نستوحي دور الإمام الحسن في تأصيل العقيدة والمنهج الذي سار عليه لترسيخ المبادئ الإسلامية السامية ودرء الشبهات عنها، وللإلمام بمنهجه الذي سار عليه لترسيخ المبادئ الإسلامية السامية ودرء الشبهات عنها نستوحي ونستنطق كلام ذلك الإمام الهمام عليه السلام بهذا الصدد.
بقلم فضيلة المحقق الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي.
القرآن الكريم: القرآن الكريم كتاب الإسلام ومبدأه الأساس، وله في تأصيله وترسيخه كلمات وأحاديث:
منها: ما في كشف الغمة عنه عليه السلام قال: (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور في لجلٍ جال بضوئه وليلجم بصفته قلبه فإن التفكير حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)(1).
ومنها: ما في إرشاد القلوب عنه عليه السلام قال: (إن هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائدا وسائقا، يقود قوما إلي الجنة أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه، ويسوق قوما إلي النار ضيعوا حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه)(2).
وحذّر من التفسير بالرأي حيث قال: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)(3).
وفي تفسير قوله سبحانه: (وما يعلم تأويله إلاّ اللّه والراسخون في العلم) قال عليه السلام: (ما يعلم المخزون المكنون المكتوم الذي لم يطّلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته)(4).
علي عليه السلام والقرآن:
وله في أبيه علي عليه السلام والقرآن ما في مناقب آل أبي طالب عنه عليه السلام قال: (كل ما في كتاب اللّه: (إن الأبرار) فو اللّه ما أراد به إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين ؛ لأنّا نحن أبرار بآبائنا وأُمهاتنا، وقلوبنا علت بالطاعات والبرّ وتبرأت من الدنيا وحبها، وأطعنا اللّه في جميع فرائضه وآمنا بوحدانيته وصدقنا برسوله)(5).
وعنه عليه السلام قال: (إن اللّه تبارك وتعالى علّم رسوله الحلال والحرام والتنزيل والتأويل فعلم رسول اللّه عليا علمه كله)(6).
وعنه عليه السلام في ينابيع المودة خطب الناس على المنبر على عهد أبيه علي عليه السلام وبأمره فقال فيما قال: (أيها الناس سمعت جدي صلى الله عليه وآله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها وهل تدخل المدينة إلاّ من بابها)(7).
أهل البيت عليهم السلام:
والإسلام في مدرسة أهل البيت عليهم السلام يرتكز على المعرفة بإمامتهم وولايتهم ومودتهم، وللحسن عليه السلام في ذلك أخبار وأحاديث:
منها: أنه خطب فقال: (أنا من أهل البيت الذين افترض اللّه مودتهم على كل مسلم، فقال تعالى شأنه: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت)(8).
وزاره سفيان بن أبي ليلي فسلّم عليه: السلام عليك يا مذل المؤمنين… ولكنه عليه السلام قال له: (يا سفيان ما جاء بك؟ فقال: حبكم والذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق. فقال له: أبشر يا سفيان فإني سمعت عليا عليه السلام يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله يقول: إن أهل بيتي ومن أحبهم من أُمتي يردون على الحوض كهاتين: السبابة والوسطي)(9).
وقال عليه السلام في محبتهم: (واللّه لا يحبنا عبد أبدا ولو كان أسيرا في الديلم إلاّ نفعه حبّنا، وإن حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر)(10).
وعنه عليه السلام في التعريف بهم قال: (فنحن الأولون ونحن الآخرون نغدو بروح اللّه ونروح بروحه، إلينا معدنه وفينا مسكنه، والآخر منا كالأول والأول منا كالآخر)(11).
وفي النص على الأئمة الاثني عشر عن جده رسول اللّه: ما رواه علي بن محمد الخزّاز القمي في كتابه (كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر) قال عليه السلام: (إنه لعهد عهده إلينا رسول اللّه قال: إن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد على وفاطمة عليهما السلام ما منا إلاّ مسموم أو مقتول)(12).
ولئلا يشتبه الأمر في قوله في الحديث (يملكه اثنا عشر إماما) أن يكون بمعني تملك الأمر في الظاهر نجد تفسيره في قوله في خبر آخر عنه قال: (ما منا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلاّ القائم الذي يصلي خلفه روح اللّه عيسي بن مريم، فإن اللّه عزّ وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه ؛ لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء يطيل اللّه عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ذي أربعين سنة، ذلك ليعلم أن اللّه على كل شيء قدير)(13).
