بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
ها نحن نلتقي مجدَّداً، وككلِّ سنة في موسم عاشوراء؛ هذا الموسم الَّذي عندما يأتي ينقلنا إلى أجواء الحزن الفجيعة، أجواء العزة والإباء، أجواء التضحية والثبات، وهي أجواءٌ تفرض نفسها على كل واقعنا، ويتكرر المشهد عاماً بعد عام.
ويبقى السؤال لدى الكثيرين: لماذا نُصر على إحياء ذكرى حدثٍ وقع قبل أربعة عشر قرناً؟ ولماذا نصرّ على استعادتها ما دامت الأحداث هي نفسها، والقصة نفسها، والمجالس نفسها، والبرامج نفسها.
لماذا كل هذا؟ هل هي طقوس اعتدناها؟ أو هي العاطفة الجياشة الَّتي شكَّلت وجداننا وأصبحت جزءاً من كياننا؟ أو أنّ هذه المناسبة هي ضرورة وحاجة، الآن وفي كل مرحلة، كما كانت حاجة في مرحلة حدوثها؟
عندما وقعت حادثة كربلاء قبل أربعة عشر قرناً، كانت ضرورة... كان الإسلام في مهبِّ رياح بني أمية، وفي ظل مجتمع إسلامي ركن إلى الظلم وغلّب دنياه على دينه كما أراد له الأمويون.
فيزيد الرجل الفاسق الفاجر، يُراد له أن يتولى أمر المسلمين، الحق بات لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، السّنة قد أُميتت والبدعة قد أُحييت، البوصلة تغيّرت، والباطل أصبح حقاً والحق بات باطلاً، والَّذين يتحكَّمون بمصالح الناس لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله.
لقد بات المعيار هو معيار عمر بن سعد، قائد جيش ابن زياد، وباتت لغة الدينار هي السائدة، ولغة الخوف من السَّيف هي الحاكمة للواقع، الناس باتوا عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون.
للأسف، هكذا كانت حال الأمّة، أمة رسول الله تنحدر إلى الدرك الأسفل، وكل ما بناه الرسول سيذهب سدى.
لهذا انطلق الحسين، ليهزّ كلّ هذا الواقع ويغيّره، وكان هذا ضرورة وواجباً، ولهذا أطلق نداءه الأول: "إني سمعت رسول الله يقول من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهده يعمل في عباده بالإثم والعدوان فلم يغيّر بقول أو فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".
لقد انطلق الحسين من موقعه كسبط لرسول الله، ومن مسؤوليته كإمام، ومن موقع عزته كمسلم، كانت عبوديّته تنبع من عبوديته لله وحده، فكيف يرضخ ويبايع شخصاً كيزيد؟
لهذا يحدّد الحسين موقفه: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد".
من هذه الرؤية، وقياساً إلى واقعنا، أمس واليوم وغداً، نرى أنَّ عاشوراء هي ضرورة وحاجة على أكثر من مستوى.
المستوى الأول هو مستوى أتباع أهل البيت، فالحسين إمام يتولونه ويلتزمونه فكراً وقدوةً وسلوكاً وعملاً، وإحياء أمره واجب عليهم، وهم ملتزمون بذلك كما ورد عن أئمَّة أهل البيت(ع).
وعلى المستوى الثاني: عاشوراء هي ضرورة بالنّسبة إلى المسلمين جميعاً بكلّ مذاهبهم، لأنَّ أهدافها هي أهداف الإسلام ومقاصده، وأبطالها هم خير من تربى من معين الإسلام... فالحسين عند كلّ المسلمين، وفي كلّ كتبهم ومصادرهم، سيِّد شباب أهل الجنة، وسبط رسول الله وريحانته، هو والحسن إمامان قاما أو قعدا، فمن الطَّبيعي، لا بل الأصل، أنَّ كلّ المسلمين معنيون بما جرى في كربلاء... وغير مفهوم هذا النأي لشريحة واسعة من المسلمين عن إحياء عاشوراء واستبعادها من ذاكرتهم الجمعيَّة، وكأنَّ هذا الدم لم يسفك في كربلاء... ويتساءل المراقب: أين ذهبت هذه العاطفة تجاه من كان الرسول لا يفتأ عن الحث على حبّه، وكم قال: "اللهم إني أحبه فأحبه... رحم الله من أحب حسينا...".
