بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
إنّ الذي حفَّز المستشرقين إلى الدراسات الاستشراقيّة دوافع متعدّدة تشكّل بمجموعها مواقف تكاد تكون أغلبـها سلبيّة تجاه الشرق وتراثه، وأحـاول الآن تلمّس الأسبـاب والأسس لهذه الدوافع والبواعث بعد أن استعرضنا الآراء في نشأة الاستشراق والمراحل التي مرّ بها حـتّى الآن وسـوف نعالجهما ونحلّلهما وفق العوامل التي أسهمت إسهامًا فاعلًا وجادًّا ونحاول استعراضها كما يلي:
أوّلًا: الدافع الدينيّ التبشيريّ: بعد انتشار الإسلام برسالته السماويّة السمحاء في أرجاء المعمورة وأثر ذلك فكريًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا، من الطبيعي أن يكون على حساب ما كان مطروحًا من أفكار ورؤى سياسيّة متمثّلًا بالإمبراطوريّة الرومانيّة المسيحيّة التي كانت تدّعي بأنّها الممثّل الوحيد للدين المسيحيّ في العالم الغربيّ، وغيرها من مراكز الثقل الدينيّ والسياسيّ والتي لم تكن بمستواها من حيث التأثير والقوّة.
فكانت بدايات التفاعل الفكريّ والثقافيّ الواسع بواسطة -الأندلس- لاحتضانها مدّة ليسـت بالقصيرة زمنًا من الغربيّين متأثّرين بالثقافة الإسلاميّة وبالفكر والمقوّمات الثقافيّة نتيجة وضوحها وبساطتها وبعدها عن التعقيد والانحراف ممّا حدا برجال دينهم وقادتهم التحرّك وفق هذا المنظور، فقـد ذُكر بأنّه حين التقى الإسلام بالمسيحيّة في الأندلس، وأقبـل المسيحيّون على دراسته بحماسة استرعى نظر علماء رجال الدين المسيحيّ، فقد شكا الأسقف (الفارو) من هذه الظاهرة حين اتّهم كثيرًا من المسيحيّين بقراءة الشعر العربيّ وفلسفة المسلمين وفقههم لا لدحضها بل لإتقان العربيّة والتعبير بها ببلاغة، ولكنّهم لا يستطيعون إتقان كتابة رسالة باللغة اللاتينيّة حـتّى لقـد نسوا لغتهم، ومن الواضح أنّ أوّل الدوافع والأهداف من أعمال المستشرقين وبدايات الاستشراق من القرن الثاني عشر الميلاديّ والقرون التي تلته هو التبشير، وهذا هو البـاعث في مقـدّمة الدوافع الاستشراقـيّة كيف لا وإنّ الاستشـــراق هو «أوّل ما ظهر بالرهبان».
إنّ التقدّم الحضاريّ للعرب والمسلمين أدّى إلى أن تتحفّز أوروبا لمعرفة ما في الشرق من علوم وتراث تدفعهم عصبيّة الكنيسة لتشويه الحقائق والطعن بفكر الإسلام ودينه، وقلب المحاسن مساوئ بحيث وصفوا الإسلام بأنّه دين جامد غير قابـل للتطوّر، وأعطوا صورة غير حقيقيّة ومشوّشـة عن الإسلام والواقع يكذّبهم لقوله تعالى: ﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ سورة الكهف، الآية: 5، وأصبـح الكذب على الإسلام ورسـوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابـه هو ما يميّز هؤلاء ولما توسّعت اتّصالات الغرب بالشـرق وبـانت لكثيرين منهم الحقائق على ما هي عليه تزعزعت الثقة بكتابات المستشرقين، وعلى سبيل المثال لا الحصر: كتاب الأبطال لكارليل، الذي وضّح فيه جانبًا مشرقًا لسيرة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أنّه بطل عظيم لا رسول كريم.
