بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
(شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ، وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ ويَبْقَى أَجْرُهُ)
.
كل عمل يعمله الإنسان لابد أن يكون له منبع، ومن المنبع تتكون له حاضنة، مثل الماء الذي ينبع من الأصل ثم يجري هذا الماء في قنوات حتى يصل إلى بحيرة أو بحر، والمنبع الأساسي لكل أعمالنا هو منهج الإمام علي (عليه السلام) والحاضنة التي تحتضن العمل الصالح هو منهج الغدير النابع من ذلك النبع العظيم، الذي نبني من خلاله حياتنا والسير في الطريق المستقيم.
وكل عمل سواء كان صالحا أو غير صالح، لابد أن يكون له منبع وحاضنة، فإذا اختار الإنسان النبع الصحيح، سوف يعيش حياة سليمة تتبع المنبع والحاضنة. فبعد أن يخرج الماء سيذهب إلى بحر أو بحيرة، وقد يخرج من نبع مسموم وموبوء بالأمراض والجراثيم، حينئذ تكون أعماله ملوثة وطالحة.
الغدير منبع الأعمال الصالحة
لذلك نحن نعتقد بأن منبع ومنهج الغدير هو منبع الأعمال الصالحة، وهناك تشاكل وارتباط بين الإنسان وبين عمله، فكل عمل صالح يعمله سوف يؤدي إلى بناء جيد في داخله، لأن الإنسان يتشكّل من خلال أعماله، واختياره لهذه الأعمال، فإذا كانت أعماله سيئة غالبة عليه، تصبح شخصيته سيئة لأن أعماله تنعكس على بناء شخصيته وتشكيلها وتؤثر في طريقة تفكيره وتعامله مع الآخرين واتجاهاته في الحياة.
فإذا كانت أعماله صالحة وهو الذي اختارها بنفسه، فإن شخصيته تكون جيدة وصالحة أيضا، فهاتان نقطتان مهمتان في عملية بناء الاتجاه في طريق العمل الصالح.
يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) البينة 7. بمعنى أفضل الناس، لأن أعمالهم تجعلهم يتكاملون بشخصياتهم ويصبحون الأفضل من ناحية الخير والبركة والأخلاق الحسنة والإيمان والاعتقاد، ونفع الناس وإصلاح الأمور، وكلما تضاءلت الأعمال الصالحة من الإنسان، ينعكس هذا عليه أيضا، ويتسافل ويصبح لا شيء ولا معنى في حياته، لذلك فإن المعنى الكبير الذي نقصده ونذهب إليه هو نهج الغدير لأنه منبع الأعمال الصالحة.
إن الإنسان اليوم غالبا ما يقلق ويفكر ماذا يفعل في دنياه، فيعيش حالة قلق ولا ينام ليله، ويفكر في النهار أيضا فماذا يفعل وماذا يختار، ويتأثر بالآخرين وبالأجواء المحيطة به، نحن نقوله له إن المنبع موجود فاذهب إلى هذا النبع الأصيل اللذيذ الطيب وانهل واشرب منه حتى تُسعَد بالأعمال الصالحة.
نهج الغدير يغذّينا باليقين
من المفارقات العجيبة أن الإنسان يكون عطشانا وهو بالقرب من المنبع لكنه لا يشرب منه، ولو (غَرفة) أو شربة واحدة، هذه مشكلة كبيرة يعيشها الإنسان، لأن هذا المنبع موجود وهذه الكلمات الطيبة، وهذا النهج العظيم الذي يرفع عنك القلق، ويغذيكَ باليقين، ويغذيك بالعلم والمعرفة والاستقرار والاطمئنان النفسي.
لماذا تذهب عطشانا، ولماذا تختار الأشياء السيئة وتنخدع بالآخرين، إن المشكلة تكمن في أن الناس ينخدعون بالتضليل، وبالشعارات والأقوال والقضايا الأخرى، لكن على الإنسان أن لا ينخدع، ولابد أن يذهب مباشرة إلى النبع الأصيل وهو الإمام علي (عليه السلام).
فعنه (عليه السلام): (إياك وكل عمل ينفّر عنك حرّا أو يذل لك قدرا أو يجلب عليك شرا أو تحمل به إلى القيامة وزرا)، لقد لخّصت هذه الكلمات لنا منهج حياة كامل، فلا تعمل عملا يجعل الحرّ ينفر منك، فمن هو الإنسان الحر؟، إنه الإنسان العاقل الفاهم الناضج الذي يتمتع باستقلال شخصيته، وفي مقابله ذلك الإنسان العبد لشهواته وأهوائه.
العمل السيّء مرغوب من قبل عبيد الأهواء، أما إذا كان الإنسان ذا شخصية مستقلة ويكون متقيا ورِعا، فإنه يتنفّر من العمل السيّء، وهذا مقياس لمعرفة العمل الصالح من العمل الطالح، العمل الصالح يخص الصالحين والأتقياء الأحرار، فالإنسان الحر المستقل بشخصيته لا يقبل الخطأ لأنه إنسان عاقل، أما العمل الطالح فهو الذي يفرح به عبيد الدنيا والأهواء.
معرفة الاحرار للعمل الصالح
هناك بعض الناس إذا قابلوا إنسانا متّقيا فإنهم يهربون منه، لأن المتقي يعبر عن الأعمال الصالحة، والإنسان الحر يعبّر عن العمل الصالح، عليك اختيار العمل وفق مقاييس محددة، لنفترض أنك في كربلاء وقمت بعمل ما، فهل يقبله الإمام الحسين (عليه السلام)، وهل يقبله الإنسان الحر؟
لذلك هناك جانبان، الأول هو عليك أن تفكر بالعمل الذي تقوم به، وما هي عواقب هذا العمل، والثاني هل سيقبله الأحرار والمتقين والصالحين؟، إذا لم يقبله الأحرار فإياك منه، اتركه، (والإنسان على نفسه بصيرة ومعرفة في هذا الأمر).