ثم إنَّ شعارات كربلاء لم تكن مذهبيَّة، ولم تكن خاصة بمرحلتها، كانت شعارات إسلاميَّة وممتدة على مدى الزمن، هي الشّعارات الَّتي انطلقت من القرآن ومن رسول الله: هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، هي الإصلاح في أمة جدّه رسول الله، هي الإصلاح في مسيرة الإسلام.
وعلى المستوى الثالث، فإننا نرى أنَّ إحياء عاشوراء ضرورة لإحياء القيم الإنسانيَّة، قيم الحرية، والعدالة، ورفض الظلم، قيم الثبات، وعدم بيع المواقف... القيم الَّتي تلقَّفها غاندي عندما قال: "تعلَّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر"، وهو الَّذي قال لشعبه في الهند: "على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين".
إننا نريد لعاشوراء أن تبقى في كلّ هذه الدوائر وعلى كلّ المستويات، فلا نغلقها، ولا نصغّرها، ولا نفصل موسم إحيائها على حجمنا، ولا نحصر دورها في دائرة المظلوميَّة، وفي دائرة الخصومة المذهبيَّة، بل نريدها في الدائرة الإسلاميَّة الكبرى، ومن ثم في الدائرة الإنسانية.
نقول للمسلمين: تعالوا لنحيي عاشوراء، نتفاعل معها، نتدارسها جميعاً، بغض النظر عن السياسة وما حدث من إرباكات في الواقع على مر التاريخ.
أكثر من هذا، ونقولها لكلّ العالم بكل أديانه وتنوّعاته: تعالوا ننهل من معنى عاشوراء ما يحتاج إليه العالم الَّذي يعاني الاستكبار والظّلم والطغيان، لنعد إلى العالم عدالته، ولتكن عاشوراء نقطة مضيئة لكلّ طالبي الحق والعدل والحرية والتغيير الحقيقي، التغيير البعيد عن الحسابات الضيّقة.
إنَّ عاشوراء نقيَّة، عاشوراء صرخة من أجل الحريَّة، فلنسهّل انسيابها عبر التاريخ والأزمنة. إنَّ ما قام به الحسين لا بدَّ من أن يجد مكانه في حركة الإنسان أينما كان، والمطلوب أن نطلقها إلى الأفق الواسع... لأجل ذلك، عاشوراء تحتاج إلى دراسة مضمونها جيداً وإعادة قراءة هذا المضمون، وبحاجة إلى دراسة شكل إحيائها وتطويره... ولعلَّ ذلك هو الضَّروري، لأنَّه في أحيان كثيرة، قد يعيق الشَّكل الوصول إلى المضمون.
علينا أن لا نخاف على عاشوراء إذا ما تمت الدعوة إلى إعادة قراءة أحداثها، لا يخافن أحد على العاطفة التي لعاشوراء في قلوب المؤمنين، ولا نخاف على فكر عاشوراء... على العكس، علينا أن نخاف على عاشوراء من الزيادات التي تُزاد عليها وتُضاف من دون حسيب ولا رقيب.
نعم، هناك قداسة لعاشوراء كما حصلت، ولكن لا شكل الإحياء ولا مضمونه مقدس، ويكفي دليلاً على ما نقول، إننا في السّابق، عندما كنّا صغاراً، كنا نسمع في مجالس عاشوراء أنّ فلاناً من أصحاب الحسين قتل ألفاً، أو ذاك قتل ألفاً، والبعض كان يصل إلى ثلاثين ألفاً وهكذا... أما اليوم، فنلاحظ أنَّ بعض هذه المبالغات قد غابت عن المجالس بفعل النقد ورفض المبالغة والزيادات. كذلك، فإنَّ فتاوى تحريم التطبير وضرب الرؤوس قد خفّفت كثيراً من هذه الممارسات، فهل تأثرت عاشوراء؟
لقد بقيت عاشوراء وزاد جمهورها، وأصبحت أكثر تأثيراً وفاعلية... وستبقى كذلك، لأنَّ عاشوراء تختزن في داخلها إمكانيَّة البقاء والاستمرار، وهي عصيَّة على النسيان، فقد تجذر حضورها في القلوب والوجدان والروح، وعاشوراء عابرة للمذاهب والأديان والمناطق.
