نسأل الله أن لا تؤول عاقبة المعاصي إلى الملكات والأخلاق الظلمانية القبيحة، والتي تؤول إلى فقدان الإيمان وموت الإنسان كافراً، لأنّ جهنّم الكافر وجهنّم العقائد الباطلة أشدّ بدرجات وأكثر إحراقاً وظلمة من ذينك الجهنّمين، جهنّم الأعمال وجهنّم الملكات الفاسدة.
أيّها العزيز.. لقد ثبت في العلوم العالية[1] أنّ درجات الشدّة غير محدودة، فمهما تصوّرت ومهما تصورت العقول بأسرها شدّة العذاب، فوجود عذاب أشدّ أمر ممكن أيضاً، وأنت إذا لم ترَ برهان الحكماء، ولم تُصدّق كشف أهل الرياضات، ولكنّك بحمد الله مؤمن تُصدّق الأنبياء عليهم السلام، وتُقرّ بصحة الأخبار الواردة عنهم في الكتب المعتبرة التي يقبلها جميع علماء الإمامية، وتُقرّ بصحة الأدعية والمناجاة الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.
أنت الذي رأيت مناجاة مولى المتّقين أمير المؤمنين عليه السلام، ورأيت مناجاة سيد الساجدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي...
فتأمّل قليلاً في مضمونها، وفكّر قليلاً في محتواها، وتمعّن قليلاً في فقراتها، فليس ضرورياً أن تقرأ دعاء طويلاً دفعة واحدة وبسرعة دون تفكّر في معانيه.
أنا وأنت ليس لدينا حال سيّد الساجدين عليه السلام كي نقرأ تلك الأدعية المفصّلة بشوق وإقبال، اقرأ في الليلة ربع ذلك أو ثلثه وفكِّر في فقراته، لعلّك تُصبح صاحب شوق وإقبال وتوجّه.
وفوق ذلك كلّه فكّر قليلاً في القرآن، وانظر أيّ عذاب وعد به الحقّ تعالى، بحيث إنّ أهل جهنّم يطلبون من الملك الموكّل بجهنّم أن ينتزع منهم أرواحهم، ولكن هيهات فلا مجال للموت.
أنظر إلى قوله تعالى: ﴿...يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾[2].
فأيّة حسرة هذه التي يذكرها الله تعالى بتلك العظمة وبهذا التعبير؟ تدبّر في هذه الآية القرآنية الشريفة ولا تمرّ عليها دون تأمّل.
وتدبّر أيضاً في آية: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[3].
حقّاً فكّر يا عزيزي! القرآن ليس بكتاب قصّة، ولا بممازح لأحد، انظر ما يقول.. أيّ عذاب هذا الذي يصفه الله تبارك وتعالى وهو العظيم الذي لا حدّ ولا حصر لعظمته ولا انتهاء لعزّته وسلطانه، فيقول بأنّه شديد وعظيم.. فماذا وكيف سيكون؟!
الله وحده هو العالِم، لأنّ عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوّره. ولو راجعت أخبار أهل بيت العصمة والطهارة وآثارهم، وتأمّلت فيها، لفهمت أنّ قضية عذاب ذلك العالَم، هي غير أنواع العذاب التي فكّرت فيها، وقياس عذاب ذلك العالَم بعذاب هذا العالَم، قياس باطل وخاطئ.
وهنا أنقل لك حديثاً شريفاً لكي تعرف ماهية الأمر وعظمة المصيبة مع أنّ هذا الحديث يتعلّق بجهنّم الأعمال، وهي أخفّ من جميع النيران، عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قاعداً إذ أتاه جبرائيل وهو كئيب حزين متغيّر اللون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل ما لي أراك كئيباً حزيناً؟
فقال: يا محمد فكيف لا أكون كذلك وإنّما وضعت منافخُ جهنّم اليوم؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما منافخ جهنّم يا جبرائيل؟
فقال: إنّ الله تعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثمّ أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثمّ أمر فأوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت وهي سوداء مظلمة.
فلو أنّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا، لذابت الدنيا من حرِّها، ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لماتوا من نتنها.
قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرائيل فبعث الله إليهما ملكاً، فقال: إنّ ربّكما يُقرئكما السلام ويقول: إنّي أمّنتكما من أن تُذنبا ذنباً أُعذِّبكما عليه"[4].
دروس من الأربعون حديثاً (جهاد النفس)، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] لقد بيّن هذه الحقيقة صدر المتألّهين وغيره من الحكماء في كتبهم العلمية، الأسفار، ج 1، ص 45، 65، 69.
[2] سورة الزمر، الآية 56.
[3] سورة الحج، الآية 2.
[4] الفيض الكاشاني، علم اليقين، المقصد 4، الباب 15، فصل 6، ص 1032.