وفيه طعن لمقام النبوّة؛ حيث جعل الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام أيّ بطل من الأبطال، ويكفي الرسول الكريم مقامًا عظيمًا أنّه وصف من قبل الله عز وجل بأنّه رسـول الله وخاتم النبيّين وقـد أورد البهي بهذا الخصوص ما نصّه: «والسبب الرئيسيّ والمباشر الذي دعا الأوروبيّين إلى الاستشراق هو سبب دينيّ في الدرجة الأولى، فقد تركت الحروب الصليبيّة في نفوس الأوروبيّين ما تركت من آثار مرّة عميقة وجاءت حركة الإصلاح الدينيّ المسيحيّ فشعر المسيحيّون بروتستانت وكاثوليك بحاجات ضاغطة لإعادة النظر في شـروح كتبهم الدينيّة، ولمحاولة تفهمّها على أساس التطوّرات الجديدة التي تمخّضت عنها حركة الإصلاح، ومن هنا اتّجهوا إلى الدراسات العبرانيّة وهذه أدّت بهم إلى الدراسات العربيّة فالإسلاميّة؛ لأنّ الأخيرة كانت ضروريّة لفهم الأولى.
ثانيًا: الدافع السياسيّ والاستعماريّ: إنّ دوافع الاستشراق السياسيّة والاستعماريّة تهدف من بــين ما تهدف إلى تعريف الدوائر الاستعماريّة السياسيّة بالجوانب الاستراتيجيّة والتراثيّة والحضاريّة والتاريخيّة للشرق بـصورة عامّة والوطن العربيّ على وجه الخصوص؛ لأنّه يُمثّل الأساس الدينيّ والحضاريّ والاقتصاديّ. وإنّ هذا الدافع ما هو إلّا مادّة وظيفيّة موضوعة في خدمة المنهج السياسي الغربيّ للمرحـلة الاستعماريّة، لذا يملي على المستشرقين عملًا في البلدان العربيّة والإسلاميّة، منها ضرورة إتقان اللغة، والتخصّص في فنون الشرق، فضلًا عن أنّ بعض المستشرقين لديه ولع خاصّ يحدو بـه إلى الاضطلاع بمهمّاته التي توجّهها الدول الاستعماريّة وفق تخطيط وتنظيم.
لذا، نراهم يشكّكون المسلمين بعقيدتهم أو التقليل من أهمّيّة تراثهم، فقـد أغدقـت الجهات الاستعماريّة بمختلف صورها على جملة من المستشرقين بمختلف الإمدادات، وعلى سبيل المثال لا الحصر: المستشرق المجريّ (كولد تسهير) اليهوديّ الذي قـدّم الكثير من المعلومات للأيمان، فقـد رسـم صورًا عجيبة مدهشة ومتناقضة للتراث العربيّ الإسلاميّ.
ومن المعلوم أنّ أطماع الغرب في الشرق لم تنقطع حتّى بعد هزيمتهم في الحروب الصليبيّة، فنجد أنّ الحكومات الغربيّة قد استعانت بالمستشرقين فجعلتهم في سفاراتها ليؤدّوا لها الخدمة المطلوبـة؛ وذلك بدراسة الشرق من نواح متعدّدة تاريخًا ولغة وعقيدة وعادات وثروات، ولا شكّ في أنّ معرفة النواحي المتقدّمة تسهّل معرفة كوامن القوّة والخير والمنافع، وهذا ممّا دفعهم بعد تمكّنهم من الشرق عسكريًّا بعد الحرب العالميّة الأولى لمحاولة السيطرة على محاور الارتكاز في الشرق وزعزعته روحيًّا ومعنويًّا أو سلب خيراته، وتمزيق وحدته وبثّ الفتن وتطبيق مبـدأ (فرّق تسـد). وعليه، فإنّ الحركة الاستشراقـيـّة قـديمها وحديثها خدمت الاستعمار بصورة مباشـرة أو غير مباشرة فأساءت إلى كلّ ما هو عربيّ أو إسلاميّ عن عمد أو غير عمد.