علينا أن نتابع هذه المسيرة؛ مسيرة تنقية السيرة، وأيضاً تنقية لسان الحال "وكأني به"، الذي بات تحت عنوانه نُقَوِّل الحسين وأصحابه وأهل بيته ما لا يريدون. ولعلَّ هذا يسيء إلى عاشوراء في الوقت الذي يكون هدف القارئ أن يخدمها.
مطلوب منا جميعاً، وحفظاً لعاشوراء، أن نعيد النظر في أساليب التعبير عن حبنا بما قد يسيء إلى أهداف عاشوراء وإلى فكر عاشوراء وإلى شخصيات عاشوراء... ولنجعل من عاشوراء منبراً للوعي السياسي والديني... فمن يتربى في مدرسة عاشوراء، لا يمكن له أن يتخلى أو يخذل القضايا الكبرى... والويل لأمة أفرادها لا يفكرون إلا في القضايا الصَّغيرة والهامشيَّة.
لنجعل من أيام عاشوراء فرصة لتعميق وحدتنا لا تفرقتنا وشرذمتنا، فبرغم كلِّ المعوّقات والتعقيدات، دعاؤنا أن تخفف عاشوراء من هذا التشنّج الَّذي نعيشه ويقلقنا جميعاً.
لنجعل من عاشوراء الخزان الَّذي يزودنا بكل طاقة وعناصر القوة، لنواجه الاستكبار العالمي الَّذي يخيّرنا بين السلّة والذلة، يريدنا أن نكون أذلاء، وهيهات من الذلة. وبذلك نجعل من عاشوراء موسماً وورشة عمل فيها تتجدَّد الحياة فينا، وتنتشلنا من جمودنا، وتكون خير دواء لأمراضنا، فنكسب خير الدنيا وخير الآخرة.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
ها نحن نلتقي مجدَّداً، وككلِّ سنة في موسم عاشوراء؛ هذا الموسم الَّذي عندما يأتي ينقلنا إلى أجواء الحزن الفجيعة، أجواء العزة والإباء، أجواء التضحية والثبات، وهي أجواءٌ تفرض نفسها على كل واقعنا، ويتكرر المشهد عاماً بعد عام.
ويبقى السؤال لدى الكثيرين: لماذا نُصر على إحياء ذكرى حدثٍ وقع قبل أربعة عشر قرناً؟ ولماذا نصرّ على استعادتها ما دامت الأحداث هي نفسها، والقصة نفسها، والمجالس نفسها، والبرامج نفسها.
لماذا كل هذا؟ هل هي طقوس اعتدناها؟ أو هي العاطفة الجياشة الَّتي شكَّلت وجداننا وأصبحت جزءاً من كياننا؟ أو أنّ هذه المناسبة هي ضرورة وحاجة، الآن وفي كل مرحلة، كما كانت حاجة في مرحلة حدوثها؟
عندما وقعت حادثة كربلاء قبل أربعة عشر قرناً، كانت ضرورة... كان الإسلام في مهبِّ رياح بني أمية، وفي ظل مجتمع إسلامي ركن إلى الظلم وغلّب دنياه على دينه كما أراد له الأمويون.
فيزيد الرجل الفاسق الفاجر، يُراد له أن يتولى أمر المسلمين، الحق بات لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، السّنة قد أُميتت والبدعة قد أُحييت، البوصلة تغيّرت، والباطل أصبح حقاً والحق بات باطلاً، والَّذين يتحكَّمون بمصالح الناس لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطَّلوا الحدود، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله.
لقد بات المعيار هو معيار عمر بن سعد، قائد جيش ابن زياد، وباتت لغة الدينار هي السائدة، ولغة الخوف من السَّيف هي الحاكمة للواقع، الناس باتوا عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون.
للأسف، هكذا كانت حال الأمّة، أمة رسول الله تنحدر إلى الدرك الأسفل، وكل ما بناه الرسول سيذهب سدى.
