مقدّمة:
حدث عالمي، ديني، ينتظره الجميع، على اختلاف بينهم في الصغرى بعد تسليم الكبرى، أو قل: على اختلاف بينهم في المصداق الذي سيتحقَّق ذلك الحدث على يديه.
فالمسلمون جميعاً، بل والموحِّدون، ومن يدين لله تعالى بدين سماوي، إن لم نأخذ بعين الاعتبار الديانات الوضعية التي آمنت به، كلّها تنتظر ذلك اليوم الذي تتحقَّق فيه المدينة الفاضلة، نعم، قد اختلفوا في شخص الذي سيبني تلك المدينة الفاضلة والجنَّة الأرضية.
إنَّه اليوم الموعود، يوم انتصار العدل وسيادته على الظلم والجور.
هيامٌ نجده عند الكثير ممَّن اهتمّوا بذلك الحدث، وعشقٌ جعل منهم لا يفترون يذكرونه ويتمنَّونه.
جهود كثيرة، بُذِلَت، ليعرف الشخص متى سيقع ذلك الحدث.
وهل هناك من طريقة لمعرفة قرب حدوثه؟
إنَّه البحث عن علامات الظهور و مؤشِّراته، تلك العلامات التي لم يهملها التراث الديني، وأعطاها من صفحاته قدراً معتدّاً به.
وهي مختلفة فيما بينها من حيث دلالتها على الظهور أو تشخيص المنقذ. وفي قربها أو بعدها نسبياً عن يوم الظهور الرسمي المنتظَر.
ومهما اختلفت تلك العلامات في درجة دلالاتها، فإنَّه يمكن القول: إنَّ هناك علامة بارزة من حيث المضمون والإشارات والدلالة على قرب الظهور، إنَّها علامة (الصيحة).
هذا البحث لا يُراد له أن يبحث في أسانيد روايات الصيحة، ولا الخوض في كلِّ دلالاتها، وإنَّما هو بحث علمي بحت، حول زاوية من زواياها، والتي تعتبر من مميّزات الصيحة ومن المفاصل الفارقة فيها، والتي يمكن أن تجعلها أهمّ علامات الظهور على الإطلاق، وهي كذلك.
إنَّها تلك اللغة، التي سيصيح بها جبرائيل من السماء: أنَّ الحقَّ مع علي عليه السلام، تلك اللهجة التي تُخرِج الفتاة من خدرها وتوقظ النائم، وتدخل البيوت عنوة.
إنَّها تلك الجملة التي يفهمها الجميع، على اختلاف مشاربهم ولغاتهم التي ربَّما تتجاوز الآلاف، الكلُّ يفهمها في اللحظة التي تطرق أسماعهم. يفهمونها، ويعونها، فتخبت قلوب العارفين إليها.
وهذا هو مركز البحث.
فإنَّه يحقُّ لباحث أن يسأل:
كيف يفهم الجميع - على اختلاف لغاتهم - معنى واحداً من جملة واحدة بلفظ واحد؟
ما هي الطريقة التي يتمُّ من خلالها إفهام الجميع لمضمون تلك الجملة؟
ما هي ماهية تلك الألفاظ التي ستطرق أفهام الجميع في لحظة واحدة؟
يمكن في هذا المجال تقديم تصوّرات ثبوتية، قد يساعد بعضها الدليل الإثباتي، وقد يبقى بعضها في حيِّز الإمكان، وقد يُستَدلُّ على بطلان بعضها الثالث.
والذي يمكن تصوّره في هذا المجال هو التالي:
التصوّر الأوّل:
أن تكون تلك الألفاظ الصادرة حين الصيحة، سنخ ألفاظ من شأن الجميع أن يفهموا معانيها بمجرَّد سماعها، أي إنَّها ألفاظ من النوع الذي يدلُّ على معناه بمجرَّد سماعه.
