ذكرى وقعة بدر، أوَّلِ معركة فاصلة بين الإسلام والكفر، ويومها يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان كما في كتاب الله عز وجل، وكل انتصارات الإسلام بعدها تتفرع عليها، وتستمد منها العزيمة الصادقة وتستضيء بنورها.
كانت وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة، وقد سميت باسم المنطقة التي حصلت المواجهة فيها بين المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله، وبين قريش بكل خيلائها وجبروتها، وهي منطقة تقع على بعد حوالي مائة وسبعين كيلو متراً عن المدينة باتجاه مكة، وتبعد عن مكة حوالي مائتين وثلاثين كيلو متراً.
وكانت هذه المنطقة في طريق قوافل قريش التي كانت تسيَّر بانتظام بين مكة والشام، وهو مايعني أنها كانت ممراً حيوياً بل واستراتيجياً لتجارة قريش التي تشكل عصب حياتها الإقتصادية وبالتالي السياسية.
طيلة ثلاثة عشر عاماً من بعثة المصطفى صلى الله عليه وآله، بذل عتاة مكة كل ما أمكنهم لإطفاء نور الله تعالى، فلم يزدد الإسلام إلا توهجاً.
صبر المسلمون على الأذى، وصمدوا أمام التحديات التي تُوِّجت بحصار الشعب والذي استمر أكثر من ثلاث سنوات.
ومن الواضح أن قريشاً كانت ماضية قُدماً في تصعيد خطواتها ضد الإسلام لمنع انتشاره، بل وأوغلت في تنفيذ ذلك إلى حد المحاولات المتكررة لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله، الأمر الذي أدى إلى هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة في ظروف حتّمت هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله.
وقد واصلت قريش عدوانها على الرسول والرسالة حتى بعد الهجرة، محاولة استغلال نفوذها وهيمنتها على العرب وعلاقاتها باليهود في المدينة، بالإضافة إلى محاولات الإغتيال المتكررة التي خُطط لها في مكة، واستهدفت رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو في المدينة المنورة.
لقد احتضنت المدينة الإسلام في ظروف سياسية بالغة التعقيد تتشابك في رسمه عناصر أربعة: الصراع القبلي الحاد بين الأوس والخزرج، والحضور اليهودي الفاعل، وضغوط قريش على أهل المدينة بهدف منعهم من التحالف مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وسرعان مابرزت محاولات النصارى لاختراق الجبهة الداخلية للمدينة عبر أبي عامر الراهب ومسجد الضرار.
وقد حرصت قريش على زرع العقبات في طريق بناء نواة الكيان السياسي الإسلامي، من خلال توظيف ثقلها السياسي في المدينة لتأليب الأطراف على رسول الله صلى الله عليه وآله.
كان ذلك يعني أن المعركة مستمرة بين الإسلام وقريش، ولو بصيغة" الحرب الباردة" وكان استمرار قريش قي الإفادة من ممرها الحيوي على مقربة من المدينة المنوِّرة، يتيج لها مواصلة تآمرها من موقع المتمكن من زمام الأمور في شبه الجزيرة، كما كان حرمانها من هذا الممر الحيوي الآمن يشكل أول رد جذري على مسيرتها العدوانية الحافلة والتي أخذت منحىً تصاعدياًمنذ إعلان الدعوة، ولم تكن المدينة بمنطق موازين القوى عقبة أمام جبروت قريش، الأمر الذي يعني بجلاء أن غزو المدينة كان الخيار المتعين في حال فشل الأساليب الأخرى السياسية والأمنية.
في هذا السياق جاء تصدي المسلمين بقيادة المصطفى لجبروت قريش عبر استهداف قافلتها التي كانت قادمة من الشام بقيادة أبي سفيان، رداً على هذا العدوان المستمر بما يسهم في إضعافه ويفرض معادلة جديدة تمكن الدعوة من شق طريقها بالكلمة والموعظة الحسنة والتأسيس لحماية ذلك بالقوة حين تدعو الحاجة.