وإنّ البعثات الدبلوماسيّة تؤدّي دورها الاستشراقـي أيضًا؛ فكثير من أعضائها وقناصلها كانوا من العاملين في حقل الاستشراق وكتبـوا عن العرب والإسلام الشيء الكثير، فكان (بـوكون) قنصلًا لفرنسا في حلب، و(كلرمهون) قنصلًا لفرنسا في القدس ثمّ في الأستانة، و(بـوتي) الذي كتب عن المدينة الإسلاميّة قد عُيِّن من قبل الإدارة الفرنسيّة في المغرب الأقصى.
ثالثًا: الدافع العلميّ الثقافيّ: يبدو أنّ هذا الدافع على وجه الظاهر يحمل صفة تكاد تكون إيجابيّة لوجود فئة قليلة منهم بالنسبة اندفعت برغبة علميّة لدراسة الإسلام وحضارته، والبحث عن الحقيقة، وإنّ هذا النوع من المستشرقين يفترض فيه التجرّد من الأهواء والأحقاد. لذا، جاءت بعضٌ من دراساتهم وأبحاثهم أقرب إلى الحقّ والمنهج العلميّ السليم. رغم هذا، نجد في ثنايا كتاباتهم سلبيّات؛ فهي إمّا أن تكون بسبب جهلهم باللغة العربيّة، أو لحقدهم ومكرهم كما حدث لبروكلمان. عندما ترجم عنوان کتاب فقهيّ بشأن (ذبائح أهل الكتاب) للشيخ المفيد في مدى حلّيّتها وحـرمتها فكانت الترجمة تحت عنوان (رسالة في معارك اليهود والنصارى) وقـد وقـع في الخطأ نفسه المستشرق كولدتسهير؛ وذلك لحقدهم أو لعدم فهمهم أو تأثّرهم بالمفاهيم الغربيّة التي يعيشونها التي تختلف اختلافًا جذريًّا مع مفاهيم الشـرق والإسـلام بـصورة خاصّة، فضلًا عن البيئة التي درجوا فيها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكون هذا الخطأ عن عمد وقصد لتشويه الحقائق.
إن هذا الدافع والباعث للمسائل العلميّة المحضة والرغبـة الثقافيّة في الاطّلاع على ما في الشـرق الإسلاميّ من معارف وعلوم وتشريع وحضارة وتقدّم؛ لأنّه كان يُمثّل قمّة التقدّم البشريّ حينذاك، ومن الجدير بالبيان أنّ حركة الاستشراق بصورة عامّة في واجهتها ودعواها ذات مظهر ثقـافيّ علميّ حيث قادها جماعة من الغربيّين تفرّغوا في دراساتهم لأحوال الشرق العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والتي كانت لها تأثّر بالغ الأهمّيّة في حياة الشرق العلميّة والثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة لما تتمتّع به الثقافة من مركز خطير في حياة كلّ أمّة وجماعة إنسانيّة، وقد جاءت حركة الاستشراق بصورة واسعة النطاق بقيادة من يصفون أنفسهم أحيانًا غالبـة بـرجال دين كرّسـوا حياتهم لخدمة دياناتهم الخاصّة وكانوا يحاولون أن يُسبغوا على أبحاثهم الصفة العلميّة الموضوعيّة فضلًا عن رجال الدين المبشّرين بالمسيحيّة الذين كانوا بصورة أخرى يعملون بصورة علنيّة، كما ذكر آنفًا.