ويمكن تفسير هذا التصوّر بأحد تفسيرين:
التفسير الأوَّل: نظرية ذاتية دلالة الألفاظ على معانيها:
هناك بحث في علم الأُصول حول الكيفية التي تدلُّ وفقها الألفاظ على معانيها؛ فإنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الألفاظ تدلُّ على معانٍ معيَّنة، ووفق تلك الدلالة حصل التفاهم وتبادل الأفكار بين أبناء البشر، والبحث المهمّ هنا، هو السؤال عن كيفية دلالة الألفاظ المخصوصة على معانٍ معيَّنة.
وقد اختلف الأُصوليون في نوع تلك الدلالة وحقيقتها، وقد يُعنْوَِن الأُصوليون هذا البحث بـ (حقيقة الوضع)، والمهمُّ في نوع تلك الدلالة رأيان:
الرأي الأوَّل: نظرية ذاتية الدلالة:
نُسِبَ إلى عبّاد بن سليمان الصيمري وأصحاب التكسير القول بأنَّ دلالة اللفظ على المعنى إنَّما نشأت من مناسبة ذاتية(١)؛ أي إنَّ دلالة اللفظ على المعنى هي كدلالة الدخان على وجود النار(٢).
وحالها يكون حال من يحسُّ بالبرودة عندما يضع يده على الثلج، أو بالحرارة عندما يضع يده على النار.
وهذا يعني أنَّ دلالة الألفاظ على معانيها أو السببية القائمة بين الوجودين الذهنيين للفظ والمعنى، هي دلالة وسببية ذاتية، بحيث لا تحتاج إلى جَعْل جاعل أو وَضْع واضع، أي إنَّها لا تحتاج إلى سبب خارج عن حاقِّ اللفظ، فاللفظ بذاته هو سبب لانتقاش المعنى في ذهن السامع، من دون حاجة لأن ينضمَّ إليه شيء خارجي(٣).
الرأي الثاني: نظرية الوضع والاعتبار:
تقوم هذه النظرية على أساس أنَّ العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست ناشئة من مناسبة ذاتية، وهي لا يكفي فيها اللفظ وحده، بل لا بدَّ من إدخال عنصر خارجي ومؤثِّر آخر غير نفس اللفظ في تكوين تلك الدلالة، وذلك العنصر الخارجي هو ما يُطلَق عليه أُصولياً بـ (الوضع)، فدلالة اللفظ على المعنى (ناشئة من الوضع الذي يمارسه الواضع، الذي يعتبر هذا اللفظ لذاك المعنى).
وقد اختلف الأُصوليون بعد ذلك في الكيفية التي بواسطتها تمَّت عملية الوضع ودلالة اللفظ على المعنى على ثلاث نظريات، هي:
١ - نظرية أو مسلك التعهّد: وهو مختار السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) وجماعة من المحقِّقين قبله، وخلاصتها: (أنَّ هذا الأمر الخارجي الذي نُسمّيه بالوضع، والذي ببركته وبسببه صار اللفظ سبباً لانتقاش المعنى، وللدلالة على المعنى، هذا الوضع، هو عبارة عن تعهّد من قِبَل الإنسان اللغوي، بأنَّه متى ما قصد تفهيم المعنى الفلاني، أتى باللفظ الفلاني من أجل تفهيمه)(٤).
٢ - نظرية أو مسلك الاعتبار: وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في بيان وتصوير هذا الاعتبار على ثلاثة اتِّجاهات، ولا يهمّنا التعرّض لتفاصيلها الآن(٥).
٣ - نظرية أو مسلك الجعل الواقعي: فالوضع هنا عبارة عن جعل السببية الواقعية بين اللفظ والمعنى، أي جعل اللفظ سبباً للمعنى(٦).