وقد تطور الموقف بسرعة متوقعة لأن "أم القرى" مركز الثقل السياسي والعسكري في الجزيرة العربية آنذاك لم تكن تتحمل قيام كيانٍ سياسي بقيادة " محمد والصُّباة معه".
قرأت قريش الموقف بأبعاده، واستنفرت كل طاقتها الهجومية – دون حلفائها- وخرج كل عتاتها ماعدا أبا لهب الذي مات بالطاعون بعد بدر بفترة وجيزة، لشن هجوم أرادته حاسماً ونهائياً.
وفي المقابل لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله بكل ثقله العسكري. كأن الله تعالى أراد استدراج كل قريش ليقتلها بصفوة مختارة هي من شهد المعركة وكشفت مواقفه يقينه، وشارك فيها.
وكأن الله تعالى أراد أن تكون المعركة الأولى بين الإسلام والكفر غير متكافئة مادياً.
* على مشارف المعركة
وفي القرآن الكريم حديث وافٍ عن بدر، ومن ذلك قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين (إما القافلة وإما قريش) أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم (أي القافلة، والشوكة بمعنى القوة،فالمراد أنكم لم تكونوا تريدون أن تخوضوا حرباً، والنصرعلى قريش يتو قف على خوضها) ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين".
لم يوضح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم للمسلمين - وهو ما أُمر به كما يفهم من الآية المتقدمة - أن المعركة واقعة لا محالة وإنما عرف المسلمون إجمالاً أن هناك نصراً، فإما أن يرجعوا بالقافلة أو ينتصروا على قريش.
وكان الله عز وجل يريد أن تقع المعركة، إلا أن المسلمين خرجوا وهم لا يجزمون بوقوعها، ويظهر من بعض النصوص أن الذين خاضوا المواجهة مع قريش من المسلمين لم يكونوا جميع المسلمين آنذاك فقد بقي قسم منهم في المدينة لعدم توقعهم تطور الموقف إلى مواجهة عسكرية، لذلك نجد أن سعد بن معاذ يتحدث على مشارف وقوع المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيقول له: "يارسول الله ألا نبني لك عريشاً ونُعِدُّ عندك ركائبك، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يانبي الله ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحوك ويجاهدون معك؟ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله خيراً، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وآله عريش فكان فيه".
ولاينافي ذلك أن يكون بعضهم لم يخرج لاحتمال وقوع الحرب، أو لأنه لايستسيغ التعرض لسلطة قريش، كما لاينافي أن يكون بعض من حضر المواجهة وهو في الظاهر في عداد المسلمين كارهاً لها، وبطريق أوْلى لنتائجها المدوية.
وعندما أصبحت المواجهة حتمية لجأ المسلمون المخلصون إلى التضرع والإستغاثة.
قال تعالى "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين" وهذه الآية المباركة صريحة الدلالة على الجو النفسي الذي عاشه المسلمون على أبواب وقوع الحرب بعد أن رأوا أن قريشاً خرجت بكظّها وكظيظها، وهم قِلّة، فتوجهوا إلى الله تعالى مستغيثين، فوعد هم الله عز وجل بألف من الملائكة مردفين أي مع كل منهم رديف له فيكون الإمداد بألفين "وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئنّ به قلوبهم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم".
هل الملائكة سبب النصر أم أن الله تعالى هو مسبب كل سبب؟
بما أن الله تعالى هو الناصر "نِعمَ المولى ونِعمَ النصير" فإن باستطاعته أن يحقق النصر، ولو لم يُنزل الملائكة، فالنصر الذي هو من عند الله شيءٌ آخر غير نزولهم لنصرة المؤمنين وتثبيتهم، ولذلك فإن الله تعالى لم يجعل الملائكة لأهل بدر إلا بشرى لتطمئنّ به القلوب.