اختيار اقدار الشر
(يذل لك قدرا أو يجلب عليك شرا): إن التعصب لشيء معين هو نوع من أنواع العبودية للمزاج والأهواء، وفيه نوع من التجبّر والتكبّر على الآخرين، وهذا يخالف طريقة الأحرار والمتقين والصالحين، وإذا كان هذا العمل سيئا فإنه بالنتيجة سوف يقودك إلى طريق الأقدار التي يختارها الإنسان من خلال أعماله، فيأخذك هذا العمل السيّئ إلى طريق فيه أقدار غير جيدة.
هذا الأمر واضح كالإنسان الذي يذهب في طريق شرب الخمر، أو يتناول المخدرات، أو يذهب في طريق الفساد المالي والإداري، فهذه الأمور سوف يقوده إلى عاقبة سيئة جدا ستدمره حتما.
أو يجلب له شرّا، فعليك أن تفكر في أن هذا العمل الذي تنوي القيام به، هل عاقبته جيدة أم لا، وهل فيه خير أم فيه شر؟.
(أو تحمل به إلى القيامة وزرا)، أي يبقى معك العمل إلى يوم القيامة، وهذه النقاط التي يذكرها الإمام علي (عليه السلام) متشابهة ومتداخلة ولكن هناك تفكيك بين الأعمال، بعض هذه الأعمال قد تكون مباحة، ولا إشكالات فيها، وهناك أعمال مكروهة أو محرمة، فيجب التفريق بين هذه الأمور حتى يتخيّر الإنسان بنفسه العمل الصالح والجيد.
معاني العمل الصالح
هنا ربما يسأل بعضهم، ما هو العمل الصالح وكيف نميزه عن الطالح؟
انه العمل الجيد، الذي تكون فيه جودة، وهو يقف في مقابل العمل الرديء، والعمل الصالح هو العمل المتقَن في مقابل العمل الركيك، كذلك هو العمل الماهر والذكي، وعلى الإنسان أن يتخيّر الأعمال الذكية في حياته وليس الأعمال الغبية.
ومن الأعمال الصالحة، العمل التعاوني الذي يجب أن يتشارك فيه الإنسان مع الآخرين، ويتعاون معهم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة 2. لأن من أهم مصاديق العمل الصالح التعاون في العمل، ويتجسَّد الإنسان المؤمن الصالح بأعماله في طاقته التعاونية.
كذلك العمل التشاركي، حيث يكون فيه مشاركة مع الآخرين وليس العمل الأناني وهو عمل سيّء وفردي، والعمل الصالح هو الذي تكون فيه عاقبة حسنة في مقابل العاقبة السيئة، كذلك العمل الحسن وهو ما يستحسنه الشرع والعرف، والعمل الخيِّر في مقابل الشر.
من الأعمال الصالحة، العمل الإصلاحي الذي يُعد من أهم مصاديق العمل الصالح في مقابل العمل في الإفساد أو القطيعة، (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم)، فالإصلاح هو الذي يوجد فيه بناء وتشييد ونمو في مقابل العمل الهدّام.
العمل الصالح في المصلحة العامة
والعمل الذي فيه مصلحة عامة هو عمل صالح أيضا، فتكون فوائد هذا العمل لصالح كل الناس.
مثال عن ذلك هناك من يجلب بضاعة تفيد المصلحة العامة، وتارة أخرى يجلب بضاعة يستفيد منها بعض الأغنياء أو فئة قليلة فقط، يوجد فرق بين المصلحة الشخصية والعامة، فهناك من يجلب بضاعة لكي يربح هو شخصيا ولا يستفيد منها عامة الناس، لذلك فإن العمل الذي يستفيد منه عامة الناس تكون فيه بركة ونمو وتزايد.
والعمل النافع والمثمر من الأعمال الصالحة حيث فيه إنتاج وثمرة ونفع للناس وليس للنفع الذاتي فقط. فلا يجوز جلب بضاعة تضر الناس، فالعمل الصالح هو العمل الذي ينفع الناس.
كذلك العمل الذي فيه تقوى و ورع، ويوجد تأكيد على هذا النوع من العمل، أما إذا لا يوجد ورع في العمل فلا تنطبق عليه معايير العمل الصالح مطلقا، وأيضا العمل الذي فيه أجر وثواب هو عمل صالح.
كذلك العمل الذي فيه سلم وتسالم، وتصالح بين الناس، وهنالك معان كثيرة توجد لدينا منها الفضائل والأخلاق الحسنة، فكل عمل ينفع الناس ومثمر وينتهي إلى العاقبة الحسنة والخير هو عمل صالح، فالعمل الصالح بالنتيجة هو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
غياب الثقافة التعاونية
يتبادر هنا سؤال مهم إذا كانت لدينا منهجية الغدير فلماذا تأخرنا عن الأمم الأخرى؟، لقد ذكرنا بعض الأسباب سابقا، ومنها غياب الإتقان، ووجود المعاصي، وغياب الذكاء والتعاون والمشاركة، والمصلحة العامة والإصلاح، كل هذه المسميات هي من معاني العمل الصالح، ولكن أين نعثر اليوم على إنسان توجد عنده ثقافة تعاونية وهي أساس الثقافة الإسلامية؟
الإسلام أساسه التعاون، والإنسان المسلم هو الإنسان المتعاون، ولكن هناك نرجسية عالية عند البعض ولا يقبل التعاون مع الآخرين، ويقول أنا فقط.
شروط انجاز العمل الصالح
الشرط الأول: أن يقدم الأهم على المهم.
الاختيار بين غير المهم والمهم والأهم، العمل الصالح هو الأهم، وله أولوية.
الشرط الثاني: أن يكون هذا العمل نابعا من الوظيفة والمسؤولية الشرعية وليس من الرغبة الذاتية.
والفرق بين الحاجة والرغبة، ان العمل الصالح هو الأكثر مطلوبية وهو العمل الذي يسد حاجة، وليس العمل الذي يأتي من خلال الرغبات الذاتية، هناك من يعمل عملا صالحا ولكن من خلال رغباته الذاتية، لذلك أكدنا على التقوى والورع، فالعمل الصالح هو الذي ينبع من الوظيفة والمسؤولية.