وكان الناس ولا يزالون مختلفين فيهم عليهم السلام، فلابدّ من أن يبين نظرتهم عليهم السلام في اختلاف الناس فيهم فقال عليه السلام: (إنما الناس ثلاثة:
مؤمن يعرف حقنا ويأتمّ بنا ويسلّم لنا فذلك محبّ وليّ اللّه ناجٍ.
ورجل يدين اللّه بالبراءة منا فيتبرّأ منا ويجحد حقنا وينصب العداوة لنا ويلعن ويستحل دماءنا فهذا فاسق كافر مشرك، وإنما كفر وأشرك من حيث لا يعلم كما سبوا اللّه عدوا بغير علم، كذلك يشرك باللّه بغير علم.
ورجل لا يعرف حقنا فلا يأتم بنا ولكن لا يعادينا بل مع ولايتنا، أخذ بما لا يختلف فيه ورد علم ما أشكل عليه إلي اللّه فنحن نرجو أن يغفر اللّه له ويدخله الجنة، وهذا مسلم ضعيف)(14).
وربما أراد إرشاد مثل هذا فقال لرجل: (إنك البارحة حدثت فلانا بكذا وكذا. فعجب الرجل وقال لصاحبه: إنه ليعلم ما كان؟! فقال عليه السلام: إن اللّه تبارك وتعالى علم رسول اللّه فعلّم رسول اللّه عليا علمه كله، وأمير المؤمنين عليه السلام علّمنيه كله)(15).
وكأن هذا وأمثاله من علومه من جده بلغ عدوه معاوية فكذّب به وقال: متي سمع من جده على صغر سنة؟! فبلغ ذلك الإمام عليه السلام فقال له يوما: (يا معاوية إنك لتكذب بي وتقول: متى سمع من جده على صغر سنه؟! أما واللّه لولا أنك تكفر لأخبرتك بما تعمله: واللّه لتدعينّ زيادا ولتقتلن حجرا وليحملن إليك الرؤوس من بلد إلي بلد)(16).
صلح الإمام الحسن عليه السلام:
ومن أهم الشبهات يومئذ حتى اليوم في إمامته صلحه مع عدوّه معاوية، وقد كثر الكلام في ذلك وتبعا له كثر كلامه عليه السلام في إزاحة تلك الشكوك والشبهات.
ومن كلامه في ذلك من قبيل التحديث بعلمه عن جدّه قال لهم: (ألا إن أمر اللّه واقع إذ لا له رافع وإن كره الناس، وقد علمت ما ينفعني مما يضرني، وإني ما أحببت أن لي من أمر أُمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، فالحقوا ببطونكم، أي بطون عشائركم)(17).
ومن هذا القبيل قوله عليه السلام: (إنما هادنت حقنا للدماء وضنّا بها وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي)(18).
ولعل من هؤلاء عدي بن حاتم الطائي زعيم بني طي في الكوفة، وكان من الشاكين في ذلك فقال له:
(يا عدي، إني رأيت هوي معظم الناس في الصلح وكره الحرب فلم أُحب أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيت دفع هذه الحرب إلي يوم ما فإن اللّه كل يوم هو في شأن)(19).
ومنهم مسيب بن نجبة الفزاري زعيم بني فزارة في الكوفة فقال له: (يا مسيب، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر مني عند اللقاء ولا أثبت مني عند الحرب، ولكني أردت صلاحكم وكف بعضكم عن بعض حتى يستريح برّ أو يستراح من فاجر)(20).
وقال له عليه السلام: ولو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا. والحمد للّه الغالب على أمره.
ومنهم من سلّم عليه بقوله: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، وهو بشير الهمداني، فقال له: (لست مذلاً للمؤمنين ولكني معزّهم، ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال)(21).
ولعل منهم حجر بن عدي الكندي، فقال له: (يا حجر، ليس كل إنسان رأيه كرأيك ولا كلهم يحب ما تحبّ، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاء عليكم، واللّه تعالى كل يوم هو في شأن)(22).
وكان من حديثه بعلمه عن جده صلى الله عليه وآله ما كان يخبر به أنه عليه السلام ليس هو وحده الذي يضطر ليبايع طاغية زمانه بل هذا ما يقع على كلهم أو جلّهم إلاّ القائم منهم قال عليه السلام: (ما منا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم الذي يصلي خلفه روح اللّه عيسي بن مريم… ذلك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء)(23).
