السيّد محمود المقدَّس الغريفي
يتساءل الكثير عن إمكانية رؤية الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الكبرى واللقاء به والتحدّث معه مباشرةً، مع تعيين شخصه الكريم وتحديد هُويَّته، وهل ما يشاع ويُنقَل عن رؤيته في الغيبة الكبرى، له واقع وحقيقة ثابتة، أم أنَّه اشتباه ووهم، وخيال أو حلم؟وما هو رأي الشارع المقدَّس في دعوى رؤيته في الغيبة الكبرى؟ وهل يمكن رؤيته عليه السلام والتشرّف بلقائه؟
إنَّ هذه التساؤلات وغيرها تدور في أذهان الكثير من المؤمنين، وإن اختلفوا في النتيجة، بين من أقرَّ بذلك، وبين من نفاها، وآخرون فصَّلوا بين إمكانها على أن لا يلازمها أيّ دعوى دينية أو دنيوية، أو نقل لأمر ما عنه عليه السلام، وبعضهم قالوا: إنَّ الصادق لا يدَّعي الرؤية - على فرض ذلك - وغيرها. ولكن الكلام في هذه المسألة فيه شيء من البسط والعرض، والنظر من خلال الأدلَّة الشرعية والنصوص الدينية، وما يحيط ذلك من القرائن والمؤشّرات حتَّى نقف على أصل هذه الدعوى، ومن ثَمَّ الحكم بإمكان القول في ثبوتها أو نفيها في الواقع.
فأقول: إنَّ غياب الإمام المهدي عليه السلام إنَّما هو غياب للهُويَّة الشخصية لا أنَّ غيابه غياب شخصي جسماني.
بمعنى: أنَّ أيَّ شخص يمكن أن يراه ويخالطه، ولكنَّه يكون غافلاً بالمرَّة عن كونه هو الإمام المهدي عليه السلام، وإنَّما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يُلفِت النظر على الإطلاق..، وتكون حياته كحياة أيِّ شخص آخر، يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرَّة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها، ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدَّة مُدُن، حتَّى يأذن الله تعالى له بالفرج..، مع القطع بجهل الأجيال بالكلّية - من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى سوى بعض الخواصّ والسفراء - بسحنة الإمام المهدي عليه السلام وشكله، بحيث لو واجهوه لما عرفوه البتَّه(١).
فإنَّ الإمام عليه السلام ربَّما يعيش بيننا وفي عالمنا، يخالطنا ويتعامل معنا، ويرانا ويعرفنا، ونحن نراه ونُكلِّمه ونتعامل معه، ولكنَّنا لا نعرفه على حقيقته، ولا نُشخِّص هُويَّته. فإنَّه ليس محجوباً عن الأنظار كالجنِّ والملائكة، فلا يمكن رؤيته بتاتاً، إلَّا بسبيل ما، حتَّى قيل: إنَّ الإمام المهدي عليه السلام إذا ظهر للناس بعد الأمر الإلهي - الصيحة وخروج السفياني - ويشاهده الناس عياناً على هُويَّته الواقعية وشخصيته الحقيقية، فإنَّ جملة منهم يقول: إنّي قد التقيت به، وإنّي رأيته، وإنّي صاحبته وسافرت معه، وإنّي جالسته وتحدَّثت إليه، ونحو ذلك، فإنَّ الرؤية بهذا المنظار جارية وحاصلة.
وهذا الرأي لا دليل على نفيه، بل تدعمه جملة من الروايات، منها: ما رواه الكليني في (الكافي) عن الحسين بن محمّد، عن جعفر بن محمّد، عن القاسم بن إسماعيل الأنباري، عن يحيى بن المثنّى، عن عبد الله بن بكير، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «للقائم غيبتان، يشهد في إحداهما المواسم، يرى الناس ولا يرونه»(٢)، بمعنى يعرف الناس ولا يعرفونه.
وما روي عن محمّد بن عثمان العمري، أنَّ صاحب هذا الأمر ليَحضُر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه(٣)، وغير ذلك.
أمَّا رؤيته واللقاء به مع تحديد هُويَّته وتشخيصها، فهذا ممَّا لا يستطيع أن يدَّعيه أحد على نحو الجزم واليقين، ويقطع أنَّه قد التقى بشخص الإمام عليه السلام ويُثبِت ذلك، أو أن يُقسِم عليه، على الرغم من كثرة هذه الدعاوى! التي تشير إلى رؤيته واللقاء به، المبنيَّة على الاحتمال، أو الترديد بالقول - ربَّما هو - أو الاستنتاج، بأنَّ الذي رآه هو الإمام المهدي عليه السلام.
فإنَّ كلَّ دعوى لا بدَّ أن تستكمل شروطها وأدلَّتها حتَّى تدخل في خانة العلم والتصديق، وإلَّا فمجرَّد الاحتمال والشكّ والاستنتاج يجعلها في خانة الإمكان.
والحال كذلك في دعاوى رؤية الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الكبرى، فإنكار دعاوى رؤيته في الغيبة الكبرى وإبطالها وردّها، هو لعموم التوقيع الشريف المروي عن الإمام المهدي عليه السلام، الذي خرج على يد آخر السفراء الأربعة الشيخ علي بن محمّد السمري رضي الله عنه في الغيبة الصغرى.
وقد رواه الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة)، وغيره(٤)، قال: حدَّثنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ علي بن محمّد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحد، يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه. ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سُمع منه(٥).