ولدى محاولة التعرف إلى الجو النفسي للمنافقين فقد حدّثنا عنهم عز وجل بقوله "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرَّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم".
وينبغي التأمل في العطف الوارد في الآية، ويبدو منه أن هناك من كان في قلوبهم مرض وقد وصل إلى حد النفاق، وهناك أيضاً من كان في قلوبهم مرض ولكنه لم يصل إلى ذلك ولا تحصر الآية الحديث عمن كانوا في المدينة من المسلمين بل إن مصبها الذين حضروا الوقعة.
أما في صفوف قريش فقد كان الجو العام اليقين بالنصر وأن المسلمين "أكلة جزور" سرعان ما يتمكنون من القضاء عليهم، ولم أجد إلا نصَّين يغايران ذلك، نصاً لعتبة بن ربيعة يحث على عدم الحرب بدافع الحرص على الأقارب، والنص الآخر لمن كلّفته قريش بالإستطلاع يؤكد أن المسلمين كتلة تصميم على القتال والنزال، ولن يموت أيّ منهم إلا بعد أن يقتل واحداً على الأقل ولا خير في العيش فيما إذا قتل هؤلاء عِدَّتهم من قريش.
كان الجو العام في قريش جو النصر الأكيد المُحَتَّم.
ماذا جرى؟
كما نعلم سرعان ما انجلى غبار النقع وإذا بعُتاة قريش في عداد الهالكين "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وليقطع دابر الكافرين".
* من صوَر الجهاد البدري
أذكر هنا بعض الصور من جهاد المسلمين في بدر:
1- جاء في " تاريخ الخميس": "ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يثب في الدرع وهو يقول "سيُهزم الجمع ويولَّون الأدبار" فحرّضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابراً محتسباً مُقبِلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، فقال أحد المسلمين وهوعمير بن الحمام وكان في يده تمرات يأكلهم قال: بخٍ بخٍ (أي هنيئاً هنيئاً) فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه وأقبل يقاتل القوم وهو يقول:
ركضـاً إلى الله بغير زادِ****إلا التقـى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد****وكل زادٍ عُرضة النفـاد
غير التقى والبر والرشادِ
2- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عون بن الحارث يا رسول الله ماذا يُضحك الرب من عبده (ما الذي يفرح الرب من عبده) قال المصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله وسلّم: غمسُهُ يده في العدو حاسراً (أي بدون درع) فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتِل.
3- " أخذ صلى الله عليه وآله وسلّم حفنة من الحصاء فاستقبل بها قريش، ثم قال: شاهت الوجوه ثم نفحهم بها، ثم أمر أصحابه فقال: شدوا فكانت الهزيمة وجعل الله تلك الحصاء عظيمٌ شأنها لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه، واستولى عليهم المسلمون ومعهم الله والملائكة يقتلونهم ويأسرونهم".
4- سمع بعض المسلمين صوتاً يقول:أشدد حيزوم. وكان القائل من الملائكة. وقيل إن حيزوم اسم فر س جبرئيل عليه السلام. وكان المسلمون يعرفون قتلى الملائكة من الضرب فوق الأعناق ومن ضرب الأصابع، وكانت ضربات الملائكة تترك آثاراً سوداً.
5- رأى بلال الحبشي هذا العبد المستضعف بالأمس في مكة، أحد عتاة قريش "أمية بن خلف" فحمل عليه بلال وقال: رأس الكفر لا نجوتُ إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: ياأنصار الله، رأس الكفر، أمية بن خلف، لانجوت إن نجا، وهجم المسلمون عليه على ابنه يقول النص: وهبروهما بأسيافهم.
وكما في كل وقعة من وقعات صدر الإسلام كان للمولى الحبيب أبي الحسن عليه السلام دوره البارز في الإلتزام بأوامر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم والدفاع عن الرسالة، ولقد قتل من المشركين النصف وقتل الملائكة والمسلمون النصف الآخر، وأقل عدد لمن قتلهم عليه السلام هو الثلث على رأيٍ، ولئن أُتيح له عليه السلام أن يشارك في حروب كثيرة بعد ذلك، إلا أنه لم يُتَح لحمزة أسد الله وأسد رسوله أن يعيش طويلاً.