منهج الغدير منهج المسؤولية، لذلك حين ينبع منه العمل الصالح فيجب أن لا يخضع لرغبتي الخاصة، بل يجب أن يتوافق مع منهج الغدير ومع رضا الله سبحانه وتعالى.
الشرط الثالث: أن يكون هذا العمل عملا إصلاحيا.
إن ما يقف في مقابل العمل الصالح هو الفساد والإفساد، كذلك الشر الذي قد لا يكون ضعيفا، فهو شر كامن صغير مخفي، وهذا هو الشر النابع من خبث، لكن الإنسان لا يشعر به ولا يعرف به، أو أنه يتغاضى عنه.
كذلك قضية التسقيط، أحيانا يطلق أحدهم كلمة على شخص آخر تبدو غير مقصودة لكنه في الحقيقة يقصد قولها لتسقيط الآخر وهذا الفعل شر خبيث، قد يعتبره الإنسان شر صغير لكنه كبير جدا، وكل هذه الأعمال اليومية التي يقوم بها الإنسان تؤدي إلى تشكيل شخصيته، ومن ضمن ذلك الفساد، الشر، الرذيلة، الخيانة، الكذب، الطمع، الحرص، الصراع، العنف، العدوان، فالإنسان كمعتدي بالكلام، باللفظ، بالكراهية، بالاعتداء الجسدي، بالاعتداء على حقوق الناس وأموالهم، كل هذا بسبب الصراعات والنزاعات.
في مقال قديم ذكرتُ أن الإنسان العالِم حقا لا يكون في صراع ونزاع، بل هو في مصالحة مع الآخرين دائما، فمن يدخل في الصراع والنزاع هو الإنسان الجاهل، أما الإنسان العقل الذي ينهل من نهر الغدير فإنه لا يتصارع ولا يتنازع مع الآخرين، وإنما هو في حالة مصالحة دائمة وتفاهم مستمر وسائر باستقامة في طريق الإمام علي (عليه السلام)، لأنه طريق الهداية والإرشاد، وطريق الأحرار.
الشرط الرابع: أن يكون هذا العمل فيه سلم ومسالمة ومشاركة وتعاون.
إذا لاحظت شخصا لديه نزاعات دائمة مع الآخرين، فعليك أن تعرف بأن هذا الإنسان ليست له علاقة بالأعمال الصالحة، وليس له علاقة بمنهج الغدير، وإنْ كان يدّعي الالتزام بمنهج الغدير، لأن أعماله هي التي تفصح عنه، وعمله هو الذي يبيّن اتباعه لمنهج الغدير من عدمه.
هل تعتقد أن الصراع والتنازع مع الآخرين، ومع المؤمنين، ومع العائلة، ومع الجيران، هو من الأعمال الصالحة؟، بل هذه من أسوأ الأعمال، لأن الإمام علي (عليه السلام) يوصي بالتواصل والصلة والتقارب، حيث يقول: (وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ)، هذا هو منهج الغدير، فإنه منهج التواصل والتعاون والتفاهم وعدم التخاصم والتنابذ والتسابب.
ترتيب سلّم الأولويات
كما ذكرت سابقا هناك أعمال نابعة من رغبة ذاتية ومن المزاج وليس من المسؤولية الشرعية، لكن الإنسان الصالح المؤمن بالغدير هو الذي يلتزم بالشرعية، إما إذا أدى عمله وفق رغبته ومزاجه فلا يبقى لدينا نظام، ولا يبقى حجر على حجر، لذا على الإنسان أن يعمل في إطار المصلحة العامة ويلتزم بالمشاركة مع الآخرين في ترتيب سلّم الأولويات.
لذلك نلاحظ أن الأعمال الخيّرة متناثرة هنا وهناك، وليست أعمال منهجية، فكل فرد يعتقد أنه يحب هذا العمل فسوف يؤديه أو يقوم به، بينما الصحيح عليه أن يدرس الأمر، فتكون هناك دراسة ومشاورة فيما بين العاملين لاختيار الأولويات، وسلّم الأولويات والتركيز في العمل، لأن من سمات العمل الصالح هو العمل المنتِج المركّز وليس القيام بالعمل الصالح فقط، فلابد أن يكون هذا العمل الصالح مثمرا في إنتاجيته.
وهذا يحتاج إلى مشاورة مع العلماء الذين يفهمون الموازين ويعرفون الخطوط العامة، والأمور التي يحتاجونها في بناء مناهج العمل، فالعمل الصالح عبارة عن تشكيلة كبيرة وعظيمة تستهدف المستوى الأعلى من بناء الإنسان ومصلحته، وليس مجرد عمل أفقي، وإنما العمل العمودي.
العمل الأفقي أو ما نسميه باللهجة العامية (الطشار) هو عمل متناثر، وهو بالنتيجة يفقد غايته وهدفيته، أما العمل العمودي فهو متصاعد ومتقدم، فمن أهم مصاديق العمل الصالح هو العمل المركّز المنتِج المثمر الذي يعتمد على تخطيط ومشاورة فيما بين العقلاء.
ما هي صفات العمل الصالح؟
تتضح صفات العمل مما يلي:
أولا: تكون نتائجه واسعة، تشمل الجميع، والجميع يستفيدون من هذا العمل الصالح، وكما ذكرنا آنفا، العمل المركّز والمخطط له.
ثانيا: يتبين العمل الصالح من قيمة النتائج التي يصل إليها، لأن قيمة العمل الصالح عندما تفككه وتنظر إليه، تظهر من خلال تأثيره في الحاضر والمستقبل، وتكون قيمته موضوعية مطلوبة بحد ذاتها، كما تقول الآية القرآنية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل 97، أجر غير ممنون يعني هذا الأمر ليس فيه منّة، وإنما جاء الأجر من قيمة العمل نفسه، لأن قيمته وإنتاجيته كبيرة، وتأثيره كبير أيضا.
