لقد مُلِئت الأرض ظلماً وجوراً ، والجاهلية قد استطال ظلامها فغشيت العيون والقلوب ، وغدت الأرض مرتعاً للظلم والفساد ؛ والأديان وكُتب الله قد حُرفت وشُوّهت معالمها ، وكان لا بد أن يشرق اللطف الإلهي في ربوع الأرض ، وتتجدد رسالة الله سبحانه للانسان ، فيخاطبه بالكلمة الحق ، ويبلغه بدعوة الهدى ، وشاء الله أن يولد النور في رحاب مكة ، ويشع الوحي في سمائها المقدس ، ويتعـالى صوت التوحيد في الحرم الآمن ، حرم إبراهيم وإسماعيل ( ع ) . وكما حدثنا القرآن وصوّر لنا ببيانه العذب ، وأسلوبه الأنيق ، وعرضه المعبر الدقيق ، تلك الصور والأوضاع المأساوية التي عايشها الانسان المعذب في مرحلة ما قبل محمد ( ص ) . فجاهلية العرب ووثنيتها وأميتها ووحشيتها تعبث بأطلال الجزيرة ، وتدنس ربوع مكة والبيت الحرام ؛ ومجوسية الفرس وسلطانها تعبث في مشرق الدنيا فساداً ، والنار تُعبد من دون الله ؛ وأحبار اليهود ورهبان النصرانية قد حرفوا التوراة والإنجيل ودولة الروم تسوم الناس في مغرب الدنيا سوء العذاب ؛ والعالم يضج ، وكيل الأرض يطفح بالجرائم ، وحياة الغاب المتوحشة تسيطر على سلوك الانسان . في هذا الوسط الاجتماعي المتداعي وفي ظلمات ذلك العصر الجاهلي المتخلف بزغت أنوار الاسلام ، وشع ضياء محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد من ( ص ) ، المنحدر من ذرية النبي إسماعيل بن إبراهيم ( ع ) ودعوة إبراهيم المستجابة رواها القرآن على لسان إبراهيم ( ع ) رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) البقرة /١٣٩
فالنبي محمد -عليه الصلاة والسلام وعلى آله- هو سحابة الخير التي لا تنضب، ونبع الماء الصافي الذي لا يتعكر، والشجرة الباسقة التي ترفع اغضانها في السماء لتنشر الظلّ وأطيب الثمر، وهو السد المنيع والقمر المنير والشمس المتوهجة، وليس أجمل من وصف الله تعالى لنبيه الكريم، ومهما قيلت فيه من كلمات أو عبارات، فإنّ اللغة تضيق عن وصف أشرف الخلق والمرسلين وأعظمهم، -صلى الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتمّ التسليم-، وسبحان من جعل الصلاة على نبيه زيادة في الأجر والخير .
وقد اختار الله نبيّه محمد من بين جميع البشر ليحمل أمانة تبليغ رسالة الإسلام الخالدة، وقد وصف الله نبيّه في القرآن الكريم بأحسن الأوصاف وأجلّها وأعظمها شأنًا، ووصفه بأنه صاحب خُلُقٍ عظيم، كما كان -عليه السلام- معروفًا في قومه بالصادق الأمين؛ لأنه كان أمينًا في تجارته كان النبي محمد -عليه السلام- موصوفًا بالأخلاق الرفيعة حتى مع الأطفال، فحين يمرّ بهم -عليه السلام وعلىأله- يُقبّلهم ويحترمهم، كما كان يعطف على المستضعفين والفقراء والخدم، وزاهدًا في الدنيا مقتنعًا بما قسمه الله له فيها، كما لم يكن يردّ الإساءة بمثلها، بل كان طيبًا لا يخرج منه إلّا كلّ شيءٍ طيّب، كما كان رحيمًا بالضعفاء، ويزور المرضى ويحترم حقوق الجار، ويُعامل أعداءه بالحِلم، ويدعو لهم بالهداية، أما في المعارك والغزوات فقد عُرف عنه -عليه السلام- بقوته وجرأته وتقدّمه على جميع الصفوف ومعاملاته، وكان أهل قريش يُخبّئون عنده الأمانات، ولهذا فقد كان النبي محمد -عليه الصلاة والسلام وعلى آله- قدوةً حسنةً في كلّ شيء، ومنزهًا عن الوقوع في الذنوب مهما كانت صغيرة.
إنَّ تعلُّق المسلمين وشغفهم بالنبيّ الكريم كان ناشئًا من كرم أخلاقه الذي لم يكن له مثيل.
مهما قيل من ثناء على أخلاقيته السامية قديماً وحديثاً ، فان ثناء الله تعالى عليه في كتابه العزيز يظل أدق تعبير وأصدق وصف لمواصفات شخصيته العظيمة دون سواه.فقول الله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم » (القلم، ٤ ) يعجز كل قلم وكل تصور وبيان عن تحديد عظمته ، فهو شهادة من الله سبحانه وتعالى على عظمة أخلاق الرسول ( ص ) وسمو سجاياه وعلو شأنه في مضار التعامل مع ربه ونفسه ومجتمعه ، بناء على أن الأخلاق مفهوم شامل لجميع مظاهر السلوك الانساني وحركته في الواقع .
وهي شهادة لا يبلغ مدى عظمتها أحد سوى الله تعالى ورسوله ( ص ) ، إذ هي صادرة من الله الكبير المتعال ؛ فسجلها ضمير الوجود وثبتت في كيانه ، وهي تردد في الملأ الاعلى آلى ماشاء الله عز وجل.
فشخصية رسول الله ( ص ) قد مثلث قمـة التسلسل بالنسبة لدرجات الشخصية الاسلامية التي توجد عادة في دنيا الاسلام . فكان ( ص ) : عظيماً في فكره ووعيه ،قمة في عبادته وتعلقه بربه الأعلى ، رائداً في أساليب تعامله مع أسرته والناس جميعاً ، مثالياً في حسم الموقف ، والصدق في المواطن ، ومواجهة المحن ؛ فما من فضيلة إلا ورسول الله ( ص ) سابق إليها ، وما من مكرمة إلا وهو متقلد لها .