من هنا فإن من الضروري أن نتأمل في الدور الجهادي الذي خاضه المولى الجليل حمزة رضوان الله تعالى عليه. ومما ورد حوله رضوان الله تعالى عليه: "..كان حمزة عليه السلام قد رضع مع رسول الله صلى الله عليه وآله، أرضعتهما امرأة من مكة ( يقال لها: ثويبة ) وهاجر حمزة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة وشهد بدراً، ولما أن توافقوا للقتال يومئذٍ برز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا للمبارزة، فبرز إليهم علي عليه السلام وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد كان يومئذ شيخاً مسناً، خرج إلى المبارزة يتوكأ على عصاه، ولما أن تبارزا يومئذ أنزل الله عز وجل فيهم " هذان خصمان اختصموا في ربهم " الآية. فبارز علي عليه السلام الوليد بن عتبة فقتله، وبارز حمزة شيبة فقتله.
وبارز عبيدة بن الحارث عتبة، فاختلف بينهما ضربتان أثبت كل واحد منهما صاحبه، فعطف حمزة عليه السلام وعلي عليه السلام على عتبة، فقتلاه، واستنقذا عبيدة بن الحارث، وقد قطع عتبة رجله، فمات من ذلك بعد منصرفهم إلى المدينة بالصفراء. وقتل حمزة يومئذ طعيمة بن عدي، وسبأ الخزاعي، وجماعة من المشركين، وكان حمزة يدعى أسد الله وأسد رسوله، لنجدته وشجاعته وإقدامه، وشهد يوم أحد، فأبلى من المشركين بلاء شديداً، وقتل منهم عدداً كثيراً، وقتل يومئذ عثمان بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين. وكان إذا هجم يومئذ انفرجوا، ولم يقم أحد منهم له".
كانت وقعة بدر في السنة الثانية للهجرة، وقد سميت باسم المنطقة التي حصلت المواجهة فيها بين المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله، وبين قريش بكل خيلائها وجبروتها، وهي منطقة تقع على بعد حوالي مائة وسبعين كيلو متراً عن المدينة باتجاه مكة، وتبعد عن مكة حوالي مائتين وثلاثين كيلو متراً.
وكانت هذه المنطقة في طريق قوافل قريش التي كانت تسيَّر بانتظام بين مكة والشام، وهو مايعني أنها كانت ممراً حيوياً بل واستراتيجياً لتجارة قريش التي تشكل عصب حياتها الإقتصادية وبالتالي السياسية.
طيلة ثلاثة عشر عاماً من بعثة المصطفى صلى الله عليه وآله، بذل عتاة مكة كل ما أمكنهم لإطفاء نور الله تعالى، فلم يزدد الإسلام إلا توهجاً.
صبر المسلمون على الأذى، وصمدوا أمام التحديات التي تُوِّجت بحصار الشعب والذي استمر أكثر من ثلاث سنوات.
ومن الواضح أن قريشاً كانت ماضية قُدماً في تصعيد خطواتها ضد الإسلام لمنع انتشاره، بل وأوغلت في تنفيذ ذلك إلى حد المحاولات المتكررة لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله، الأمر الذي أدى إلى هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة في ظروف حتّمت هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله.
وقد واصلت قريش عدوانها على الرسول والرسالة حتى بعد الهجرة، محاولة استغلال نفوذها وهيمنتها على العرب وعلاقاتها باليهود في المدينة، بالإضافة إلى محاولات الإغتيال المتكررة التي خُطط لها في مكة، واستهدفت رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو في المدينة المنورة.