ومن كلامه في ذلك قوله عليه السلام: (كانت بيدي جماجم العرب، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه اللّه)(24).
ومنهم من سأله عليه السلام وأجابه بشيء من التفصيل لمعني حقن الدماء حسب استعداده وإدراكه، مثل ما روي عن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب: يابن رسول اللّه لم داهنت معاوية وصالحته، فقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟ فقال عليه السلام: (يا أبا سعيد، ألست حجة اللّه تعالى ذكره على خلقه وإماما عليهم بعد أبي؟ قلت: بلي، قال: ألست الذي قال رسول اللّه لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلي. قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذا قعدت. يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.
يا أبا سعيد، إذا كنت إماما من قبل اللّه تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا، ألا تري الخضر لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسي فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا أحد على وجه الأرض إلاّ قتل)(25).
وأكثر تفصيلاً منه ما روي عن زيد بن وهب الجهني قال: قلت له: (إن الناس متحيرون فماذا ترى؟ فقال عليه السلام: إن هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، انتهبوا ثقلي وأخذوا مالي وابتغوا قتلي، واللّه لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهلي وأهل بيتي، واللّه لئن أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي فيكون معاوية وعقبه يمنون بها على الحي منا والميت. قال زيد: فقلت له: يابن رسول اللّه فتترك شيعتك كالغنم لا راعي لهم؟!
فقال عليه السلام: وما أصنع يا أخا جهينة؟ إن أمير المؤمنين عليه السلام رآني ذات يوم فرحا فقال لي: يا حسن أتفرح؟ كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً، وكيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو أُمية وأميرها الواسع الاعفجاج والرحب البلعوم الذي يأكل ولا يشبع… يستولي على شرقها وغربها وتدين له العباد ويطول ملكه، يستنّ بسنن البدع والضلال ويميت الحق وسنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله، يقسم المال في أهل ولايته ويمنعه من هو أحق به، ويذل في ملكه المؤمن ويقوي في سلطانه الفاسق، يجعل المال بين أنصاره دولاً ويتخذ عباد اللّه خولاً، يدرس في سلطانه الحق ويظهر الباطل ويلعن الصالحين ويقتل من ناواه على الحق ويدين من والاه على الباطل)(26).
وزاره سفيان بن أبي ليلي وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال له عليه السلام: (يا سفيان، إني سمعت عليا عليه السلام يقول: سمعت رسول اللّه يقول: لا تذهب الأيام والليالي حتى تجتمع أمر هذه الأُمة على رجل واسع السرم ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع… فأنا عرفته أنه معاوية وعرفت أن اللّه بالغ أمره… وإنا أهل بيت إذا عرفنا الحق تمسكنا به. أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث اللّه إمام الحق من آل محمد صلى الله عليه وآله)(27).
ولكن ليس معني أن الأُمة تجتمع عليه أنه على الحق، وقد تشبّث به معاوية يوما إذ قال للإمام عليه السلام: يا حسن أنا خير منك! قال عليه السلام: (وكيف ذلك يابن هند؟! قال: لأن الناس قد اجتمعوا علي ولم يجتمعوا عليك! فقال له عليه السلام: يابن آكلة الأكباد، إن المجتمعين عليك رجلان: مطيع ومكره، فالطائع لك عاص للّه، والمكره معذور بكتاب اللّه. ولكن لا أقول أنا خير منك إذ لا خير فيك، إن اللّه برّأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل)(28).
ومن كلامه للرد على المشككين في صلحه بأنه عار عليه وعلي شيعته ما في تحف العقول عنه عليه السلام قال: (العار أهون من النار)(29).
ومن آخر هذه الأخبار في هذا المضمار ما روي عن سالم بن أبي الجُعد عن رجل من قومه دخل على الحسن بن علي عليه السلام وقد دسّ إليه الطاغية سمّا وقع على كبده، فهو يخرج قطعا مع ما يخرج من جوفه من الدم في طست بين يديه، دخل عليه قبيل ذلك وهو لا يعلم بحاله فقال له: (يابن رسول اللّه أذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا ما بقي معك رجل.
فقال الإمام: ممّ ذلك؟ قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية. فقال عليه السلام: واللّه ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسدا، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، إنهم ليقولون لنا: إن قلوبهم معنا وإن سيوفهم لمشهورة علينا)(30).
