لم أكن أتصور أني سأعيش يوماً هذه الأجواء التراثية التي انقرضت قبل أعمارنا، وكانت تشغل الناس في زمن ما قبل التلفزيون والفضائيات، مقهى صغير يجلس فيه رجال المحلة، وهناك كرسي كبير يسمى كرسي القصّخون، يجلس رجل وقور مثقف يحمل في رأسه روايات وحكايات كثيرة مثل: حكاية عنتر وعبلة، وألف ليلة وليلة، وله صوت جهوري وإلقاء مؤثر و....
المهم أنهم استقبلوني بترحاب كبير، وما أن عرف الملا أن ضيفهم اليوم كربلائي، بدأ أمسيته حكايات عن كربلاء، عرفت فيما بعد أنه ارتكز في معلوماته على كتاب نادر اسمه (نزهة الإخوان في وقعة بلد المقتول والعطشان) وهو لمؤلف مجهول ومن تحقيق الدكتور سلمان هادي آل طعمة.
قال بعد ذكر النبي (عليه وعلى آله افضل الصلوات والسلام)، نبتدئ حكايتنا يا سادة يا كرام..
كان داود باشا وهو أحد الولاة العثمانيين الذين حكموا العراق، رجلاً ظالماً عاث في البلاد فسادا، قتل الكثير من العراقيين، وفسدت جميع البلدان والصناقر، ورغم كل هذه القساوة كان جباناً لا يستطيع أن يقف للحظات في ساحة حرب، قررت مجموعة كبيرة الثورة عليه، ومنهم صالح آغا حاكم المحاويل، ولحقه بعد ذلك رستم آغا ضابط المكريه، وتبعه حاجي أحمد آغا، هذا الرجل كان يعمل متولي المسيب، ويساعدهم قاسم بيك، وانتمت الحلة لثورتهم، أرسل إليهم داود باشا جيشاً كبيراً، فانتصر على الثوار.
صمت القصّخون برهة يتأمل في وجوه سامعيه، ثم أدرك الفاصلة التي يكررها..:
ـ ونكمل الكلام يا سادة يا كرام، بعد الصلاة على محمد وآل بيته العظام.. ثار بوجه هذا الحاكم الظالم أهالي كربلاء الأبطال، فحمل عليهم وقاتلهم ونصب لهم العداء، وأباد منهم أناساً كثيرة، ولم يهز صمود الكربلائيين.
دخل العسكر بحجة إصلاح ذات البين، نهض من قنفته الحاج فالح كاظم عبيد وهو يربت على ظهري مخاطباً القصخون:
ـ (ملا هذوله أهالي كربلاء تاج على الراس..)
وزعت لهم ابتسامات الرضا وقلت للحاج:
ـ راسك سالم حاج..
صاح القصخون حينها:
- نعود للكلام يا سادة يا كرام بعد الصلاة على محمد وآل محمد الطيبين العظام، أهل كربلاء معروفون بالمحبة والألفة فيما بينهم، وروح التآخي معروفة عندهم، إلى أن دخلهم من زرع الفتنة ففرق البلاد إلى فرقتين (كربلائية - كربلائية) وراح ثلاث ضحايا.
حزم أهالي كربلاء أمرهم، وفي حرب ساعة واحدة حسموا الأمر، لكن أصحاب الفتنة هربوا إلى ملجأ آخر، وبدأ الرمي البعيد، وهنا ازدهرت عندهم شغلة الشقاوة كبديل عن غياب رجل الأمن..
وفي ليلة عيد الفطر كثر الرصاص بين الفريقين، وقرر بعض وجهاء كربلاء أن يستثمروا فرصة للصلح فاستجابوا، واستقرت كربلاء، فتحرك الجواسيس ليشعلوها فتنة عند الوالي.
عمرت الجلسة القصّخونية بالشاي والقهوة، لكن رواد المقهى رفضوا أن يعكروا الجلسة بشيء، وألحّوا على القصّخون إكمال حكايته..
سأل الحاج سعد نايف العاني:
ـ (ملا، اكمل لنا الحكاية؛ لنعرف ماذا فعل أهالي كربلاء اتجاه العساكر...؟)
فقال:
بالصلاة على محمد وآله العظام نكمل لكم الحكاية يا سادة يا كرام..
كان الوعي الكربلائي يدرك المغزى من تحرك الجيش، ويعرف أنه لو خسر المعركة سيخسر كل شيء، سيخسر الأرض ومراقد الأئمة (عليهم السلام)، فتكفل نقيب الأشراف السيد حسين بن مرتضى آل دراج بمكاتبة الحكام، وأرسل إليهم الرسل، وتكفل الكيلدار السيد محمد علي شرف الدين من آل فائز وكان يلقب (أبو ردن) بذخيرة الحرب، وما تحتاج من الأسلحة والأعتدة، كما تكفل بذلك أيضاً السيد سلطان بن ثابت بن درويش نائب متولي قصبة كربلاء...
قام الحاج غازي فيصل الحلاوي سائلاً الملا:
- كيف نظم الكربلائيون شؤون البلاد، وهم يواجهون جيوشاً معدة، وهي جيوش دولة كبيرة.
فقال الملا:
- بالصلاة على محمد وآهل بيته العظام نكمل الحكاية يا سادة يا كرام.
اعتمد أهالي كربلاء على سلاحين مهمين، كان السلاح الأول هو الدعاء يقضون كل يوم وكل ليلة بالدعاء، أصوات ترفع وضجة كبيرة من الأصوات تبتهل إلى الله تعالى بالدعاء تحت قبة سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) تبلغ عنان السماء، وانقطع أهل المدينة كلها لله تعالى والأئمة الأطهار، والله (جل شأنه) خير مجيب لنجوى المظلومين.