لقد احتضنت المدينة الإسلام في ظروف سياسية بالغة التعقيد تتشابك في رسمه عناصر أربعة: الصراع القبلي الحاد بين الأوس والخزرج، والحضور اليهودي الفاعل، وضغوط قريش على أهل المدينة بهدف منعهم من التحالف مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وسرعان مابرزت محاولات النصارى لاختراق الجبهة الداخلية للمدينة عبر أبي عامر الراهب ومسجد الضرار.
وقد حرصت قريش على زرع العقبات في طريق بناء نواة الكيان السياسي الإسلامي، من خلال توظيف ثقلها السياسي في المدينة لتأليب الأطراف على رسول الله صلى الله عليه وآله.
كان ذلك يعني أن المعركة مستمرة بين الإسلام وقريش، ولو بصيغة" الحرب الباردة" وكان استمرار قريش قي الإفادة من ممرها الحيوي على مقربة من المدينة المنوِّرة، يتيج لها مواصلة تآمرها من موقع المتمكن من زمام الأمور في شبه الجزيرة، كما كان حرمانها من هذا الممر الحيوي الآمن يشكل أول رد جذري على مسيرتها العدوانية الحافلة والتي أخذت منحىً تصاعدياًمنذ إعلان الدعوة، ولم تكن المدينة بمنطق موازين القوى عقبة أمام جبروت قريش، الأمر الذي يعني بجلاء أن غزو المدينة كان الخيار المتعين في حال فشل الأساليب الأخرى السياسية والأمنية.
في هذا السياق جاء تصدي المسلمين بقيادة المصطفى لجبروت قريش عبر استهداف قافلتها التي كانت قادمة من الشام بقيادة أبي سفيان، رداً على هذا العدوان المستمر بما يسهم في إضعافه ويفرض معادلة جديدة تمكن الدعوة من شق طريقها بالكلمة والموعظة الحسنة والتأسيس لحماية ذلك بالقوة حين تدعو الحاجة.
وقد تطور الموقف بسرعة متوقعة لأن "أم القرى" مركز الثقل السياسي والعسكري في الجزيرة العربية آنذاك لم تكن تتحمل قيام كيانٍ سياسي بقيادة " محمد والصُّباة معه".
قرأت قريش الموقف بأبعاده، واستنفرت كل طاقتها الهجومية – دون حلفائها- وخرج كل عتاتها ماعدا أبا لهب الذي مات بالطاعون بعد بدر بفترة وجيزة، لشن هجوم أرادته حاسماً ونهائياً.
وفي المقابل لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله بكل ثقله العسكري. كأن الله تعالى أراد استدراج كل قريش ليقتلها بصفوة مختارة هي من شهد المعركة وكشفت مواقفه يقينه، وشارك فيها.
وكأن الله تعالى أراد أن تكون المعركة الأولى بين الإسلام والكفر غير متكافئة مادياً.
* على مشارف المعركة
وفي القرآن الكريم حديث وافٍ عن بدر، ومن ذلك قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين (إما القافلة وإما قريش) أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم (أي القافلة، والشوكة بمعنى القوة،فالمراد أنكم لم تكونوا تريدون أن تخوضوا حرباً، والنصرعلى قريش يتو قف على خوضها) ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين".
لم يوضح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم للمسلمين - وهو ما أُمر به كما يفهم من الآية المتقدمة - أن المعركة واقعة لا محالة وإنما عرف المسلمون إجمالاً أن هناك نصراً، فإما أن يرجعوا بالقافلة أو ينتصروا على قريش.
وكان الله عز وجل يريد أن تقع المعركة، إلا أن المسلمين خرجوا وهم لا يجزمون بوقوعها، ويظهر من بعض النصوص أن الذين خاضوا المواجهة مع قريش من المسلمين لم يكونوا جميع المسلمين آنذاك فقد بقي قسم منهم في المدينة لعدم توقعهم تطور الموقف إلى مواجهة عسكرية، لذلك نجد أن سعد بن معاذ يتحدث على مشارف وقوع المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيقول له: "يارسول الله ألا نبني لك عريشاً ونُعِدُّ عندك ركائبك، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يانبي الله ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحوك ويجاهدون معك؟ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله خيراً، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وآله عريش فكان فيه".