فهو كالذي يبذر بذرة صغيرة، فتنمو وتصبح شجرة، وهذه الشجرة تعطي بعد سنين ثمارا هائلة، فهي بذرة صغيرة، فهذه هي قيمة العمل، وهي واسعة وكبيرة جدا، لاسيما إذا كان عملا قائما على الإخلاص، والفهم والتخطيط للمستقبل، في بعض الأحيان لا يحتاج الأمر للتخطيط فالعمل بحد ذاته يعطي إنتاجا هائلا.
كما نلاحظ ذلك في شجرة النخيل مثلا، تنبت من نواة صغيرة يزرعها الإنسان، ثم تنمو وبعد سنين، تعطي الكثير من الثمار على مدى وجودها، هذا هو العمل الصالح، بذرة لثمار واسعة، فإذا فهم الإنسان قيمة هذا الكلام، سوف يبقى طول حياته يبذر بذور العمل الصالح، وعليه أن لا يضيّع كل دقيقة من حياته في غير العمل الصالح.
وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، العمل الصالح لا ينتهي، ويبقى يثمر باستمرار، كما نلاحظ في أشجار النخيل التي تم زرعها قبل عشرات الناس، فأعطت ثمارها طيلة هذه السنوات للناس، ويكون ثواب ذلك لمن زرعها، وعنه (صلى الله عليه وآله): (ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)، وهذا هو معنى العمل الصالح، أما تفكير الناس اليوم، ماذا يفيدني هذا العمل؟ أو ما هي الفائدة التي احصل عليها من هذا العمل؟، لكن هذا التفكير ليس صحيحا، بل علينا التفكير بنتائج العمل الصالح دائما.
لذا فإن بذرة العمل الصالح هي للإنسان نفسه في كل الأحوال، وإن كان يستفيد الآخرون من وسعتها، ولكن بالنتيجة الإنسان الذي يعمل العمل الصالح ويبذر البذرة هو الذي يستفيد، وينعكس عليه ذلك انعكاسا هائلا وكبير في الدنيا والآخرة، فيُمنَح البركة في حياته ولأولاده ولأحفاده وهكذا.
ثمرة العمل الصالح كأصلهِ
يقول الإمام علي (عليه السلام): (ثمرة العمل الصالح كأصله)، (ثمرة العمل السيء كأصله)، لكن الإنسان الذي يبذر البذرة حتى يعمل منها خمرا، فماذا ينتج الخمر غير المساوئ والكوارث والمآسي، أما الذي يبذر البذرة من أجل إطعام الناس، ومن أجل إحياء الناس وإرشادهم، وهدايتهم، هذه هي النتائج المهمة للعمل الصالح الذي له وسعة ممتدة من الحاضر إلى المستقبل، لكن الإنسان قد لا يشعر بذلك وهو في الدنيا، وقد يعرف قيمتها في الآخرة، فيما إذا كانت صالحة أو سيئة.
سهولة الحياة بالعمل الصالح
ثالثا: سهولة الحياة بالعمل الصالح، فالعمل الصالح سهل جدا وهذه حقيقة، ولا يحتاج الإنسان في ذلك إلا الإرادة والنيّة والإيمان والاعتقاد، ودائما يكون الإنسان الذي يعمل العمل الصالح في مأمن، ولا توجد مشكلات في حياته، المشكلات توجد في حياة صاحب العمل السيّئ، فتجده يعيش في ضيق وضنك دائما.
بعض الناس يتصورون العكس، ويظنون أن العمل الصالح صعب ويحتاج إلى ناس متقين ورعين، بينما نجد أن العمل الصالح سهل، فإذا أردنا الحياة السهلة علينا أن نختار طريق الغدير، فهو حياة سهلة رغيدة وطيبة، فالحياة بالعمل الصالح هي الحياة السهلة الطيبة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ)، لا تذهبوا وراء الأشياء الضيقة في الحياة، بل وراء الأشياء الواسعة، فالعمل الصالح يتميز بوسعه، والله تعالى هو الذي يعطي الرزق، فلا تخف من أن تصرف أموالك أو جهودك في عمل الخير.
عواقبه عظيمة ولذيذة
رابعا: عواقب العمل الصالح عظيمة، ومديدة، وضخمة، كما أن العمل السيّء كذلك يتضخم في جوانبه السيئة، لكن الإنسان الذي يعرف هذه المعادلة وهذا النظام، يستطيع أن يشخص الأمور وماذا يختار.
إذا أُعطيَ الإنسان بئرين، أو منبعين، أحدهما فيه ماء لذيذ والآخر فيه ماء مرّ علقم، فماذا يختار؟، حتما أنه يختار اللذيذ، العاقل يفهم هذه المعادلة وحتى الطفل الصغير يفهمها، في هذه الدنيا الفرق بين العمل الصالح والسيّئ، كالفرق بين المنبعين أعلاه، فالعمل الصالح هو أن تشرب الماء اللذيذ، والعمل الطالح والسيّئ هو أن تشرب الماء المالح أو المر.
أرجو أن نتأمل في هذا الحديث تأملا عميقا لأننا إذا وضعناه قاعدة في حياتنا سوف تكون جميلة وطيبة بالماء العذب، فعن الإمام علي (عليه السلام): (شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ ويَبْقَى أَجْرُهُ)، فحين تأكل لقمة طيبة من طعام لذيذ جدا، فكم ثانية تبقى لذة هذا الطعام في الفم، ربما عشر أو 15 ثانية، لنفرض أنك وضعت هذه اللقمة في فم طفل يتيم أو فقير، كم تبقى هذه اللذة عندك، إنها ستبقى مستمرة وقد تصبح أبدية لأنها لذة معنوية، هذا هو المقصود بالعمل الصالح ففيه لذة عظيمة.
لذا على الإنسان أن لا يضيّع اللذة الحقيقية، فهناك عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته كالإنسان الذي يأكل المال الحرام، ويأكل الطعام الذي يشتريه بأموال فاسدة، كم تطول لذة هذا الطعام؟، عشر ثوان، لكن تبقى تبعته مستمرة وكبيرة وقد تكون للأبد.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
(شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ، وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ ويَبْقَى أَجْرُهُ)
.