والقسم الثاني حمل السلاح بحدود 4 آلاف بندقية، والكربلائيون لهم خبرة وبصيرة بالرمي، كان معظم الرماة يراهن على إسقاط الطير برميته، ولديهم خمسة عشر (طوبا) أي مدفعاً، وكان رامي كربلاء الأول هو السيد إبراهيم الكربلائي والذي كبد العساكر خسائرَ جسيمة، وكُرِّم من قبل الكليدار، وسُوِّرت كربلاء بسور منيع محكم ضبطت أبوابه واحكم إقفالها وعليها حرس، وتقرع الطبول والطوس، وكان المقاتل الكربلائي يعتقد تماما أن النصر هو من عند الله تعالى، وببركة سيد الشهداء الحسين عليه السلام، وأن كربلاء برعاية أبي عبد الله، وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما سلام الله).
قاطعه الحاج حمزة رشيد الحجية، وهل لهذه
الأسوار أبواب سُمّيت محلاتها ومناطقها على اسمها؟
عند كل سؤال يسأله أحد كبار المحلة يلتفت الناس حولي، وينظرون إليّ وكأني أنا كربلاء، وهذا فخر أسعدني كثيرا، (بالمناسبة حتى القصّخون يركز النظر علي).
أجاب حينها القصّخون:
- بعد الصلاة والسلام على محمد وأهل بيته العظام..
نعود لتكملة الحكاية يا سادة يا كرام، أسماء الابواب كانت تطلق على أسماء القبائل التي تسكن صوبها، وجميع الأبواب لها رؤساؤها وكبارها، ولها أكثر من جماعة، ففي باب العلوة (ويعني باب بغداد) سميت باب العلوة؛ لوجود علوة مخضر كبيرة، وكانت ملتقى أهل البساتين الذين يبيعون منتجات بساتينهم من فاكهة وخضار، وكان حامل اللواء علي أبو شتيوي وهو أحد رجالات حادثة المناخور، ثم الحاج الشيخ كاظم (أبو أذان)، هذا جمع..
اما الثاني كان لأهل البركة ويسميها العامة (البرجة)، وكان رئيسها صاحب اللواء سلطان الحياوي، وباب الخان أيضا كان لها جمعان، واحد يقوده محمد بن حسين الحداد، والثاني محمود بن الشيخ صالح، وباب النجف يتكون من جماعتين، الأول يقوده دولي بن حسين الشناوة، والثاني جماعة البلوش.
والبلوش يا سادة يا كرام هم أسرة علمية استوطنت كربلاء على عهد السلطان نادر شاه وتم تسمية أحد الازقة باسمهم عگد البلوش، وساحة البلوش تطلق على ساحة الإمام علي (عليه السلام) وكان كبيرهم الحاج محمد البلوشي، وباب الخيمكاه، ويعني محلة المخيم، والتي سميت لاحتوائها على المخيم الحسيني، وكان صاحب لوائه السيد مرتضى بن السيد باقر.
أما باب الطاق فيها ثلاث جماعات: الجماعة الأولى هي لأهل النصة، زقاق طويل يتفرع من عكد بني سعد في محلة باب الطاق مقابل طاق أبو لبن، ورئيسهم هو حمد بن عون، والجماعة الثانية باسم جمع كبيس، وكبيس يا سادة يا كرام أسرة كبيرة هاجرت من محافظة الرمادي من مدينة كبيسة، واستوطنت كربلاء في القرن العاشر الهجري، واتخذت جزءاً من محلة باب الطاق، وكان حامل لوائه هو سالم بن عبد، والثالث لأهل البزارة، وصاحب اللواء كان السيد مصطفى بن الزعفراني، هو إبراهيم بن هاشم بن مصطفى بن مرتضى شقيق سادن الروضة الحسينية السيد حسين بن محمد الرضوي الحسينية..
ولهم طاق معروف باسمهم تم تهديمه، وهو من آثار كربلاء.
أما باب آل سلالمة، والسلالمة يا سادة يا كرام هم عشيرة عربية، تفرعت من أسلم من شمر، وصاحب لوائها محمد الحمزة، رئيس عشيرة السلالمة، وهو من أبطال واقعة المناخور، والثاني جمع الوزون، والوزون يا سادة يا كرام هم أحدى عشائر كربلاء المتفرعة من خفاجة، كان لها دور مشرف في حوادث كربلاء السياسية، تولى رئاستها عمر العلوان، وعثمان العلوان.
والجمع الثالث كان جمع الدكاكين، ولواؤه بيد حسن بن يوسف جاذب، والجمع الرابع جمع الطهامزة، وهم يا سادة يا كرام عشيرة تنسب إلى قبيلة (خفاجة) جاورت مشهد الحسين في القرن الثاني عشر الهجري، والجمع الخامس هو جمع بني سعد، وهم يا سادة يا كرام عشيرة معروفة تنتسب إلى قبيلة هوازن، كان لها دور في أحداث كربلاء السياسية.
وهناك مجاميع قتالية تابعة لمختلف الهويات، وكانوا محاربين أشداء ورماة متمكنين يجمعهم لواء علي أكبر، وجمع آخر وصاحب لوائه حسين الحداد، وحسين الحداد رئيس الكشامرة من آل كشمر الساكنين في كربلاء، وكان حسين الحداد شجاعا رغم عطب يده اليسرى، قربه السيد النقيب وجعله ناظرا على الطهاة الذين يهيئون الطعام للمحاربين، كانت مجموعة حسين الحداد تلعب دور معسكرات المصرف أو الطوارئ، وما تلعبه معسكرات التدريب الميداني، إذ تضخ مقاتليها لنجدة أي طارئ على جميع الابواب.
علي حسين الخباز