سؤال: يتوجه به البعض للتشكيك بنفع الأنبياء وأتباعهم للبشرية وهو أن
ألكسندر فليمنج مُكتشفُ البنسلين أفادَ البشريّةَ أكثرَ مِن كلِّ الأنبياءِ مُجتمعين فقد كانَ له الفضلُ في إنقاذِ حياةِ ملايينِ البشرِ على مُستوى العالمِ ولا زالَ له الفضلُ حتّى الآن.. ولم يأتِه الوحيُ ولا جبريل.. ولم يطلُب مِن أحدٍ أن يتّبعَه أو يصلّي عليهِ في كلِّ وقتٍ وحين.. ولم يعِدهم بالحياةِ بعدَ الموت والخلودِ في الجنّةِ إذا اِتّبعوه وصلّوا عليه.. ولا هدّدَهم بالعذابِ في النارِ إذا لم يتّبعوه.. ولم يطلُب شهادةً ولا زكاةً ولا صلاةً ولا صوماً..
#الجوابُ:
أوّلاً: يبدو أنَّ السّمةَ العامّةَ للمُلحدينَ هيَ التحاملُ على الدينِ من دونِ إنصافٍ أو موضوعيّة!
فإذا كانَ دورُ العلماءِ والمُخترعينَ هوَ العلومُ الطبيعيّةُ فما هوَ المُبرّرُ الموضعيّ لمُقارنتِهم معَ الأنبياءِ الذينَ يهتمّونَ بالإنسانِ في جانبِه الرّوحيّ والأخلاقيّ والقيميّ؟!
ومنَ الواضحِ أنَّ المُقارنةَ بينَ أمرينِ ضمنَ الشروطِ الموضوعيّةِ لا تتحقّقُ إلّا إذا كانَ بينَهما اشتراكٌ في الموضوعِ والهدف، وبالتالي ليسَ هناكَ أيُّ مُبرّرٍ موضوعيّ لعقدِ مثلِ هذهِ المُقارنةِ المُجحفة، ومَن يفعلُ ذلكَ ينطلقُ بالضرورةِ مِن موقفٍ نفسيٍّ وحقدٍ شخصي كما هوَ ظاهرٌ في هذا الكلام.
فالحقيقةُ أنَّ المُلحدَ يعيشُ عقدةً نفسيّةً منَ الأديانِ بينَما المؤمنُ لا يُعاني مِن عُقدةٍ تجاهَ العلومِ الطبيعيّة، ولا يحملُ أيَّ موقفٍ نفسيّ تجاهَ العلماء، ولذا لا يحملُنا هذا الكلامُ لمُهاجمةِ ألكسندر فليمنج، وهوَ العالمُ البريطانيُّ الذي اكتشفَ البنسلين في العامِ 1928، وهذا الاكتشافُ يعدُّ منَ الاكتشافاتِ العلميّةِ الأكثرِ أهمّيّةً وتأثيراً في تاريخِ البشريّة، إذ إنَّ البنسلين هوَ مضادٌ حيويٌّ قادرٌ على القضاءِ على الكثيرِ منَ الجراثيمِ الخبيثةِ التي كانَت تُهدّدُ الحياةَ البشريّةَ وتسبّبُ العديدَ منَ الأمراضِ والوفيّات.
ومنَ الجديرِ بالذّكر أنَّ فليمنج لم يحصُل على هذا الاكتشافِ بمُفردِه، بل كانَ هناكَ فريقٌ منَ العلماءِ والباحثينَ يعملونَ معَه على هذا الاكتشاف.
وبالتالي، فإنَّ هذا الفضلَ ليسَ لفليمنج وحدهِ، بل لكلِّ مَن شاركَ في هذا العملِ الرّائع.
ثانياً: تجبُ الإشارةُ إلى أنَّ الأنبياءَ لهم دورٌ هامٌّ في الحضارةِ الإنسانيّة والتأثيرِ على المُجتمعاتِ والثقافاتِ على مرِّ العصور، فهدفُ الأديانِ هوَ هدايةُ الإنسانِ وإرشادُه إلى الحياةِ السعيدة.
بينَما الإلحادُ حالةٌ مادّيّةٌ بحتةٌ لا يمكنُها استيعابُ الجانبِ الروحيّ والقيميّ في الإنسان، ويبدو أنَّ الجهلَ بحقيقةِ الإنسانِ وما يشتملُ عليهِ مِن جانبٍ مادّيٍّ وروحيّ هو السببُ في إهمالِ الدينِ واستبعادِه عندَ المُلحد.
ثالثاً: هناكَ الكثيرُ منَ المُغالطاتِ المنطقيّةِ التي يرتكبُها بعضُ المُلحدين الذينَ يُفضّلونَ العلماءَ على الأنبياء، ومِن بينِ تلكَ المُغالطاتِ مغالطةُ تقييمِ ما هوَ روحيٌّ ومعنويّ بمعاييرَ حسّيّةٍ تجريبيّة، فلا خلافَ حولَ أهمّيّةِ المعاييرِ العلميّةِ بوصفِها مِن أهمِّ الأدواتِ لتقييمِ وتحليلِ المعلومات، وتطويرِ النظريّاتِ العلميّةِ وتطبيقِها في الحياةِ العمليّة، إلّا أنّها غيرُ صالحةٍ لتقييمِ الإنسانِ بوصفِه كائناً لهُ مسؤوليّاتٌ حضاريّة، ومَن يتعمّدُ القيامَ بذلكَ يقعُ في الأخطاءِ المنطقيّةِ حتماً، فالإنسانُ لا يتحرّكُ في بُعدِه المادّيّ فقط وإنّما يتحرّكُ في بُعدِه الإنسانيّ والحضاري، ومِن هُنا كانَت مُهمّةُ الأنبياءِ تتجاوزُ الأبعادَ المادّيّةَ لتشملَ الأبعادَ الروحانيّةِ والأخلاقيّةِ والإنسانيّة.