رابعًا: الدافع الاقتصاديّ والتجاريّ: إنّ معرفة الغرب للثروات الطبيعيّة وأحـوال الأسواق التجاريّة والصناعات في الشـرق فضلًا عن وجود أهمّ الموادّ الأوّليّة من شـتّى الصنوف وما إلى ذلك دفعهم إلى إيجاد أسـواق لصرف بضائعهم، وعملوا على عرقلة إنشاء مصانع حيويّة في الشرق ممّا جعل السوق الشرقيّ سوقًا استهلاكيّة، كما عمل الغربيّون على شراء الموادّ الأوّليّة بأبخس الأثمان، وردّها مصنّعة بأسعار باهظة، ولا يخفى فإنّ هذا الدافع له أثر كبير في تنشيط الاستشراق.
وقد يكون الدافع الاقتصاديّ الذي أوجده الفعل الاستعماريّ مرتبـطـًا بـالهدف العلميّ؛ باعتبـار الاستشــراق مهنة علميّة يُوظّف لها الأكفّاء والمتخصّصون، فأساتذة اللغات الشرقيّة في العصر الوسيط عملوا لقاء أجر، وأوائل المستشرقين والموسرين نالوا جزاءهم بإرساء النهضة الأوروبيّة على خيرات الوطن العربيّ، وقـد أغدقت الدول الاستعماريّة على جملة من المستشرقين بمختلف الإمدادات حتّى شكّل ذلك دافعًا اقتصاديًّا لدى البعض منهم، أو مكسبًا شخصيًّا أو سياسيًّا يحقـّق للبعض مرادهم. وقد أورد العقيقي بهذا الخصوص ما نصّه:
«فلمّا أرادت معظم دول الغرب عقد الصلات السياسيّة بدول الشرق والاعتراف من تراثه والانتفاع بثرواته والتزاحم على استعماره، أحسنت كلّ دولة إلى مستشرقيها، فضمّهم ملوكها إلى حاشيتهم أمناء أسراره وتراجمة وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والدبلوماسيّة إلى بلدان الشرق، وولّوهم المناصب وأجزلوا عطاءهم في الحلّ والترحــال ومنحـوهم ألقاب الشـرف وعضويّة المجامع العلميّة».
وخلاصة القول إنّه يوجد دوافع أخرى يمكن إدراجها ضمن الدوافع الأخرى المذكورة آنفًا كالدافع الاستراتيجيّ والبيئيّ وما إلى ذلك. ومن خلال هذا العرض المختصر للدوافع والأغراض والأهداف والغايات توضّحـت وبرزت في ثنايا البحث مسائل مهمّة وبخصوص قسم منها، وعلى الرغم من تعدّد الدوافع لكن يرد التأكيد على الجانب الدينيّ التبشيريّ؛ للأسباب الآتية:
إنّ العالم الإسلاميّ العربيّ يُعتبر نقطة الارتكاز المهمّة في الشرق من الناحية الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وغيرها.
أهمّيّة الشرق الاستراتيجيّة وما يتمتّع به عالميًّا من جميع المعطيات وبـالأخصّ مكانة العالم العربيّ الإسلاميّ منها.
بما أنّ الجانب التّشريعيّ الفقهيّ الذي هو الأحكام العمليّة الشرعيّة للإسلام يمثّل صلب البحث ومدار الدراسة. لذا، كان الاهتمام بهذا الخصوص ومدارسته بشـتّى طرقـه لـبـيان هدف البحث والغاية من الدراسة وإثبـاتها وتأكيدها.
الهزائم العديدة للغرب عسكريًّا أبرزها الحروب الصليبيّة ذات الدوافع الخبيثة والنوايا الخطرة، والانهيار الثقافيّ؛ لعدم التزامهم الحقيقيّ بالكتب المقدّسة، نظرًا لتحريفها وعدم التوجّه الفكريّ العقائديّ لها، لذا نجدهم اختاروا هذا المسار كمحاولة للوقوف أمام لغة الحوار الإسلاميّ الفكريّ والعقائديّ حيث يمثّل لغة القرآن الكريم، ولذا كانت البعثات والشخصيّات والمؤسّسات والحملات وغير ذلك تتري الواحدة بعد الأخرى بصورة مباشرة علنيّة وغير ذلك بأساليب ووسائل شتّى، لذلك كلّه يجب الحيطة والحذر من دراساتهم وأبحاثهم ورصد ما وراء ذلك بعين التركيز والعمق.