كل عمل يعمله الإنسان لابد أن يكون له منبع، ومن المنبع تتكون له حاضنة، مثل الماء الذي ينبع من الأصل ثم يجري هذا الماء في قنوات حتى يصل إلى بحيرة أو بحر، والمنبع الأساسي لكل أعمالنا هو منهج الإمام علي (عليه السلام) والحاضنة التي تحتضن العمل الصالح هو منهج الغدير النابع من ذلك النبع العظيم، الذي نبني من خلاله حياتنا والسير في الطريق المستقيم.
وكل عمل سواء كان صالحا أو غير صالح، لابد أن يكون له منبع وحاضنة، فإذا اختار الإنسان النبع الصحيح، سوف يعيش حياة سليمة تتبع المنبع والحاضنة. فبعد أن يخرج الماء سيذهب إلى بحر أو بحيرة، وقد يخرج من نبع مسموم وموبوء بالأمراض والجراثيم، حينئذ تكون أعماله ملوثة وطالحة.
الغدير منبع الأعمال الصالحة
لذلك نحن نعتقد بأن منبع ومنهج الغدير هو منبع الأعمال الصالحة، وهناك تشاكل وارتباط بين الإنسان وبين عمله، فكل عمل صالح يعمله سوف يؤدي إلى بناء جيد في داخله، لأن الإنسان يتشكّل من خلال أعماله، واختياره لهذه الأعمال، فإذا كانت أعماله سيئة غالبة عليه، تصبح شخصيته سيئة لأن أعماله تنعكس على بناء شخصيته وتشكيلها وتؤثر في طريقة تفكيره وتعامله مع الآخرين واتجاهاته في الحياة.
فإذا كانت أعماله صالحة وهو الذي اختارها بنفسه، فإن شخصيته تكون جيدة وصالحة أيضا، فهاتان نقطتان مهمتان في عملية بناء الاتجاه في طريق العمل الصالح.
يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) البينة 7. بمعنى أفضل الناس، لأن أعمالهم تجعلهم يتكاملون بشخصياتهم ويصبحون الأفضل من ناحية الخير والبركة والأخلاق الحسنة والإيمان والاعتقاد، ونفع الناس وإصلاح الأمور، وكلما تضاءلت الأعمال الصالحة من الإنسان، ينعكس هذا عليه أيضا، ويتسافل ويصبح لا شيء ولا معنى في حياته، لذلك فإن المعنى الكبير الذي نقصده ونذهب إليه هو نهج الغدير لأنه منبع الأعمال الصالحة.
إن الإنسان اليوم غالبا ما يقلق ويفكر ماذا يفعل في دنياه، فيعيش حالة قلق ولا ينام ليله، ويفكر في النهار أيضا فماذا يفعل وماذا يختار، ويتأثر بالآخرين وبالأجواء المحيطة به، نحن نقوله له إن المنبع موجود فاذهب إلى هذا النبع الأصيل اللذيذ الطيب وانهل واشرب منه حتى تُسعَد بالأعمال الصالحة.
نهج الغدير يغذّينا باليقين
من المفارقات العجيبة أن الإنسان يكون عطشانا وهو بالقرب من المنبع لكنه لا يشرب منه، ولو (غَرفة) أو شربة واحدة، هذه مشكلة كبيرة يعيشها الإنسان، لأن هذا المنبع موجود وهذه الكلمات الطيبة، وهذا النهج العظيم الذي يرفع عنك القلق، ويغذيكَ باليقين، ويغذيك بالعلم والمعرفة والاستقرار والاطمئنان النفسي.
لماذا تذهب عطشانا، ولماذا تختار الأشياء السيئة وتنخدع بالآخرين، إن المشكلة تكمن في أن الناس ينخدعون بالتضليل، وبالشعارات والأقوال والقضايا الأخرى، لكن على الإنسان أن لا ينخدع، ولابد أن يذهب مباشرة إلى النبع الأصيل وهو الإمام علي (عليه السلام).
فعنه (عليه السلام): (إياك وكل عمل ينفّر عنك حرّا أو يذل لك قدرا أو يجلب عليك شرا أو تحمل به إلى القيامة وزرا)، لقد لخّصت هذه الكلمات لنا منهج حياة كامل، فلا تعمل عملا يجعل الحرّ ينفر منك، فمن هو الإنسان الحر؟، إنه الإنسان العاقل الفاهم الناضج الذي يتمتع باستقلال شخصيته، وفي مقابله ذلك الإنسان العبد لشهواته وأهوائه.
العمل السيّء مرغوب من قبل عبيد الأهواء، أما إذا كان الإنسان ذا شخصية مستقلة ويكون متقيا ورِعا، فإنه يتنفّر من العمل السيّء، وهذا مقياس لمعرفة العمل الصالح من العمل الطالح، العمل الصالح يخص الصالحين والأتقياء الأحرار، فالإنسان الحر المستقل بشخصيته لا يقبل الخطأ لأنه إنسان عاقل، أما العمل الطالح فهو الذي يفرح به عبيد الدنيا والأهواء.
معرفة الاحرار للعمل الصالح
هناك بعض الناس إذا قابلوا إنسانا متّقيا فإنهم يهربون منه، لأن المتقي يعبر عن الأعمال الصالحة، والإنسان الحر يعبّر عن العمل الصالح، عليك اختيار العمل وفق مقاييس محددة، لنفترض أنك في كربلاء وقمت بعمل ما، فهل يقبله الإمام الحسين (عليه السلام)، وهل يقبله الإنسان الحر؟
لذلك هناك جانبان، الأول هو عليك أن تفكر بالعمل الذي تقوم به، وما هي عواقب هذا العمل، والثاني هل سيقبله الأحرار والمتقين والصالحين؟، إذا لم يقبله الأحرار فإياك منه، اتركه، (والإنسان على نفسه بصيرة ومعرفة في هذا الأمر).