بقلم فضيلة المحقق الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي.
القرآن الكريم: القرآن الكريم كتاب الإسلام ومبدأه الأساس، وله في تأصيله وترسيخه كلمات وأحاديث:
منها: ما في كشف الغمة عنه عليه السلام قال: (إن هذا القرآن فيه مصابيح النور وشفاء الصدور في لجلٍ جال بضوئه وليلجم بصفته قلبه فإن التفكير حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)(1).
ومنها: ما في إرشاد القلوب عنه عليه السلام قال: (إن هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائدا وسائقا، يقود قوما إلي الجنة أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه، ويسوق قوما إلي النار ضيعوا حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه)(2).
وحذّر من التفسير بالرأي حيث قال: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)(3).
وفي تفسير قوله سبحانه: (وما يعلم تأويله إلاّ اللّه والراسخون في العلم) قال عليه السلام: (ما يعلم المخزون المكنون المكتوم الذي لم يطّلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته)(4).
علي عليه السلام والقرآن:
وله في أبيه علي عليه السلام والقرآن ما في مناقب آل أبي طالب عنه عليه السلام قال: (كل ما في كتاب اللّه: (إن الأبرار) فو اللّه ما أراد به إلاّ علي بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين ؛ لأنّا نحن أبرار بآبائنا وأُمهاتنا، وقلوبنا علت بالطاعات والبرّ وتبرأت من الدنيا وحبها، وأطعنا اللّه في جميع فرائضه وآمنا بوحدانيته وصدقنا برسوله)(5).
وعنه عليه السلام قال: (إن اللّه تبارك وتعالى علّم رسوله الحلال والحرام والتنزيل والتأويل فعلم رسول اللّه عليا علمه كله)(6).
وعنه عليه السلام في ينابيع المودة خطب الناس على المنبر على عهد أبيه علي عليه السلام وبأمره فقال فيما قال: (أيها الناس سمعت جدي صلى الله عليه وآله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها وهل تدخل المدينة إلاّ من بابها)(7).
أهل البيت عليهم السلام:
والإسلام في مدرسة أهل البيت عليهم السلام يرتكز على المعرفة بإمامتهم وولايتهم ومودتهم، وللحسن عليه السلام في ذلك أخبار وأحاديث:
منها: أنه خطب فقال: (أنا من أهل البيت الذين افترض اللّه مودتهم على كل مسلم، فقال تعالى شأنه: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت)(8).
وزاره سفيان بن أبي ليلي فسلّم عليه: السلام عليك يا مذل المؤمنين… ولكنه عليه السلام قال له: (يا سفيان ما جاء بك؟ فقال: حبكم والذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق. فقال له: أبشر يا سفيان فإني سمعت عليا عليه السلام يقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله يقول: إن أهل بيتي ومن أحبهم من أُمتي يردون على الحوض كهاتين: السبابة والوسطي)(9).
وقال عليه السلام في محبتهم: (واللّه لا يحبنا عبد أبدا ولو كان أسيرا في الديلم إلاّ نفعه حبّنا، وإن حبّنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما يساقط الريح الورق من الشجر)(10).
وعنه عليه السلام في التعريف بهم قال: (فنحن الأولون ونحن الآخرون نغدو بروح اللّه ونروح بروحه، إلينا معدنه وفينا مسكنه، والآخر منا كالأول والأول منا كالآخر)(11).
وفي النص على الأئمة الاثني عشر عن جده رسول اللّه: ما رواه علي بن محمد الخزّاز القمي في كتابه (كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر) قال عليه السلام: (إنه لعهد عهده إلينا رسول اللّه قال: إن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد على وفاطمة عليهما السلام ما منا إلاّ مسموم أو مقتول)(12).
ولئلا يشتبه الأمر في قوله في الحديث (يملكه اثنا عشر إماما) أن يكون بمعني تملك الأمر في الظاهر نجد تفسيره في قوله في خبر آخر عنه قال: (ما منا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلاّ القائم الذي يصلي خلفه روح اللّه عيسي بن مريم، فإن اللّه عزّ وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه ؛ لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء يطيل اللّه عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ذي أربعين سنة، ذلك ليعلم أن اللّه على كل شيء قدير)(13).
