلم والتعلم، ليكون بذلك دليلاً على صدق النبي وحجيته في دعواه النبوة ودعوته)(٩).
فذكر العلامة البلاغي في تعريفه أن المعجزة خاصة بالأنبياء (عليهم السلام)، وذكر أيضاً البُعد الوظيفي للمعجزة بقوله: (ليكون بذلك دليلاً على صدق النبي...).
وما ذكره من قيد بقوله: (خارقاً للعادة)، يقصد به أن المعجزة خرق لقوانين الطبيعة، وفوق قدرة الإنسان ولا يقصد بالعادة المصطلح الأشعري الذي يقضي أن لا تلازم ذاتياً بين العلة والمعلول، وإنما اقتضت العادة أن يكون هناك تلازم، فمثلاً التلازم بين النار والحرارة ومسألة الأكل والشبع لا تلازم ذاتياً بينهما على حد قولهم، وإنما كل ذلك حصل بسبب اقتضاء العادة على ذلك، وهذا ما أكده أبو حامد الغزالي بقوله: (الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا)(١٠)، وإنما تترسخ تلك العادة في الأذهان بسبب (استمرار العادة بها مرة بعد أخرى يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة ترسيخاً لا تنفك عنه)(١١).
وعرّف السيد الطباطبائي المعجزة بأنها: (الأمر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الأمر المبطِل لضرورة العقل)(١٢).
وفي هذا التعريف يُشير السيد الطباطبائي إلى البعد الفلسفي للمعجزة، كونها تقع تحت نظام العلية، ولم يشر إلى ارتباط المعجزة بالأنبياء أو بغيرهم، بل ما من شأنه أن يكون أعلى من قوانين الطبيعة فهو معجز، فلم تكن المعجزات العلة الوحيدة لإيجاد الشيء، وإنما العلة التي حدثت بسببها المعجزة غير متعارفة عند الناس (فإبراء الأكمه والأبرص مثلاً يحصل حسب العلة المتعارفة من خلال تناول الدواء المخصوص إلّا أن ذلك لا يمنع أن يكون للإبراء علة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل ولم يطّلع عليها العلم الطبيعي المتعارف عندهم، فالمعجزة ليست صدور المعلول بلا علة، بل هي صدوره من علة غير معروفة للناس ولم تتداولها العلوم الطبيعية المتعارفة)(١٣).
وبذلك تكشف المعجزة عن عجز القانون الطبيعي عن تحقيق بعض الأمور التي لا يمكن أن تحدث إلّا من قبل مدبر الكون.
وعرفها السيد الخوئي (قدّس سرّه) بأنها: (أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه)(١٤).
فقد ذكر في التعريف شروط المعجزة وبعدها الوظيفي ووسّع من دائرة المعجزة لتشمل الإمام المعصوم (عليه السلام) كون الإمامة منصباً إلهياً، وهذا التعريف هو الراجح عند الباحث كونه جامعاً مانعاً.
وبهذا يكون تعريف السيد الخوئي (قدّس سرّه) أتم وأشمل، ولكن قد سجل بعضهم ملاحظة على تعريف السيد الخوئي (قدّس سرّه) وهو أنه ليس بالضرورة أن يكون المعجز أمراً خارقاً لنواميس الطبيعة، إذ يرى الشيخ ضياء الدين زين الدين أن المعجز قد يكون ضمن نواميس وقوانين الطبيعة ولكن ضمن شرطها الأتم ومستوى تحققها الأعلى(١٥).
تعليق