اختيار اقدار الشر
(يذل لك قدرا أو يجلب عليك شرا): إن التعصب لشيء معين هو نوع من أنواع العبودية للمزاج والأهواء، وفيه نوع من التجبّر والتكبّر على الآخرين، وهذا يخالف طريقة الأحرار والمتقين والصالحين، وإذا كان هذا العمل سيئا فإنه بالنتيجة سوف يقودك إلى طريق الأقدار التي يختارها الإنسان من خلال أعماله، فيأخذك هذا العمل السيّئ إلى طريق فيه أقدار غير جيدة.
هذا الأمر واضح كالإنسان الذي يذهب في طريق شرب الخمر، أو يتناول المخدرات، أو يذهب في طريق الفساد المالي والإداري، فهذه الأمور سوف يقوده إلى عاقبة سيئة جدا ستدمره حتما.
أو يجلب له شرّا، فعليك أن تفكر في أن هذا العمل الذي تنوي القيام به، هل عاقبته جيدة أم لا، وهل فيه خير أم فيه شر؟.
(أو تحمل به إلى القيامة وزرا)، أي يبقى معك العمل إلى يوم القيامة، وهذه النقاط التي يذكرها الإمام علي (عليه السلام) متشابهة ومتداخلة ولكن هناك تفكيك بين الأعمال، بعض هذه الأعمال قد تكون مباحة، ولا إشكالات فيها، وهناك أعمال مكروهة أو محرمة، فيجب التفريق بين هذه الأمور حتى يتخيّر الإنسان بنفسه العمل الصالح والجيد.
معاني العمل الصالح
هنا ربما يسأل بعضهم، ما هو العمل الصالح وكيف نميزه عن الطالح؟
انه العمل الجيد، الذي تكون فيه جودة، وهو يقف في مقابل العمل الرديء، والعمل الصالح هو العمل المتقَن في مقابل العمل الركيك، كذلك هو العمل الماهر والذكي، وعلى الإنسان أن يتخيّر الأعمال الذكية في حياته وليس الأعمال الغبية.
ومن الأعمال الصالحة، العمل التعاوني الذي يجب أن يتشارك فيه الإنسان مع الآخرين، ويتعاون معهم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة 2. لأن من أهم مصاديق العمل الصالح التعاون في العمل، ويتجسَّد الإنسان المؤمن الصالح بأعماله في طاقته التعاونية.
كذلك العمل التشاركي، حيث يكون فيه مشاركة مع الآخرين وليس العمل الأناني وهو عمل سيّء وفردي، والعمل الصالح هو الذي تكون فيه عاقبة حسنة في مقابل العاقبة السيئة، كذلك العمل الحسن وهو ما يستحسنه الشرع والعرف، والعمل الخيِّر في مقابل الشر.
من الأعمال الصالحة، العمل الإصلاحي الذي يُعد من أهم مصاديق العمل الصالح في مقابل العمل في الإفساد أو القطيعة، (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم)، فالإصلاح هو الذي يوجد فيه بناء وتشييد ونمو في مقابل العمل الهدّام.
العمل الصالح في المصلحة العامة
والعمل الذي فيه مصلحة عامة هو عمل صالح أيضا، فتكون فوائد هذا العمل لصالح كل الناس.
مثال عن ذلك هناك من يجلب بضاعة تفيد المصلحة العامة، وتارة أخرى يجلب بضاعة يستفيد منها بعض الأغنياء أو فئة قليلة فقط، يوجد فرق بين المصلحة الشخصية والعامة، فهناك من يجلب بضاعة لكي يربح هو شخصيا ولا يستفيد منها عامة الناس، لذلك فإن العمل الذي يستفيد منه عامة الناس تكون فيه بركة ونمو وتزايد.
والعمل النافع والمثمر من الأعمال الصالحة حيث فيه إنتاج وثمرة ونفع للناس وليس للنفع الذاتي فقط. فلا يجوز جلب بضاعة تضر الناس، فالعمل الصالح هو العمل الذي ينفع الناس.
كذلك العمل الذي فيه تقوى و ورع، ويوجد تأكيد على هذا النوع من العمل، أما إذا لا يوجد ورع في العمل فلا تنطبق عليه معايير العمل الصالح مطلقا، وأيضا العمل الذي فيه أجر وثواب هو عمل صالح.
كذلك العمل الذي فيه سلم وتسالم، وتصالح بين الناس، وهنالك معان كثيرة توجد لدينا منها الفضائل والأخلاق الحسنة، فكل عمل ينفع الناس ومثمر وينتهي إلى العاقبة الحسنة والخير هو عمل صالح، فالعمل الصالح بالنتيجة هو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
غياب الثقافة التعاونية
يتبادر هنا سؤال مهم إذا كانت لدينا منهجية الغدير فلماذا تأخرنا عن الأمم الأخرى؟، لقد ذكرنا بعض الأسباب سابقا، ومنها غياب الإتقان، ووجود المعاصي، وغياب الذكاء والتعاون والمشاركة، والمصلحة العامة والإصلاح، كل هذه المسميات هي من معاني العمل الصالح، ولكن أين نعثر اليوم على إنسان توجد عنده ثقافة تعاونية وهي أساس الثقافة الإسلامية؟
الإسلام أساسه التعاون، والإنسان المسلم هو الإنسان المتعاون، ولكن هناك نرجسية عالية عند البعض ولا يقبل التعاون مع الآخرين، ويقول أنا فقط.
شروط انجاز العمل الصالح
الشرط الأول: أن يقدم الأهم على المهم.
الاختيار بين غير المهم والمهم والأهم، العمل الصالح هو الأهم، وله أولوية.
الشرط الثاني: أن يكون هذا العمل نابعا من الوظيفة والمسؤولية الشرعية وليس من الرغبة الذاتية.
والفرق بين الحاجة والرغبة، ان العمل الصالح هو الأكثر مطلوبية وهو العمل الذي يسد حاجة، وليس العمل الذي يأتي من خلال الرغبات الذاتية، هناك من يعمل عملا صالحا ولكن من خلال رغباته الذاتية، لذلك أكدنا على التقوى والورع، فالعمل الصالح هو الذي ينبع من الوظيفة والمسؤولية.