وكان الناس ولا يزالون مختلفين فيهم عليهم السلام، فلابدّ من أن يبين نظرتهم عليهم السلام في اختلاف الناس فيهم فقال عليه السلام: (إنما الناس ثلاثة:
مؤمن يعرف حقنا ويأتمّ بنا ويسلّم لنا فذلك محبّ وليّ اللّه ناجٍ.
ورجل يدين اللّه بالبراءة منا فيتبرّأ منا ويجحد حقنا وينصب العداوة لنا ويلعن ويستحل دماءنا فهذا فاسق كافر مشرك، وإنما كفر وأشرك من حيث لا يعلم كما سبوا اللّه عدوا بغير علم، كذلك يشرك باللّه بغير علم.
ورجل لا يعرف حقنا فلا يأتم بنا ولكن لا يعادينا بل مع ولايتنا، أخذ بما لا يختلف فيه ورد علم ما أشكل عليه إلي اللّه فنحن نرجو أن يغفر اللّه له ويدخله الجنة، وهذا مسلم ضعيف)(14).
وربما أراد إرشاد مثل هذا فقال لرجل: (إنك البارحة حدثت فلانا بكذا وكذا. فعجب الرجل وقال لصاحبه: إنه ليعلم ما كان؟! فقال عليه السلام: إن اللّه تبارك وتعالى علم رسول اللّه فعلّم رسول اللّه عليا علمه كله، وأمير المؤمنين عليه السلام علّمنيه كله)(15).
وكأن هذا وأمثاله من علومه من جده بلغ عدوه معاوية فكذّب به وقال: متي سمع من جده على صغر سنة؟! فبلغ ذلك الإمام عليه السلام فقال له يوما: (يا معاوية إنك لتكذب بي وتقول: متى سمع من جده على صغر سنه؟! أما واللّه لولا أنك تكفر لأخبرتك بما تعمله: واللّه لتدعينّ زيادا ولتقتلن حجرا وليحملن إليك الرؤوس من بلد إلي بلد)(16).
صلح الإمام الحسن عليه السلام:
ومن أهم الشبهات يومئذ حتى اليوم في إمامته صلحه مع عدوّه معاوية، وقد كثر الكلام في ذلك وتبعا له كثر كلامه عليه السلام في إزاحة تلك الشكوك والشبهات.
ومن كلامه في ذلك من قبيل التحديث بعلمه عن جدّه قال لهم: (ألا إن أمر اللّه واقع إذ لا له رافع وإن كره الناس، وقد علمت ما ينفعني مما يضرني، وإني ما أحببت أن لي من أمر أُمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، فالحقوا ببطونكم، أي بطون عشائركم)(17).
ومن هذا القبيل قوله عليه السلام: (إنما هادنت حقنا للدماء وضنّا بها وإشفاقا على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي)(18).
ولعل من هؤلاء عدي بن حاتم الطائي زعيم بني طي في الكوفة، وكان من الشاكين في ذلك فقال له:
(يا عدي، إني رأيت هوي معظم الناس في الصلح وكره الحرب فلم أُحب أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيت دفع هذه الحرب إلي يوم ما فإن اللّه كل يوم هو في شأن)(19).
ومنهم مسيب بن نجبة الفزاري زعيم بني فزارة في الكوفة فقال له: (يا مسيب، إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر مني عند اللقاء ولا أثبت مني عند الحرب، ولكني أردت صلاحكم وكف بعضكم عن بعض حتى يستريح برّ أو يستراح من فاجر)(20).
وقال له عليه السلام: ولو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا. والحمد للّه الغالب على أمره.
ومنهم من سلّم عليه بقوله: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، وهو بشير الهمداني، فقال له: (لست مذلاً للمؤمنين ولكني معزّهم، ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال)(21).
ولعل منهم حجر بن عدي الكندي، فقال له: (يا حجر، ليس كل إنسان رأيه كرأيك ولا كلهم يحب ما تحبّ، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاء عليكم، واللّه تعالى كل يوم هو في شأن)(22).
وكان من حديثه بعلمه عن جده صلى الله عليه وآله ما كان يخبر به أنه عليه السلام ليس هو وحده الذي يضطر ليبايع طاغية زمانه بل هذا ما يقع على كلهم أو جلّهم إلاّ القائم منهم قال عليه السلام: (ما منا أحد إلاّ ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم الذي يصلي خلفه روح اللّه عيسي بن مريم… ذلك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيدة الإماء)(23).