ولاينافي ذلك أن يكون بعضهم لم يخرج لاحتمال وقوع الحرب، أو لأنه لايستسيغ التعرض لسلطة قريش، كما لاينافي أن يكون بعض من حضر المواجهة وهو في الظاهر في عداد المسلمين كارهاً لها، وبطريق أوْلى لنتائجها المدوية.
وعندما أصبحت المواجهة حتمية لجأ المسلمون المخلصون إلى التضرع والإستغاثة.
قال تعالى "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين" وهذه الآية المباركة صريحة الدلالة على الجو النفسي الذي عاشه المسلمون على أبواب وقوع الحرب بعد أن رأوا أن قريشاً خرجت بكظّها وكظيظها، وهم قِلّة، فتوجهوا إلى الله تعالى مستغيثين، فوعد هم الله عز وجل بألف من الملائكة مردفين أي مع كل منهم رديف له فيكون الإمداد بألفين "وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئنّ به قلوبهم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم".
هل الملائكة سبب النصر أم أن الله تعالى هو مسبب كل سبب؟
بما أن الله تعالى هو الناصر "نِعمَ المولى ونِعمَ النصير" فإن باستطاعته أن يحقق النصر، ولو لم يُنزل الملائكة، فالنصر الذي هو من عند الله شيءٌ آخر غير نزولهم لنصرة المؤمنين وتثبيتهم، ولذلك فإن الله تعالى لم يجعل الملائكة لأهل بدر إلا بشرى لتطمئنّ به القلوب.
ولدى محاولة التعرف إلى الجو النفسي للمنافقين فقد حدّثنا عنهم عز وجل بقوله "إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرَّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم".
وينبغي التأمل في العطف الوارد في الآية، ويبدو منه أن هناك من كان في قلوبهم مرض وقد وصل إلى حد النفاق، وهناك أيضاً من كان في قلوبهم مرض ولكنه لم يصل إلى ذلك ولا تحصر الآية الحديث عمن كانوا في المدينة من المسلمين بل إن مصبها الذين حضروا الوقعة.
أما في صفوف قريش فقد كان الجو العام اليقين بالنصر وأن المسلمين "أكلة جزور" سرعان ما يتمكنون من القضاء عليهم، ولم أجد إلا نصَّين يغايران ذلك، نصاً لعتبة بن ربيعة يحث على عدم الحرب بدافع الحرص على الأقارب، والنص الآخر لمن كلّفته قريش بالإستطلاع يؤكد أن المسلمين كتلة تصميم على القتال والنزال، ولن يموت أيّ منهم إلا بعد أن يقتل واحداً على الأقل ولا خير في العيش فيما إذا قتل هؤلاء عِدَّتهم من قريش.
كان الجو العام في قريش جو النصر الأكيد المُحَتَّم.
ماذا جرى؟
كما نعلم سرعان ما انجلى غبار النقع وإذا بعُتاة قريش في عداد الهالكين "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وليقطع دابر الكافرين".
* من صوَر الجهاد البدري
أذكر هنا بعض الصور من جهاد المسلمين في بدر:
1- جاء في " تاريخ الخميس": "ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهو يثب في الدرع وهو يقول "سيُهزم الجمع ويولَّون الأدبار" فحرّضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابراً محتسباً مُقبِلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، فقال أحد المسلمين وهوعمير بن الحمام وكان في يده تمرات يأكلهم قال: بخٍ بخٍ (أي هنيئاً هنيئاً) فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه وأقبل يقاتل القوم وهو يقول:
ركضـاً إلى الله بغير زادِ****إلا التقـى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد****وكل زادٍ عُرضة النفـاد
غير التقى والبر والرشادِ
2- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عون بن الحارث يا رسول الله ماذا يُضحك الرب من عبده (ما الذي يفرح الرب من عبده) قال المصطفى الحبيب صلى الله عليه وآله وسلّم: غمسُهُ يده في العدو حاسراً (أي بدون درع) فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتِل.
