تداولت الأوساط الثقافية الكثير من المصطلحات التي مهدت لها لبنات فكرية بعضها كان قد تاه في الوهم والسذاجة، فلو تأملنا موضوعة (حوار الثقافات) معلنة عن حاجة البشر إلى إقامة جسور تربط بين هذه الثقافات، وتفتح أبواباً للتواصل والتثاقف، لما يترتب على ذلك من إشاعة حالة من المعرفة المشتركة من ناحية، ولما يصدر عنه من التمكين للتعايش والتفاهم بين أصحاب هذه الثقافات من ناحية أخرى، التي من شأنها أن تلعب دوراً مهماً في بناء الثقة بين الشعوب أكثر من السياسة والتجارة... ولا يمكن تحت أي ظرف كان إنكار دور العامل الثقافي وملامسته من قريب أو بعيد لقضايا الشعوب، والسعي إلى تجاوز خلافاتها المزمنة والراهنة.
وما يثير القلق ان بعضا من المهتمين بالثقافة العربية اشار الى وجود عدد من (الساذجين) الذين يلتقطون - من دون وعي - بعض المصطلحات، وأحياناً، بعض التعابير ثم يذهبون بها بعيداً عما وضعت له، فقد اتخذوا من موضوع (التعددية الثقافية) دعوة إلى إيجاد تعددية ثقافية متمايزة في الوطن العربي، كأن الأمة العربية في منظورهم الخاطئ، مجموعة من الأمم والشعوب ذات الثقافات المختلفة، وليس هي أمة محمد، وأمة القرآن، وأمة أهل البيت عليهم السلام.
والمحزن أن هؤلاء الذين أطلق عليهم صفة (الساذجين) يبدون كأنهم قد نذروا أنفسهم للدفاع عن هذه التعددية المزعومة، وتحديد معالمها، وتجريد الثقافة العربية من واحديتها، انطلاقاً من الواقع السياسي المؤقت الذي لا يلغي حقيقة التجانس والترابط الثقافي الذي وحّد وجدان أبناء الأمة العربية منذ ألف وخمسمائة عام.
والحديث عن تعددية الثقافة العربية لا يختلف كثيراً عن الحديث عن الدعوة إلى استخدام (العاميات) في الكتابة، وتفكيك أعظم الأواصر الجامعة لأبناء الأمة، ذات التاريخ الواحد واللغة الواحدة.
وفي حالة التدهور الأخلاقي، وغياب الوعي بالمصلحة القومية، لا غرابة أن تنمو على سطح الواقع المريض، مثل هذه الدعوات القومية، وأن تجد لها في بعض الأوساط أنصاراً ومخدوعين، وهو ما يفرض على المسؤولين عن الثقافة العربية، رفع جاهزية المواجهة، وتعريف أبناء الأمة العربية في كل مكان بخطورة هذه الدعوات المشبوهة، وما تحمله في باطنها وظاهرها من محاولة فاشلة لعزل الأمة عن تاريخها وكنوزها الثقافية، وما سوف يصدر عنها في المستقبل – لو نجحت لا سمح الله – من مزيد من التفكيك والتفتيت للمشاعر، بعد أن نجحت الدعوة إلى تفكيك الأقطار العربية، وعزلها عن بعضها بعضاً، ليسهل ضربها وتكسيرها.
الثقافة في حياة أي شعب، وأية أمة، تجربة فكرية إبداعية، تثري وجدان الشعوب، تتغير أساليبها ولا يتغير جوهرها، والشعب الذي يفقد ثقافته المشتركة يفقد ذاكرته وهويته، ويتحول إلى لقيط هجين، لا يعرف له مرجعية، يستند إليها، أو مشروعية ثقافية يضيف إليها ويحددها ويتحدد معها.
والذين يتحدثون عن ثقافات في إطار الثقافة الواحدة، إنما يسعون إلى طمس الوجدان المشترك، لأبناء هذه الثقافة الواحدة. فالثقافة العربية بإرثها الروحي والوحدوي، وبإرثها الرسالي وما تركه لنا أئمة اهل البيت عليهم السلام من كنوز قادرة على توحيد الهوية، هي بالنسبة إلينا - نحن العرب - آخر ما تبقى في هذه المرحلة العصيبة من جسور التفاهم ونقاط اللقاء.
وواضح أن أعداء الأمة سواء من داخلها أو خارجها، لا يكفون عن البحث عن منفذ يعبرون منه إلى تحطيم هذا الجامع المتبقي في وطن يتهاوى تحت ضربات موجعة، من خصومه وأبنائه على السواء.
تعليق