ومن كلامه في ذلك قوله عليه السلام: (كانت بيدي جماجم العرب، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه اللّه)(24).
ومنهم من سأله عليه السلام وأجابه بشيء من التفصيل لمعني حقن الدماء حسب استعداده وإدراكه، مثل ما روي عن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب: يابن رسول اللّه لم داهنت معاوية وصالحته، فقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟ فقال عليه السلام: (يا أبا سعيد، ألست حجة اللّه تعالى ذكره على خلقه وإماما عليهم بعد أبي؟ قلت: بلي، قال: ألست الذي قال رسول اللّه لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلي. قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذا قعدت. يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.
يا أبا سعيد، إذا كنت إماما من قبل اللّه تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا، ألا تري الخضر لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسي فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا أحد على وجه الأرض إلاّ قتل)(25).
وأكثر تفصيلاً منه ما روي عن زيد بن وهب الجهني قال: قلت له: (إن الناس متحيرون فماذا ترى؟ فقال عليه السلام: إن هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، انتهبوا ثقلي وأخذوا مالي وابتغوا قتلي، واللّه لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهلي وأهل بيتي، واللّه لئن أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي فيكون معاوية وعقبه يمنون بها على الحي منا والميت. قال زيد: فقلت له: يابن رسول اللّه فتترك شيعتك كالغنم لا راعي لهم؟!
فقال عليه السلام: وما أصنع يا أخا جهينة؟ إن أمير المؤمنين عليه السلام رآني ذات يوم فرحا فقال لي: يا حسن أتفرح؟ كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً، وكيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو أُمية وأميرها الواسع الاعفجاج والرحب البلعوم الذي يأكل ولا يشبع… يستولي على شرقها وغربها وتدين له العباد ويطول ملكه، يستنّ بسنن البدع والضلال ويميت الحق وسنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله، يقسم المال في أهل ولايته ويمنعه من هو أحق به، ويذل في ملكه المؤمن ويقوي في سلطانه الفاسق، يجعل المال بين أنصاره دولاً ويتخذ عباد اللّه خولاً، يدرس في سلطانه الحق ويظهر الباطل ويلعن الصالحين ويقتل من ناواه على الحق ويدين من والاه على الباطل)(26).
وزاره سفيان بن أبي ليلي وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين! فقال له عليه السلام: (يا سفيان، إني سمعت عليا عليه السلام يقول: سمعت رسول اللّه يقول: لا تذهب الأيام والليالي حتى تجتمع أمر هذه الأُمة على رجل واسع السرم ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع… فأنا عرفته أنه معاوية وعرفت أن اللّه بالغ أمره… وإنا أهل بيت إذا عرفنا الحق تمسكنا به. أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث اللّه إمام الحق من آل محمد صلى الله عليه وآله)(27).
ولكن ليس معني أن الأُمة تجتمع عليه أنه على الحق، وقد تشبّث به معاوية يوما إذ قال للإمام عليه السلام: يا حسن أنا خير منك! قال عليه السلام: (وكيف ذلك يابن هند؟! قال: لأن الناس قد اجتمعوا علي ولم يجتمعوا عليك! فقال له عليه السلام: يابن آكلة الأكباد، إن المجتمعين عليك رجلان: مطيع ومكره، فالطائع لك عاص للّه، والمكره معذور بكتاب اللّه. ولكن لا أقول أنا خير منك إذ لا خير فيك، إن اللّه برّأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل)(28).
ومن كلامه للرد على المشككين في صلحه بأنه عار عليه وعلي شيعته ما في تحف العقول عنه عليه السلام قال: (العار أهون من النار)(29).
ومن آخر هذه الأخبار في هذا المضمار ما روي عن سالم بن أبي الجُعد عن رجل من قومه دخل على الحسن بن علي عليه السلام وقد دسّ إليه الطاغية سمّا وقع على كبده، فهو يخرج قطعا مع ما يخرج من جوفه من الدم في طست بين يديه، دخل عليه قبيل ذلك وهو لا يعلم بحاله فقال له: (يابن رسول اللّه أذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا ما بقي معك رجل.
فقال الإمام: ممّ ذلك؟ قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية. فقال عليه السلام: واللّه ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أني لم أجد أنصارا، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسدا، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، إنهم ليقولون لنا: إن قلوبهم معنا وإن سيوفهم لمشهورة علينا)(30).
تعليق