صوت يصدح في أرجاء حارتنا.. يغرّد كالبلبل الفتّان .. فياله من صوت تستريح له النفوس، وتطرب له الآذان !
_ مَن يشتري... مَن يشتري راحة بال؟ اقتربوا.. هلمّوا.. عندي تجدون ضالّتكم ودواء علّتكم..
خرجتُ من بيتي مسرعة وقلت له :
_ ماذا تبيع ياسيدي؟
أجابني :
_ أبيع راحة بال!!
فاستغربتُ من قوله.. ثم قلت :
_ وهل راحة البال بضاعة تُباع وتُشترى ياسيدي؟!
فاجابني :
_ نعم ياابنتي.. راحة البال تُباع وتُشترى!!
وفي الأثناء خرجن جاراتي.. تحلّقن حولنا وقد تناهى إلى أسماعهن صوت المنادي.
جارتي أم جاسم أم لثلاثة شباب، قدّمت اثنين منهم شهداء في الحشد الشعبي، وبقي واحدٌ تخشى عليه حتى من العثرة أن تُدميه، حالة الفقد التي ألمّت بها أشعرتها بالحزن والتوتر، وهي أحوج الجميع الى راحة البال.
أما جارتي الأخرى أم سعيد، فهي أبعد ما تكون عن السعادة وراحة البال، ربما تعجبون وتستغربون من وصفي إيّاها، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب كما يقولون، فهي أرملة توفي عنها زوجها في حادث سير مؤلم، ولدها الكبير طلق زوجته إثر خلافات زوجية حادّة، فأتى بأولاده الخمسة إلى بيت والدته كي ترعاهم.
ابنتها الكبرى ليس لها حظوظ بالزواج على ما يبدو، بلغت من العمر ثلاثين عاما ولم يتقدم لخطبتها أحد.
أما ابنتها الصغرى فهي طالبة جامعية، تعرضت لحالة كآبة حادة، مما حدا بها إلى ترك مقاعد الدراسة... أم سعيد هي أحوجنا الى راحة البال بلا أدنى شك.
وفجأة.. بعد ما سرحتُ بأفكاري بعيدا ، توجّه نحوي متسائلا :
_ وأنتِ ياسيدّتي هل تحتاجين وصفتي لراحة البال أم لا؟
أعادني سؤاله إلى ذاتي، فمن أنا؟ وما خطبي؟ وما حاجتي الى راحة البال؟! فأنا أم لثلاثة أولاد وبنت واحدة.. هاجر اثنان من أولادي إلى اوروبا بعد أن ضاقت عليهم السبل، افتقدوا الأمان في وطنهم، تعرّضوا لخيبة أمل كبيرة، أنهوا دراستهم الجامعية وانتظروا التعيين لكن دون جدوى.
وبعد سنتين التحق ابني الثالث باخوته مهاجرا الى دار الغربة البعيدة.
وبعد أسبوع من سفره تعرّض أبوهم الى جلطة دماغية اقعدته طريح الفراش، وها أنا اليوم وابنتي نعتني بالأب الفاقد.. فعن اي راحة بال يتحدث هذا الوافد الغريب؟!
قبل أن أجيب على تساؤله، انبرت إحدى الجارات قائلة :
_ كلنا ياعم بحاجة الى راحة البال، فقل لنا وصفتك السحرية.. سنكون لك من الشاكرين.
_ عليكن باللامبالاة فهي الدواء الشافي!!
وكلنا كذلك وبلا فاصلة فغرت أفواهنا من الدهشة بعد سماعنا لهذه الوصفة السحرية، وبعد اخذ ورد ولغط كبيرين، انسلّ من بيننا سريعا وهو يلّوح بيده قائلا :
_ اعذرنني سيدّاتي، بالي مشغول على زوجتي المُقعدة، تزوّج أولادنا وتبعثروا في كل مكان، والجميع مشغول بنفسه، ولم يبق لها في الدنيا سواي!
نجاح الجيزاني
تعليق