منهج الغدير منهج المسؤولية، لذلك حين ينبع منه العمل الصالح فيجب أن لا يخضع لرغبتي الخاصة، بل يجب أن يتوافق مع منهج الغدير ومع رضا الله سبحانه وتعالى.
الشرط الثالث: أن يكون هذا العمل عملا إصلاحيا.
إن ما يقف في مقابل العمل الصالح هو الفساد والإفساد، كذلك الشر الذي قد لا يكون ضعيفا، فهو شر كامن صغير مخفي، وهذا هو الشر النابع من خبث، لكن الإنسان لا يشعر به ولا يعرف به، أو أنه يتغاضى عنه.
كذلك قضية التسقيط، أحيانا يطلق أحدهم كلمة على شخص آخر تبدو غير مقصودة لكنه في الحقيقة يقصد قولها لتسقيط الآخر وهذا الفعل شر خبيث، قد يعتبره الإنسان شر صغير لكنه كبير جدا، وكل هذه الأعمال اليومية التي يقوم بها الإنسان تؤدي إلى تشكيل شخصيته، ومن ضمن ذلك الفساد، الشر، الرذيلة، الخيانة، الكذب، الطمع، الحرص، الصراع، العنف، العدوان، فالإنسان كمعتدي بالكلام، باللفظ، بالكراهية، بالاعتداء الجسدي، بالاعتداء على حقوق الناس وأموالهم، كل هذا بسبب الصراعات والنزاعات.
في مقال قديم ذكرتُ أن الإنسان العالِم حقا لا يكون في صراع ونزاع، بل هو في مصالحة مع الآخرين دائما، فمن يدخل في الصراع والنزاع هو الإنسان الجاهل، أما الإنسان العقل الذي ينهل من نهر الغدير فإنه لا يتصارع ولا يتنازع مع الآخرين، وإنما هو في حالة مصالحة دائمة وتفاهم مستمر وسائر باستقامة في طريق الإمام علي (عليه السلام)، لأنه طريق الهداية والإرشاد، وطريق الأحرار.
الشرط الرابع: أن يكون هذا العمل فيه سلم ومسالمة ومشاركة وتعاون.
إذا لاحظت شخصا لديه نزاعات دائمة مع الآخرين، فعليك أن تعرف بأن هذا الإنسان ليست له علاقة بالأعمال الصالحة، وليس له علاقة بمنهج الغدير، وإنْ كان يدّعي الالتزام بمنهج الغدير، لأن أعماله هي التي تفصح عنه، وعمله هو الذي يبيّن اتباعه لمنهج الغدير من عدمه.
هل تعتقد أن الصراع والتنازع مع الآخرين، ومع المؤمنين، ومع العائلة، ومع الجيران، هو من الأعمال الصالحة؟، بل هذه من أسوأ الأعمال، لأن الإمام علي (عليه السلام) يوصي بالتواصل والصلة والتقارب، حيث يقول: (وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ)، هذا هو منهج الغدير، فإنه منهج التواصل والتعاون والتفاهم وعدم التخاصم والتنابذ والتسابب.
ترتيب سلّم الأولويات
كما ذكرت سابقا هناك أعمال نابعة من رغبة ذاتية ومن المزاج وليس من المسؤولية الشرعية، لكن الإنسان الصالح المؤمن بالغدير هو الذي يلتزم بالشرعية، إما إذا أدى عمله وفق رغبته ومزاجه فلا يبقى لدينا نظام، ولا يبقى حجر على حجر، لذا على الإنسان أن يعمل في إطار المصلحة العامة ويلتزم بالمشاركة مع الآخرين في ترتيب سلّم الأولويات.
لذلك نلاحظ أن الأعمال الخيّرة متناثرة هنا وهناك، وليست أعمال منهجية، فكل فرد يعتقد أنه يحب هذا العمل فسوف يؤديه أو يقوم به، بينما الصحيح عليه أن يدرس الأمر، فتكون هناك دراسة ومشاورة فيما بين العاملين لاختيار الأولويات، وسلّم الأولويات والتركيز في العمل، لأن من سمات العمل الصالح هو العمل المنتِج المركّز وليس القيام بالعمل الصالح فقط، فلابد أن يكون هذا العمل الصالح مثمرا في إنتاجيته.
وهذا يحتاج إلى مشاورة مع العلماء الذين يفهمون الموازين ويعرفون الخطوط العامة، والأمور التي يحتاجونها في بناء مناهج العمل، فالعمل الصالح عبارة عن تشكيلة كبيرة وعظيمة تستهدف المستوى الأعلى من بناء الإنسان ومصلحته، وليس مجرد عمل أفقي، وإنما العمل العمودي.
العمل الأفقي أو ما نسميه باللهجة العامية (الطشار) هو عمل متناثر، وهو بالنتيجة يفقد غايته وهدفيته، أما العمل العمودي فهو متصاعد ومتقدم، فمن أهم مصاديق العمل الصالح هو العمل المركّز المنتِج المثمر الذي يعتمد على تخطيط ومشاورة فيما بين العقلاء.
ما هي صفات العمل الصالح؟
تتضح صفات العمل مما يلي:
أولا: تكون نتائجه واسعة، تشمل الجميع، والجميع يستفيدون من هذا العمل الصالح، وكما ذكرنا آنفا، العمل المركّز والمخطط له.
ثانيا: يتبين العمل الصالح من قيمة النتائج التي يصل إليها، لأن قيمة العمل الصالح عندما تفككه وتنظر إليه، تظهر من خلال تأثيره في الحاضر والمستقبل، وتكون قيمته موضوعية مطلوبة بحد ذاتها، كما تقول الآية القرآنية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل 97، أجر غير ممنون يعني هذا الأمر ليس فيه منّة، وإنما جاء الأجر من قيمة العمل نفسه، لأن قيمته وإنتاجيته كبيرة، وتأثيره كبير أيضا.
