تُعتبر مسألة الثبات مسألة أساس في تماسك التنظيم واستمراريته ونجاحه في بلوغ أهدافه وتحقيق مساعيه. فمن دون الثبات لا يمكن لأيّ تنظيم أن يستمرّ، خصوصاً إذا واجهته ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية ضاغطة.
والعارف بحقيقة التنظيم الشيعيّ لن يستغرب ثبات أفراده على مبادئهم، فهم أناس عقائديون أصحاب مشروع أخرويّ لا خسارة فيه، والدنيا عندهم ليست سوى دار ممر، ومزرعة للآخرة. وهم أيضاً مؤمنون بهدفهم، ويعرفون لماذا يجاهدون. وهم أيضاً يعشقون المعصوم عليه السلام، ويرونه قد تحمّل من المصائب والمصاعب أكثر ممّا تحمّلوا بكثير. لذلك فهم مستعدّون للتضحية بأرواحهم وأهلهم وأولادهم وكل ما يملكونه، لنصرة مشروعهم الذي هو مشروع المعصوم عليه السلام، وهو مشروع الله عز وجل.
والثبات والتضحية يأخذ أشكالاً عديدة في حياة الإنسان، فقد يكون الثبات عبارة عن التضحية بالروح، وقد يكون عبارة عن تحمّل الفقر وشَظَفِ العيش في سبيل المعتقدات، وقد يكون عبارة عن تحمّل طبيعة وظروف العمل الشاقة التي لا يستطيع أن يتحمّلها ويصبر عليها إلّا الثابتون على مبادئهم ومعتقداتهم.
وقد جسَّد أصحاب الامام علي عليه السلام أرقى معاني التضحية والثبات، حيث قُتلوا وصلبوا وقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وقطّعت ألسنتهم، وهُجّروا وسُجنوا ومُنعوا من بيت مال المسلمين، وقُتّل أهلهم وإخوانهم وأصحابهم، وحوصروا، إلّا أنّهم بقوا متمسّكين بمشروعهم وهدفهم وانتمائهم الفكريّ والعقائديّ والسياسيّ.
رُشيد الهجريّ والصبرُ على الولاية:
عن أبي حسان العجليّ، عن قنوا بنت رُشيد الهجريّ، قال: قلت لها: أخبريني بما سمعتِ من أبيك، قالت: سمعت من أبي يقول: قال: حدّثني أمير المؤمنين عليه السلام فقال: "يا رُشيد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيّ بني أُميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟"، فقلت: يا أمير المؤمنين، آخر ذلك الجنّة؟ قال: "بلى يا رُشيد، أنت معي في الدنيا والآخرة". قالت: فوالله ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه الدعيّ عبيد الله بن زياد، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام، فأبى أن يتبرّأ منه، فقال له الدعيّ: فبأيّ ميتة قال لك تموت؟
قال: أخبَرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرأ منه، فتُقدّمني فتقطع يديّ ورجليّ ولساني، فقال: والله لأكذبنّ قوله فيك، قدّموه فاقطعوا يديه ورجليه، واتركوا لسانه، فحملت طوائفه[1] لمّا قطعت يداه ورجلاه، فقلت له: يا أبه، كيف تجد ألماً لما أصابك؟
فقال: لا يا بنية إلّا كالزحام بين الناس، فلمّا حملناه وأخرجناه من القصر، اجتمع الناس حوله، فقال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فإنّ للقوم بقية لم يأخذوها منّي بعد، فأتوه بصحيفة فكتب الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. وذهب لعينٌ فأخبره أنّه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فأرسل إليه الحجّام حتّى قطع لسانه فمات"[2].
التربية الولائية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] حُمِلَت طوائفه، أي حُملت أطراف يديه ورجليه لمّا قُطعت.
[2] المفيد، الاختصاص، تحقيق حسين الأستادوليّ وعلي أكبر الغفاري، بيروت، دار المفيد، 1993م، ط2، ص77