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ من اختار النظرية الثانية في نوع دلالة اللفظ على المعنى، كان قبلاً قد استدلَّ على بطلان نظرية ذاتية دلالة اللفظ على المعنى، وقد ذكروا لبطلانها التالي:
إنَّ لازم كون الدلالة تلك ذاتية، هو أنَّ كلَّ من يسمع اللفظ المعيَّن فإنَّه سيفهم المعنى المراد منه، والوجدان قاضٍ بأنَّ من لا يعلم بالوضع فإنَّه لا يستطيع أن يفهم معاني الألفاظ التي يسمعها.
وبعبارة أُخرى: إنَّ لازم ذاتية الدلالة هي أن يفهم أصحاب كلِّ لسان لغة أيِّ قوم آخرين، فكما يحسُّ الجميع بالبرودة عند وضع اليد على الثلج، كذلك يفترض أن يفهم جميع البشر معنى أيّ لفظ بمجرَّد سماعه، والوجدان قاضٍ ببطلان هذا اللازم.
فلو كانت الدلالة ذاتية (لما اختلف الناس باختلاف علمهم بالوضع، وجهلهم بالوضع، فلو كان اللفظ بنفسه سبباً لانتقاش المعنى في الذهن، إذن لما اختلف العالم بالوضع عن الجاهل بالوضع بشيء)(٧).
تطبيق نظرية ذاتية الدلالة على لغة الصيحة:
حيث إنَّ البحث هنا ثبوتي - أي إنَّنا غضضنا النظر عن مثبتات النظرية المدَّعاة -، فيمكن أن نتصوَّر فهم جميع البشر للغة الصيحة في آنٍ واحدٍ وفق نظرية ذاتية دلالة اللفظ على المعنى.
فإنَّه لو كانت دلالة الألفاظ على معانيها من هذا القبيل، أي دلالة ذاتية، بحيث ينتقل الذهن من حاقِّ الألفاظ إلى تلك المعاني المقصودة منها والموضوعة لها. فحينئذٍ، يكون تعقّل فهم الجميع للصيحة واضحاً جدّاً.
التفسير الثاني:
أن تكون تلك الألفاظ الصادرة حين الصيحة، هي سنخ ألفاظ يشترك جميع بني البشر في فهم معانيها، بحيث تكون مستعملة لدى جميع الناس بمعنى واحد على اختلاف لغاتهم.
فهذه الألفاظ لها صورة لفظية معيَّنة، لكن جميع البشر يفهمون منها معنىً واحداً على اختلاف لغاتهم وثقافتهم ومشاربهم العلمية.
وهذا التصوّر لا مانع منه ثبوتاً، بل قد يُؤيَّد بوجود بعض الألفاظ التي يفهم جميع البشر معانيها بمجرَّد سماعها، وقد يقال: إنَّ منها كلمة (ماما) وما شابه، وبالنسبة لكلمة (ok) أو (yes) التي يفهمها اليوم أغلب الناس في العالم.
وقد يساعد على هذا التفسير ما نراه اليوم من القفزات العلمية والتطوّر الحضاري، فيمكن أن نتصوَّر أنَّه ستوجد على مرِّ الأزمنة وتطاول الأيّام لغةٌ خاصَّةٌ، تكون مشتركة الاستعمال بين جميع أفراد البشر، كما هو اليوم شأن الكثير من المفاهيم المشتركة المستعملة في الأجهزة الحديثة.
إلاّ أنَّه تصوّر ثبوتي ولا مثبت له.
على أنَّ تصوّر هذا الأمر ممكن وقريب في لفظ واحد مثلاً أو لفظين كما تقدَّم التمثيل له، أمَّا أن يكون ذلك في جملة كاملة متكوِّنة من ألفاظ عديدة، وتشير إلى معانٍ مستوحاة من عمق التاريخ، ومعانٍ عقائدية على أساسها انقسم الناس إلى فِرَق ومذاهب، فهذا أمر بعيد حسب المعطيات التي نراها اليوم.
لكنَّه على أيَّة حالٍ، تصوّر ممكن في حدٍّ نفسه.
تعليق