منقول
اللهم صل على محمد وآل محمد
إنّ الذي حفَّز المستشرقين إلى الدراسات الاستشراقيّة دوافع متعدّدة تشكّل بمجموعها مواقف تكاد تكون أغلبـها سلبيّة تجاه الشرق وتراثه، وأحـاول الآن تلمّس الأسبـاب والأسس لهذه الدوافع والبواعث بعد أن استعرضنا الآراء في نشأة الاستشراق والمراحل التي مرّ بها حـتّى الآن وسـوف نعالجهما ونحلّلهما وفق العوامل التي أسهمت إسهامًا فاعلًا وجادًّا ونحاول استعراضها كما يلي:
أوّلًا: الدافع الدينيّ التبشيريّ: بعد انتشار الإسلام برسالته السماويّة السمحاء في أرجاء المعمورة وأثر ذلك فكريًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا، من الطبيعي أن يكون على حساب ما كان مطروحًا من أفكار ورؤى سياسيّة متمثّلًا بالإمبراطوريّة الرومانيّة المسيحيّة التي كانت تدّعي بأنّها الممثّل الوحيد للدين المسيحيّ في العالم الغربيّ، وغيرها من مراكز الثقل الدينيّ والسياسيّ والتي لم تكن بمستواها من حيث التأثير والقوّة.
فكانت بدايات التفاعل الفكريّ والثقافيّ الواسع بواسطة -الأندلس- لاحتضانها مدّة ليسـت بالقصيرة زمنًا من الغربيّين متأثّرين بالثقافة الإسلاميّة وبالفكر والمقوّمات الثقافيّة نتيجة وضوحها وبساطتها وبعدها عن التعقيد والانحراف ممّا حدا برجال دينهم وقادتهم التحرّك وفق هذا المنظور، فقـد ذُكر بأنّه حين التقى الإسلام بالمسيحيّة في الأندلس، وأقبـل المسيحيّون على دراسته بحماسة استرعى نظر علماء رجال الدين المسيحيّ، فقد شكا الأسقف (الفارو) من هذه الظاهرة حين اتّهم كثيرًا من المسيحيّين بقراءة الشعر العربيّ وفلسفة المسلمين وفقههم لا لدحضها بل لإتقان العربيّة والتعبير بها ببلاغة، ولكنّهم لا يستطيعون إتقان كتابة رسالة باللغة اللاتينيّة حـتّى لقـد نسوا لغتهم، ومن الواضح أنّ أوّل الدوافع والأهداف من أعمال المستشرقين وبدايات الاستشراق من القرن الثاني عشر الميلاديّ والقرون التي تلته هو التبشير، وهذا هو البـاعث في مقـدّمة الدوافع الاستشراقـيّة كيف لا وإنّ الاستشـــراق هو «أوّل ما ظهر بالرهبان».
إنّ التقدّم الحضاريّ للعرب والمسلمين أدّى إلى أن تتحفّز أوروبا لمعرفة ما في الشرق من علوم وتراث تدفعهم عصبيّة الكنيسة لتشويه الحقائق والطعن بفكر الإسلام ودينه، وقلب المحاسن مساوئ بحيث وصفوا الإسلام بأنّه دين جامد غير قابـل للتطوّر، وأعطوا صورة غير حقيقيّة ومشوّشـة عن الإسلام والواقع يكذّبهم لقوله تعالى: ﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ سورة الكهف، الآية: 5، وأصبـح الكذب على الإسلام ورسـوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابـه هو ما يميّز هؤلاء ولما توسّعت اتّصالات الغرب بالشـرق وبـانت لكثيرين منهم الحقائق على ما هي عليه تزعزعت الثقة بكتابات المستشرقين، وعلى سبيل المثال لا الحصر: كتاب الأبطال لكارليل، الذي وضّح فيه جانبًا مشرقًا لسيرة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أنّه بطل عظيم لا رسول كريم.