فمسؤوليّةُ الأنبياءِ هيَ توجيهُ الإنسانِ نحوَ الخيرِ والإحسانِ والعدل، وتحريكُ كلِّ قيمِ الحقِّ والفضيلةِ حتّى تتحسّنَ حالتُه الروحيّةُ والمعنويّةُ فيجدُ حينَها مكانتَه كإنسانٍ وليسَ مُجرّدَ حيوان.
وعليهِ: فإنَّ تحسينَ الحالةِ الإنسانيّةِ وتطويرها لا يقتصرُ على الجانبِ العلميّ والتكنولوجيّ فقط، وإنّما يشملُ منَ الأساسِ الجوانبَ التي يمتازُ فيها الإنسانُ عن الحيوان، فالإنسانُ ليسَ مُجرّدَ حيوانٍ وإنّما حيواناً أخلاقيّاً له القدرةُ على التحلّي بمنظومةٍ منَ القيمِ والفضائل، وهُنا تبرزُ أهمّيّةُ الأنبياءِ في حياةِ الإنسان، فالمؤمنُ وحدهُ هوَ الذي يفهمُ التكاملَ بينَ دورِ الأنبياءِ ودورِ علماءِ الطبيعة؛ وذلكَ لأنّه يؤمنُ بكونِ الإنسانِ روحاً ومادّةً، بينَما الملحدُ الذي لا يعترفُ بغيرِ المادّةِ لا يمكنُه استيعابُ ذلك.
وفي النهايةِ، يجبُ الانتباهُ إلى أنَّ مقارنةَ العلماءِ والأنبياءِ ليسَت مناسبةً تماماً، حيثُ يؤدّي ذلكَ إلى وضعِ معاييرَ ومقاييسَ خاطئةٍ لتقييمِ كلٍّ مِنهما. فالأنبياءُ يشغلونَ دوراً روحيّاً وأخلاقيّاً وإنسانيّاً، في حينِ أنَّ العلماءَ يشغلونَ دوراً علميّاً وتكنولوجيّاً وتطبيقيّاً.
وبالتالي: لا يمكنُ تقييمُهم بنفسِ المعاييرِ والمقاييس. لذا، يجبُ علينا الاهتمامُ بمساهماتِ كلٍّ مِنهما، وتقييمُها بمعاييرَ خاصّةٍ بها، بدلاً مِن إجبارِهم على معاييرَ ومقاييسَ لا تناسبُ دورَهم ومساهماتِهم المُختلفة.
أمّا اعتراضُه على الوحي والصّلاة على النبيّ وفرضِ الصيامِ والصّلاةِ وغيرِ ذلك، فهيَ اعتراضاتٌ تُعبّرُ عن موقفِ إنسانٍ مُتمرّدٍ على الالتزامِ الدينيّ.
ويمكنُ أن نفهمَ ذلكَ في سياقاتٍ مُختلفة، ولكن لا يمكنُ فهمُه في سياقِ المُقارنةِ التي عقدَها بينَ مُكتشفِ البنسلين وبينَ الأنبياء، فالكسندر فليمنج لم يكُن مُدّعيّاً للنبوّةِ ولم يحمِل رسالةً للإنسانِ حتّى نتوقّعَ منهُ إرشاداتٍ وتكاليفَ وأحكامٍ تهتمُّ بالجانبِ الإنسانيّ في الإنسان، الأمرُ الذي يدلُّ على عدمِ استيعابِه للفرقِ بينَ حاجةِ الإنسانِ المادّيّةِ وحاجتِه الحضاريّة، فالعلومُ الطبيعيّةُ تهتمُّ بالإنسانِ بوصفِه مادّةً، فمنَ الطبيعيّ حينَها أن تبتعدَ عن أيّ تفسيراتٍ دينيّةٍ أو غيبيّة، بينَما تهتمُّ الأديانُ بالإنسانِ بوصفِه كائناً مُريداً له قصدٌ وهدف، فمنَ الطبيعيّ حينَها أن تهتمَّ بسلوكِ الإنسانِ اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً ونفسيّاً وتربويّاً وغير ذلكَ ممّا له علاقةٌ بالسلوكِ الحضاريّ للإنسان.
وفي الختامِ ننصحُ المُلحدينَ أن يكونوا أكثرَ موضوعيّةً في تقييمِهم للدّين، وأكثرَ احتراماً لخياراتِ المُتديّنين، فمِن حقِّ الجميعِ أن يسألَ عن فلسفةِ الأديانِ وفلسفةِ تعاليمِها وتشريعاتِها، ولكِن ليسَ مِن حقِّهم تقييمُها مِن مُنطلقاتٍ ذاتيّةٍ وخلفيّاتٍ نفسيّةٍ حاقدة.
تعليق