عرفتْ الآية علة مجيء النبي نوح (عليه السلام) لقومه بالمنذر فقط، وفي ذلك إشارة لطبيعة نفوس قومه
ذُكر إن "ما جاء في سورة نوح عن قصته (عليه السلام) هو مقطع خاص من حياته، وهو أقل مما ذكر في بقية السور، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى التوحيد، وترتبط بكيفيتها وعناصرها، والتخطيط الدقيق الماهر في هذا الأمر الهام، وذلك مقابل قوم معاندين ومتكبرين يأنفون من الانقياد إلى الحق"(١)، لذا فهي سورة الرساليين بشكل خاص ليتعلموا منها منهج الدعوة، ويتسورون بسور الصبر والاستمرار في الدعوة، وهنا سنورد تأملات مستلهمة من ظاهر بعض آياتها:
فكرة الانذار
قال تعالى: [إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)١) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ](نوح:٢)
عرفتْ الآية علة مجيء النبي نوح (عليه السلام) لقومه بالمنذر فقط، وفي ذلك إشارة لطبيعة نفوس قومه التي يغلب عليها الكفر لا الإيمان، والعصيان لا العبودية، والتجريء لا الامتثال لرسالات الله ورسله، حتى وصل بهم الأمر إلى استحقاق العذاب لا الرحمة، وارساله (عليه السلام) كان فرصة أخرى لهم، لذا الرسالي ظاهرُ انذارهِ تخويف وباطنه شفقة ورحمة.
مفهوم الطاعة
قال تعالى: [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ](نوح:٣)
الملفت بهذه الآية فعل الطاعة بقوله (وَأَطِيعُونِ) فهو لم يرد بنفس السياق- أي كل الأوامر العبادة والتقوى كانت منسوبة لله تعالى أما الطاعة فقد نسبه إليه (عليه السلام)؟- ولعل ذلك اشارة إن الذي لا يتحقق في داخله الايمان والتقوى للخالق لن يصدق ويؤمن برسله، فالناس حتى تنجو من العذاب لابد أن يحققوا العبودية لله تعالى، فإن امتثلوا للرب امتثلوا لكل أمر مرسل إليهم من قبله، لذا بطاعتهم لكل رسالي رباني كاشفة عن تحقق التقوى والعبودية لله تعالى فيهم.
فرار القوم وثبات الرسالي
قال تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارً(٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(٧)].
هذه الآيات تبين شدة إصرار هؤلاء القوم على الكفر، إذ إن هذا الانذار لم يزدهم بُعدًا فقط بل كانوا يفرون منه فرارًا، والغريب ما كان يصدر منهم من أفعال مادية كوضع الأصابع في الآذان والتغشية بالثياب كي لا يسمعوا الحق ولا يروا نور الحقيقة التي تأتيهم من دعوة رسول الله نوح (عليه السلام) استكبارا.
نعم فرارهم ظاهره كان بدنيا لكنه في الحقيقة هو فرار روحي ونفور نفسي، فهم استخدموا وسائل مادية للإحتجاب عن أمور معنوية، وهذا يلفت إلى حقيقة كم إنهم ضعفاء وكم إن نفوسهم ظلماء وقلوبهم جوفاء خالية من أي نور، فالرسالي الذي يُبصر هذه الحقيقة فيمن أتى للإنذار هو يزداد بذلك اصرارًا وثباتًا واستمرارًا؛ لعظيم قيمة ما لديه ولأهمية ما أرسل لأجله.
تعدد أساليب الدعوة
قال تعالى: [ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(٨)ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(٩)]
هنا نفهم كيف كان شكل إنذار النبي الذي وصفه بأنه مُبين أي الإنذار بتعدد الوسائل وتنوع الوسائل والأزمنة، وكم هي لطيفة عبارة [إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ]، فلعل الآية تصور لنا كيف إنه كلمهم بلسان الخطاب العام أي يتكلم مع جمع من الناس ولكن يقصد به أن يُسمعهم، فعندما كانت استجابتهم للإنذار بشكل عام ومباشر متعذر جرب معهم هذا الأسلوب، لعلهم يتنبهون ويرجعون إلى ربهم.
وبالمقابل جرب معهم أسلوب الإسرار أي إنه كان يذهب لكل واحد منهم سرًا وينذرهم ويدعوهم دون أن يعلم أحدهم بالآخر، فهناك مبالغة بالأسرار أي الدعوة بالخفاء سواء بالأسلوب معهم أو بالمكان والزمان، وهذا ما يؤكده أسلوب الاعلان إذ لم تقل الآية (أعلنت لهم اعلانا).
الرسالي واتقان اختيار أسلوب الترغيب
قال تعالى: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا](نوح: ١٢)
في أول السورة كان الوعد هو معنوي الغفران لبعض الذنوب واطالة العمر لأجلٍ مسمى، هنا النبي قدم لهم مزيداً من الوعود وكلها آثار دنيوية وثمار مادية من الأموال والبنين والخيرات، وكأنه هنا بدا يتحدث معهم ويخاطبهم بما تميل له أنفسهم وتنجذب إليه قلوبهم أكثر، وبذلك إشارة إلى دقة الرسالي في اختيار أسلوب الترغيب المناسب.
الرسالي بين الشدة ولين
قال تعالى: [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا(٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا](نوح:٢٨).
لماذا كانت هذه ردة فعل نبي الله نوح (عليه السلام) تجاه قومه، مع إنه أكثر الأنبياء صبرًا وسعيًا في دعوتهِ، والأشد تحملًا لجدالهم واستكبارهم؟ والجواب نفهمه من الآية التي تليها، فهم كانوا محض كفر وذوات محض شر ونفوس محض خبث ولن يلدوا إلا كفار، وليس فيهم بذرة خير فهم ضالين ومضلين، فالدعاء بهلاكهم هو عين الرحمة بالمجتمع الإنساني، وبه محق لأهل الباطل من نسلهم وقلع جذور شجرتهم الخبيثة.
وبالمقابل كان هناك دعاء رحمة وشفقة لأهل الإيمان في ختام السورة، وقد ابتدأها بدعوة لنفسه بالمغفرة فهو وإن كان نبيًا معصومًا إلا إنه مفتقرُ لربه أي بذلك إظهار للعبودية الصادقة والخالصة، تلك التي يربي عليها كل رسالي لاحق. ثم كان الدعاء إلى الأقربين ثم من يحل في بيته من أهل الإيمان ثم الأبعدين ممن يرتبط بهم من أهل الإيمان.
ولعل تكرار ذكر طلب هلاك الظالمين هنا لأن المؤمنين أيضًا ليس كل نسلهم سيكونون مؤمنين، فمن يختار الضلالة على الهدى وإن كان من بيت أهل الايمان مصيره الهلاك، لأنه ظلم نفسه بأن انحرف عن الشجرة الطيبة التي ولد بها وتغذى منها، بالنتيجة الرسالي يتميز بعبوديته وإن كان الأقرب إلى معبوده، وبصيرته التي تجعله دقيقاً وذو نظرة بعيدة في دعوته ودعائه.
—————
(١) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل :ج ١٩، ص ٤٣.
من موقع بشرى حياة
فاطمة الركابي
تعليق