وفيه طعن لمقام النبوّة؛ حيث جعل الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام أيّ بطل من الأبطال، ويكفي الرسول الكريم مقامًا عظيمًا أنّه وصف من قبل الله عز وجل بأنّه رسـول الله وخاتم النبيّين وقـد أورد البهي بهذا الخصوص ما نصّه: «والسبب الرئيسيّ والمباشر الذي دعا الأوروبيّين إلى الاستشراق هو سبب دينيّ في الدرجة الأولى، فقد تركت الحروب الصليبيّة في نفوس الأوروبيّين ما تركت من آثار مرّة عميقة وجاءت حركة الإصلاح الدينيّ المسيحيّ فشعر المسيحيّون بروتستانت وكاثوليك بحاجات ضاغطة لإعادة النظر في شـروح كتبهم الدينيّة، ولمحاولة تفهمّها على أساس التطوّرات الجديدة التي تمخّضت عنها حركة الإصلاح، ومن هنا اتّجهوا إلى الدراسات العبرانيّة وهذه أدّت بهم إلى الدراسات العربيّة فالإسلاميّة؛ لأنّ الأخيرة كانت ضروريّة لفهم الأولى.
ثانيًا: الدافع السياسيّ والاستعماريّ: إنّ دوافع الاستشراق السياسيّة والاستعماريّة تهدف من بــين ما تهدف إلى تعريف الدوائر الاستعماريّة السياسيّة بالجوانب الاستراتيجيّة والتراثيّة والحضاريّة والتاريخيّة للشرق بـصورة عامّة والوطن العربيّ على وجه الخصوص؛ لأنّه يُمثّل الأساس الدينيّ والحضاريّ والاقتصاديّ. وإنّ هذا الدافع ما هو إلّا مادّة وظيفيّة موضوعة في خدمة المنهج السياسي الغربيّ للمرحـلة الاستعماريّة، لذا يملي على المستشرقين عملًا في البلدان العربيّة والإسلاميّة، منها ضرورة إتقان اللغة، والتخصّص في فنون الشرق، فضلًا عن أنّ بعض المستشرقين لديه ولع خاصّ يحدو بـه إلى الاضطلاع بمهمّاته التي توجّهها الدول الاستعماريّة وفق تخطيط وتنظيم.
لذا، نراهم يشكّكون المسلمين بعقيدتهم أو التقليل من أهمّيّة تراثهم، فقـد أغدقـت الجهات الاستعماريّة بمختلف صورها على جملة من المستشرقين بمختلف الإمدادات، وعلى سبيل المثال لا الحصر: المستشرق المجريّ (كولد تسهير) اليهوديّ الذي قـدّم الكثير من المعلومات للأيمان، فقـد رسـم صورًا عجيبة مدهشة ومتناقضة للتراث العربيّ الإسلاميّ.
ومن المعلوم أنّ أطماع الغرب في الشرق لم تنقطع حتّى بعد هزيمتهم في الحروب الصليبيّة، فنجد أنّ الحكومات الغربيّة قد استعانت بالمستشرقين فجعلتهم في سفاراتها ليؤدّوا لها الخدمة المطلوبـة؛ وذلك بدراسة الشرق من نواح متعدّدة تاريخًا ولغة وعقيدة وعادات وثروات، ولا شكّ في أنّ معرفة النواحي المتقدّمة تسهّل معرفة كوامن القوّة والخير والمنافع، وهذا ممّا دفعهم بعد تمكّنهم من الشرق عسكريًّا بعد الحرب العالميّة الأولى لمحاولة السيطرة على محاور الارتكاز في الشرق وزعزعته روحيًّا ومعنويًّا أو سلب خيراته، وتمزيق وحدته وبثّ الفتن وتطبيق مبـدأ (فرّق تسـد). وعليه، فإنّ الحركة الاستشراقـيـّة قـديمها وحديثها خدمت الاستعمار بصورة مباشـرة أو غير مباشرة فأساءت إلى كلّ ما هو عربيّ أو إسلاميّ عن عمد أو غير عمد.
