﴿بسم الله الرّحمن الرحيم﴾
📖قال الله تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ* يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ* فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ سورة الرحمن، الآيات: 19-23.
في تفسير هذه الآيات الشريفة: استمرارا لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة، بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية.
يقول تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ).
مادّة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الاختلاط، أو إرسال الشيء وتركه، وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنباً إلى جنب بقرينة الآية: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ).
المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالاستدلال بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾ سورة الفرقان، الآية: 53.
وهي أنّ الأنهار العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة. وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة، حيث المياه العذبة تمثّل بحراً منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها، وعندما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.
والظريف هنا ما يحصل في حالة (مدّ البحر) فبارتفاع سطح المحيط إلى الأعلى، فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة ـ باستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماء ـ وتغطّي قسماً من اليابسة، لذلك فكثيراً ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.
إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المدّ والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلئ وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب، ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.
وورد تفسير آخر وهو روائي، ففي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، هذه الرواية الجميلة المفسرة لهذه الآيات الشريفة المباركة وهي:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ اَلْمِنْقَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ اَلْقَطَّانُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ:
(فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ قَالَ: عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ بَحْرَانِ مِنَ اَلْعِلْمِ عَمِيقَانِ لاَ يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَاَلْمَرْجانُ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) .
📚 الخصال، ج 1، ص65.
فأهل الحديث والرواية والرّواة، وأصحاب التفسير والبيان، كلّهم سنة وشيعة أكّدوا من أنّ البحرين هما أمير المؤمنين، ووصيّ رسول ربّ العالمين، عليٌّ سلام الله عليه، وكذا سيّدة نساء العالمين، وبضعةُ سيّد النبييّن، فاطمة سلام الله عليها. وأنّ اللؤلؤ والمرجان اللّذان خرج من هذين البحرين المقدّسين وقد امتزجا: هما سيّدا شباب أهل الجنّة، وريحانتا المصطفى: الحسنُ والحسين صلواتُ الله عليهما.
وعلى هذا الرأي والتأويل روى السيّد هاشمُ البحراني في كتابه (غاية المرام، في معرفة الإمام) من طريق العامّة سبعة أحاديث، ومن طريق الخاصّة خمسة أحاديث. إذن ينبغي أن نعلم أنّ الأمر قد عرف وانضمّ الى الشهرة والاتّفاق تقريباً.
وقد استفاد العلامةُ الحلّي في كتابه (منهاج الكرامة) في ضمن البرهان الثلاثين من براهين الإمامة أنّ الآيات واضحةٌ في تفضيل الإمام عليٍّ عليه السلام، فقال: ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة، فيكون هو الإمام. أي هو الإمام بحقّ؛ إذ هو عليه السلام أفضل منهم، وكذا نقول: لم تحصل هذه الفضيلة لغير الزهراء فاطمة عليها السلام، إذ هي البحر القدسيُّ الذي مرجه الله تعالى بعناياته المباركة ببحر عليّ سلام الله عليه، فالتقيا، ولم يبغ أحدُهما على الآخر لعصمتهما، ببركة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله برزخ المودّة والقربى، فكان من بركات ذلك المرج الإلهيّ لذلكما البحرين الشريفين، وبينهما برزخُ النور المقدّس، أن كان الحسن والحسين، اللّذان منهما عن فاطمة وعليّ، نسلُ المصطفى النبيّ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
⭐اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
تعليق