3- " أخذ صلى الله عليه وآله وسلّم حفنة من الحصاء فاستقبل بها قريش، ثم قال: شاهت الوجوه ثم نفحهم بها، ثم أمر أصحابه فقال: شدوا فكانت الهزيمة وجعل الله تلك الحصاء عظيمٌ شأنها لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه، واستولى عليهم المسلمون ومعهم الله والملائكة يقتلونهم ويأسرونهم".
4- سمع بعض المسلمين صوتاً يقول:أشدد حيزوم. وكان القائل من الملائكة. وقيل إن حيزوم اسم فر س جبرئيل عليه السلام. وكان المسلمون يعرفون قتلى الملائكة من الضرب فوق الأعناق ومن ضرب الأصابع، وكانت ضربات الملائكة تترك آثاراً سوداً.
5- رأى بلال الحبشي هذا العبد المستضعف بالأمس في مكة، أحد عتاة قريش "أمية بن خلف" فحمل عليه بلال وقال: رأس الكفر لا نجوتُ إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: ياأنصار الله، رأس الكفر، أمية بن خلف، لانجوت إن نجا، وهجم المسلمون عليه على ابنه يقول النص: وهبروهما بأسيافهم.
وكما في كل وقعة من وقعات صدر الإسلام كان للمولى الحبيب أبي الحسن عليه السلام دوره البارز في الإلتزام بأوامر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم والدفاع عن الرسالة، ولقد قتل من المشركين النصف وقتل الملائكة والمسلمون النصف الآخر، وأقل عدد لمن قتلهم عليه السلام هو الثلث على رأيٍ، ولئن أُتيح له عليه السلام أن يشارك في حروب كثيرة بعد ذلك، إلا أنه لم يُتَح لحمزة أسد الله وأسد رسوله أن يعيش طويلاً.
من هنا فإن من الضروري أن نتأمل في الدور الجهادي الذي خاضه المولى الجليل حمزة رضوان الله تعالى عليه. ومما ورد حوله رضوان الله تعالى عليه: "..كان حمزة عليه السلام قد رضع مع رسول الله صلى الله عليه وآله، أرضعتهما امرأة من مكة ( يقال لها: ثويبة ) وهاجر حمزة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة وشهد بدراً، ولما أن توافقوا للقتال يومئذٍ برز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا للمبارزة، فبرز إليهم علي عليه السلام وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد كان يومئذ شيخاً مسناً، خرج إلى المبارزة يتوكأ على عصاه، ولما أن تبارزا يومئذ أنزل الله عز وجل فيهم " هذان خصمان اختصموا في ربهم " الآية. فبارز علي عليه السلام الوليد بن عتبة فقتله، وبارز حمزة شيبة فقتله.
وبارز عبيدة بن الحارث عتبة، فاختلف بينهما ضربتان أثبت كل واحد منهما صاحبه، فعطف حمزة عليه السلام وعلي عليه السلام على عتبة، فقتلاه، واستنقذا عبيدة بن الحارث، وقد قطع عتبة رجله، فمات من ذلك بعد منصرفهم إلى المدينة بالصفراء. وقتل حمزة يومئذ طعيمة بن عدي، وسبأ الخزاعي، وجماعة من المشركين، وكان حمزة يدعى أسد الله وأسد رسوله، لنجدته وشجاعته وإقدامه، وشهد يوم أحد، فأبلى من المشركين بلاء شديداً، وقتل منهم عدداً كثيراً، وقتل يومئذ عثمان بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين. وكان إذا هجم يومئذ انفرجوا، ولم يقم أحد منهم له".
تعليق