فهو كالذي يبذر بذرة صغيرة، فتنمو وتصبح شجرة، وهذه الشجرة تعطي بعد سنين ثمارا هائلة، فهي بذرة صغيرة، فهذه هي قيمة العمل، وهي واسعة وكبيرة جدا، لاسيما إذا كان عملا قائما على الإخلاص، والفهم والتخطيط للمستقبل، في بعض الأحيان لا يحتاج الأمر للتخطيط فالعمل بحد ذاته يعطي إنتاجا هائلا.
كما نلاحظ ذلك في شجرة النخيل مثلا، تنبت من نواة صغيرة يزرعها الإنسان، ثم تنمو وبعد سنين، تعطي الكثير من الثمار على مدى وجودها، هذا هو العمل الصالح، بذرة لثمار واسعة، فإذا فهم الإنسان قيمة هذا الكلام، سوف يبقى طول حياته يبذر بذور العمل الصالح، وعليه أن لا يضيّع كل دقيقة من حياته في غير العمل الصالح.
وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، العمل الصالح لا ينتهي، ويبقى يثمر باستمرار، كما نلاحظ في أشجار النخيل التي تم زرعها قبل عشرات الناس، فأعطت ثمارها طيلة هذه السنوات للناس، ويكون ثواب ذلك لمن زرعها، وعنه (صلى الله عليه وآله): (ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس)، وهذا هو معنى العمل الصالح، أما تفكير الناس اليوم، ماذا يفيدني هذا العمل؟ أو ما هي الفائدة التي احصل عليها من هذا العمل؟، لكن هذا التفكير ليس صحيحا، بل علينا التفكير بنتائج العمل الصالح دائما.
لذا فإن بذرة العمل الصالح هي للإنسان نفسه في كل الأحوال، وإن كان يستفيد الآخرون من وسعتها، ولكن بالنتيجة الإنسان الذي يعمل العمل الصالح ويبذر البذرة هو الذي يستفيد، وينعكس عليه ذلك انعكاسا هائلا وكبير في الدنيا والآخرة، فيُمنَح البركة في حياته ولأولاده ولأحفاده وهكذا.
ثمرة العمل الصالح كأصلهِ
يقول الإمام علي (عليه السلام): (ثمرة العمل الصالح كأصله)، (ثمرة العمل السيء كأصله)، لكن الإنسان الذي يبذر البذرة حتى يعمل منها خمرا، فماذا ينتج الخمر غير المساوئ والكوارث والمآسي، أما الذي يبذر البذرة من أجل إطعام الناس، ومن أجل إحياء الناس وإرشادهم، وهدايتهم، هذه هي النتائج المهمة للعمل الصالح الذي له وسعة ممتدة من الحاضر إلى المستقبل، لكن الإنسان قد لا يشعر بذلك وهو في الدنيا، وقد يعرف قيمتها في الآخرة، فيما إذا كانت صالحة أو سيئة.
سهولة الحياة بالعمل الصالح
ثالثا: سهولة الحياة بالعمل الصالح، فالعمل الصالح سهل جدا وهذه حقيقة، ولا يحتاج الإنسان في ذلك إلا الإرادة والنيّة والإيمان والاعتقاد، ودائما يكون الإنسان الذي يعمل العمل الصالح في مأمن، ولا توجد مشكلات في حياته، المشكلات توجد في حياة صاحب العمل السيّئ، فتجده يعيش في ضيق وضنك دائما.
بعض الناس يتصورون العكس، ويظنون أن العمل الصالح صعب ويحتاج إلى ناس متقين ورعين، بينما نجد أن العمل الصالح سهل، فإذا أردنا الحياة السهلة علينا أن نختار طريق الغدير، فهو حياة سهلة رغيدة وطيبة، فالحياة بالعمل الصالح هي الحياة السهلة الطيبة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ)، لا تذهبوا وراء الأشياء الضيقة في الحياة، بل وراء الأشياء الواسعة، فالعمل الصالح يتميز بوسعه، والله تعالى هو الذي يعطي الرزق، فلا تخف من أن تصرف أموالك أو جهودك في عمل الخير.
عواقبه عظيمة ولذيذة
رابعا: عواقب العمل الصالح عظيمة، ومديدة، وضخمة، كما أن العمل السيّء كذلك يتضخم في جوانبه السيئة، لكن الإنسان الذي يعرف هذه المعادلة وهذا النظام، يستطيع أن يشخص الأمور وماذا يختار.
إذا أُعطيَ الإنسان بئرين، أو منبعين، أحدهما فيه ماء لذيذ والآخر فيه ماء مرّ علقم، فماذا يختار؟، حتما أنه يختار اللذيذ، العاقل يفهم هذه المعادلة وحتى الطفل الصغير يفهمها، في هذه الدنيا الفرق بين العمل الصالح والسيّئ، كالفرق بين المنبعين أعلاه، فالعمل الصالح هو أن تشرب الماء اللذيذ، والعمل الطالح والسيّئ هو أن تشرب الماء المالح أو المر.
أرجو أن نتأمل في هذا الحديث تأملا عميقا لأننا إذا وضعناه قاعدة في حياتنا سوف تكون جميلة وطيبة بالماء العذب، فعن الإمام علي (عليه السلام): (شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ ويَبْقَى أَجْرُهُ)، فحين تأكل لقمة طيبة من طعام لذيذ جدا، فكم ثانية تبقى لذة هذا الطعام في الفم، ربما عشر أو 15 ثانية، لنفرض أنك وضعت هذه اللقمة في فم طفل يتيم أو فقير، كم تبقى هذه اللذة عندك، إنها ستبقى مستمرة وقد تصبح أبدية لأنها لذة معنوية، هذا هو المقصود بالعمل الصالح ففيه لذة عظيمة.
لذا على الإنسان أن لا يضيّع اللذة الحقيقية، فهناك عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته كالإنسان الذي يأكل المال الحرام، ويأكل الطعام الذي يشتريه بأموال فاسدة، كم تطول لذة هذا الطعام؟، عشر ثوان، لكن تبقى تبعته مستمرة وكبيرة وقد تكون للأبد.
تعليق