لهذا انطلق الحسين، ليهزّ كلّ هذا الواقع ويغيّره، وكان هذا ضرورة وواجباً، ولهذا أطلق نداءه الأول: "إني سمعت رسول الله يقول من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهده يعمل في عباده بالإثم والعدوان فلم يغيّر بقول أو فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".
لقد انطلق الحسين من موقعه كسبط لرسول الله، ومن مسؤوليته كإمام، ومن موقع عزته كمسلم، كانت عبوديّته تنبع من عبوديته لله وحده، فكيف يرضخ ويبايع شخصاً كيزيد؟
لهذا يحدّد الحسين موقفه: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد".
من هذه الرؤية، وقياساً إلى واقعنا، أمس واليوم وغداً، نرى أنَّ عاشوراء هي ضرورة وحاجة على أكثر من مستوى.
المستوى الأول هو مستوى أتباع أهل البيت، فالحسين إمام يتولونه ويلتزمونه فكراً وقدوةً وسلوكاً وعملاً، وإحياء أمره واجب عليهم، وهم ملتزمون بذلك كما ورد عن أئمَّة أهل البيت(ع).
وعلى المستوى الثاني: عاشوراء هي ضرورة بالنّسبة إلى المسلمين جميعاً بكلّ مذاهبهم، لأنَّ أهدافها هي أهداف الإسلام ومقاصده، وأبطالها هم خير من تربى من معين الإسلام... فالحسين عند كلّ المسلمين، وفي كلّ كتبهم ومصادرهم، سيِّد شباب أهل الجنة، وسبط رسول الله وريحانته، هو والحسن إمامان قاما أو قعدا، فمن الطَّبيعي، لا بل الأصل، أنَّ كلّ المسلمين معنيون بما جرى في كربلاء... وغير مفهوم هذا النأي لشريحة واسعة من المسلمين عن إحياء عاشوراء واستبعادها من ذاكرتهم الجمعيَّة، وكأنَّ هذا الدم لم يسفك في كربلاء... ويتساءل المراقب: أين ذهبت هذه العاطفة تجاه من كان الرسول لا يفتأ عن الحث على حبّه، وكم قال: "اللهم إني أحبه فأحبه... رحم الله من أحب حسينا...".
ثم إنَّ شعارات كربلاء لم تكن مذهبيَّة، ولم تكن خاصة بمرحلتها، كانت شعارات إسلاميَّة وممتدة على مدى الزمن، هي الشّعارات الَّتي انطلقت من القرآن ومن رسول الله: هي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، هي الإصلاح في أمة جدّه رسول الله، هي الإصلاح في مسيرة الإسلام.
وعلى المستوى الثالث، فإننا نرى أنَّ إحياء عاشوراء ضرورة لإحياء القيم الإنسانيَّة، قيم الحرية، والعدالة، ورفض الظلم، قيم الثبات، وعدم بيع المواقف... القيم الَّتي تلقَّفها غاندي عندما قال: "تعلَّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر"، وهو الَّذي قال لشعبه في الهند: "على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين".
إننا نريد لعاشوراء أن تبقى في كلّ هذه الدوائر وعلى كلّ المستويات، فلا نغلقها، ولا نصغّرها، ولا نفصل موسم إحيائها على حجمنا، ولا نحصر دورها في دائرة المظلوميَّة، وفي دائرة الخصومة المذهبيَّة، بل نريدها في الدائرة الإسلاميَّة الكبرى، ومن ثم في الدائرة الإنسانية.
نقول للمسلمين: تعالوا لنحيي عاشوراء، نتفاعل معها، نتدارسها جميعاً، بغض النظر عن السياسة وما حدث من إرباكات في الواقع على مر التاريخ.
أكثر من هذا، ونقولها لكلّ العالم بكل أديانه وتنوّعاته: تعالوا ننهل من معنى عاشوراء ما يحتاج إليه العالم الَّذي يعاني الاستكبار والظّلم والطغيان، لنعد إلى العالم عدالته، ولتكن عاشوراء نقطة مضيئة لكلّ طالبي الحق والعدل والحرية والتغيير الحقيقي، التغيير البعيد عن الحسابات الضيّقة.