ومن نافلة القول، الكلام في سند هذا الحديث الشريف، أو الطعن فيه بالإرسال، فإنَّه وبالرغم من شهرته بين الأصحاب، فإنَّ الطائفة مجمعة على العمل بمضمونه، وهذا يُغنينا عن النظر في سنده، مع اعتباره وصحَّته.
قال السيِّد محمّد تقي الأصفهاني قدس سره: اعلم أنَّ هذا حديث صحيح عال اصطلاحاً؛ لأنَّه مروي عن مولانا صاحب الزمان عليه السلام بتوسّط ثلاثة أشخاص:
الأوَّل: الشيخ الأجلّ أبو الحسن علي بن محمّد السمري - السفير الأخير للإمام المهدي -، وهو لجلالته واشتهاره غنيٌّ عن البيان.
والثاني: الشيخ الصدوق، محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، وهو أيضاً لاشتهاره واشتهار كتابه وجلالة قدره لا يحتاج إلى التوضيح.
والثالث: أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب، وهو كما ذكره الفاضل الألمعي المولى عناية الله في (مجمع الرجال): أبو محمّد الحسن بن الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتِّب، ويروي عنه الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحّماً، وهذا من أمارات الصحَّة والوثاقة، كما نبَّه على ذلك المولى المزبور في (مجمعه)، وذكر له شواهد عديدة، ليس هنا موضع ذكرها، والمكتِّب بكسر التاء المشدَّدة مَنْ يُعلِّم الكتابة.
ثمّ نبَّه على أمر، فقال: قد وقع هنا سهوان في كتابين من كتب علمائنا رحمهم الله تعالى، ينبغي التنبيه عليهما:
الأوَّل: في كتاب (الغيبة) للشيخ الأجلّ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رضي الله عنه ففيه - في النسخة التي عندي - هكذا: أخبرنا جماعة، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، قال: حدَّثني أبو محمّد أحمد بن الحسن المكتِّب، قال: كنت بمدينة السلام، وساق الحديث..، مثل ما نقلناه عن (كمال الدين) لابن بابويه رضي الله عنه.
وقد عرفت أنَّ الذي روى عنه ابن بابويه حسن بن أحمد - وليس أحمد بن الحسن كما في كتاب (الغيبة) -، والظاهر أنَّ السهو في كتاب الشيخ الطوسي وقع من النسّاخ، ويُؤيِّد وقوع السهو فيه من بعض النسّاخ؛ أنَّ الحاج ميرزا حسين النوري رضي الله عنه نقل هذا الحديث في (جنَّة المأوى) من (غيبة) الشيخ، عن الحسن بن أحمد المكتِّب - كما في كتاب الصدوق -، والله تعالى هو العالم.
والثاني: في كتاب (مستدرك الوسائل) للعالم المحدِّث المتتبِّع الحاجّ ميرزا حسين النوري رضي الله عنه، فإنَّه مع سعة باعه، وكثرة اطِّلاعه، واهتمامه في استقصاء أسماء مشايخ الصدوق، غفل عن ذكر هذا الشخص الجليل - أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب - الذي روى عنه الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحّماً.
وأمثال هذه الأُمور ممَّا يبعث العالم على الفحص والتتبّع، ويوجب له الظفر بما غفل عنه من قبله، فعليكم يا إخواني بالسعي، والاجتهاد، فإنَّ الله لا يخيب كلّ طالب مرتاد.
وممَّا يدلُّ أيضاً على وقوع السهو والاشتباه في كتاب الشيخ - بعكس اسم الراوي -، وعلى غفلة صاحب المستدرك عن ذكر ذلك الشيخ رضي الله عنه، أنَّ المولى عناية الله المذكور نقل الحديث المسطور عن كتاب (ربيع الشيعة) لابن طاووس، حاكياً عن الحسن بن أحمد المكتِّب.
فتبيَّن بحمد الله تعالى وعونه، أنَّ الراوي عن أبي الحسن السمري رضي الله عنه هو الحسن بن أحمد الذي روى عنه ابن بابويه رضي الله عنه.
وممَّا يدلُّ على صحَّة هذا الحديث وصدوره عن الإمام أيضاً، أنَّ الشيخ الطبرسي رضي الله عنه صاحب كتاب (الاحتجاج) ذكره مرسلاً، من دون ذكر السند، والتزم في أوَّل الكتاب وصرَّح بأنَّه لا يذكر فيه سند الأحاديث، التي لم يذكر أسانيدها، إمَّا بسبب موافقتها للإجماع، أو اشتهارها بين المخالف والمؤالف، أو موافقتها لحكم العقل.
فظهر أنَّ الحديث المذكور أيضاً كان غنيَّاً عن ذكر السند؛ إمَّا لموافقة الإجماع، أو لاشتهاره، أو لكليهما جميعاً.
وممَّا يدلُّ أيضاً على صحَّته، أنَّ علماءنا من زمن الصدوق رضي الله عنه إلى زماننا هذا استندوا إليه، واعتمدوا عليه، ولم يناقش ولم يتأمَّل أحد منهم في اعتباره، كما لا يخفى على من له أُنس وتتبّع في كلماتهم ومصنَّفاتهم.
فتبيَّن من جميع ما ذكرناه أنَّ الحديث المذكور من الروايات القطعية، التي لا ريب فيها، ولا شبهة تعتريها، وهو ممَّا قال فيه الإمام عليه السلام: «فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه»(٦).
تعليق