إنَّ عاشوراء نقيَّة، عاشوراء صرخة من أجل الحريَّة، فلنسهّل انسيابها عبر التاريخ والأزمنة. إنَّ ما قام به الحسين لا بدَّ من أن يجد مكانه في حركة الإنسان أينما كان، والمطلوب أن نطلقها إلى الأفق الواسع... لأجل ذلك، عاشوراء تحتاج إلى دراسة مضمونها جيداً وإعادة قراءة هذا المضمون، وبحاجة إلى دراسة شكل إحيائها وتطويره... ولعلَّ ذلك هو الضَّروري، لأنَّه في أحيان كثيرة، قد يعيق الشَّكل الوصول إلى المضمون.
علينا أن لا نخاف على عاشوراء إذا ما تمت الدعوة إلى إعادة قراءة أحداثها، لا يخافن أحد على العاطفة التي لعاشوراء في قلوب المؤمنين، ولا نخاف على فكر عاشوراء... على العكس، علينا أن نخاف على عاشوراء من الزيادات التي تُزاد عليها وتُضاف من دون حسيب ولا رقيب.
نعم، هناك قداسة لعاشوراء كما حصلت، ولكن لا شكل الإحياء ولا مضمونه مقدس، ويكفي دليلاً على ما نقول، إننا في السّابق، عندما كنّا صغاراً، كنا نسمع في مجالس عاشوراء أنّ فلاناً من أصحاب الحسين قتل ألفاً، أو ذاك قتل ألفاً، والبعض كان يصل إلى ثلاثين ألفاً وهكذا... أما اليوم، فنلاحظ أنَّ بعض هذه المبالغات قد غابت عن المجالس بفعل النقد ورفض المبالغة والزيادات. كذلك، فإنَّ فتاوى تحريم التطبير وضرب الرؤوس قد خفّفت كثيراً من هذه الممارسات، فهل تأثرت عاشوراء؟
لقد بقيت عاشوراء وزاد جمهورها، وأصبحت أكثر تأثيراً وفاعلية... وستبقى كذلك، لأنَّ عاشوراء تختزن في داخلها إمكانيَّة البقاء والاستمرار، وهي عصيَّة على النسيان، فقد تجذر حضورها في القلوب والوجدان والروح، وعاشوراء عابرة للمذاهب والأديان والمناطق.
علينا أن نتابع هذه المسيرة؛ مسيرة تنقية السيرة، وأيضاً تنقية لسان الحال "وكأني به"، الذي بات تحت عنوانه نُقَوِّل الحسين وأصحابه وأهل بيته ما لا يريدون. ولعلَّ هذا يسيء إلى عاشوراء في الوقت الذي يكون هدف القارئ أن يخدمها.
مطلوب منا جميعاً، وحفظاً لعاشوراء، أن نعيد النظر في أساليب التعبير عن حبنا بما قد يسيء إلى أهداف عاشوراء وإلى فكر عاشوراء وإلى شخصيات عاشوراء... ولنجعل من عاشوراء منبراً للوعي السياسي والديني... فمن يتربى في مدرسة عاشوراء، لا يمكن له أن يتخلى أو يخذل القضايا الكبرى... والويل لأمة أفرادها لا يفكرون إلا في القضايا الصَّغيرة والهامشيَّة.
لنجعل من أيام عاشوراء فرصة لتعميق وحدتنا لا تفرقتنا وشرذمتنا، فبرغم كلِّ المعوّقات والتعقيدات، دعاؤنا أن تخفف عاشوراء من هذا التشنّج الَّذي نعيشه ويقلقنا جميعاً.
لنجعل من عاشوراء الخزان الَّذي يزودنا بكل طاقة وعناصر القوة، لنواجه الاستكبار العالمي الَّذي يخيّرنا بين السلّة والذلة، يريدنا أن نكون أذلاء، وهيهات من الذلة. وبذلك نجعل من عاشوراء موسماً وورشة عمل فيها تتجدَّد الحياة فينا، وتنتشلنا من جمودنا، وتكون خير دواء لأمراضنا، فنكسب خير الدنيا وخير الآخرة.