وإنّ البعثات الدبلوماسيّة تؤدّي دورها الاستشراقـي أيضًا؛ فكثير من أعضائها وقناصلها كانوا من العاملين في حقل الاستشراق وكتبـوا عن العرب والإسلام الشيء الكثير، فكان (بـوكون) قنصلًا لفرنسا في حلب، و(كلرمهون) قنصلًا لفرنسا في القدس ثمّ في الأستانة، و(بـوتي) الذي كتب عن المدينة الإسلاميّة قد عُيِّن من قبل الإدارة الفرنسيّة في المغرب الأقصى.
ثالثًا: الدافع العلميّ الثقافيّ: يبدو أنّ هذا الدافع على وجه الظاهر يحمل صفة تكاد تكون إيجابيّة لوجود فئة قليلة منهم بالنسبة اندفعت برغبة علميّة لدراسة الإسلام وحضارته، والبحث عن الحقيقة، وإنّ هذا النوع من المستشرقين يفترض فيه التجرّد من الأهواء والأحقاد. لذا، جاءت بعضٌ من دراساتهم وأبحاثهم أقرب إلى الحقّ والمنهج العلميّ السليم. رغم هذا، نجد في ثنايا كتاباتهم سلبيّات؛ فهي إمّا أن تكون بسبب جهلهم باللغة العربيّة، أو لحقدهم ومكرهم كما حدث لبروكلمان. عندما ترجم عنوان کتاب فقهيّ بشأن (ذبائح أهل الكتاب) للشيخ المفيد في مدى حلّيّتها وحـرمتها فكانت الترجمة تحت عنوان (رسالة في معارك اليهود والنصارى) وقـد وقـع في الخطأ نفسه المستشرق كولدتسهير؛ وذلك لحقدهم أو لعدم فهمهم أو تأثّرهم بالمفاهيم الغربيّة التي يعيشونها التي تختلف اختلافًا جذريًّا مع مفاهيم الشـرق والإسـلام بـصورة خاصّة، فضلًا عن البيئة التي درجوا فيها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكون هذا الخطأ عن عمد وقصد لتشويه الحقائق.
إن هذا الدافع والباعث للمسائل العلميّة المحضة والرغبـة الثقافيّة في الاطّلاع على ما في الشـرق الإسلاميّ من معارف وعلوم وتشريع وحضارة وتقدّم؛ لأنّه كان يُمثّل قمّة التقدّم البشريّ حينذاك، ومن الجدير بالبيان أنّ حركة الاستشراق بصورة عامّة في واجهتها ودعواها ذات مظهر ثقـافيّ علميّ حيث قادها جماعة من الغربيّين تفرّغوا في دراساتهم لأحوال الشرق العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والتي كانت لها تأثّر بالغ الأهمّيّة في حياة الشرق العلميّة والثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة لما تتمتّع به الثقافة من مركز خطير في حياة كلّ أمّة وجماعة إنسانيّة، وقد جاءت حركة الاستشراق بصورة واسعة النطاق بقيادة من يصفون أنفسهم أحيانًا غالبـة بـرجال دين كرّسـوا حياتهم لخدمة دياناتهم الخاصّة وكانوا يحاولون أن يُسبغوا على أبحاثهم الصفة العلميّة الموضوعيّة فضلًا عن رجال الدين المبشّرين بالمسيحيّة الذين كانوا بصورة أخرى يعملون بصورة علنيّة، كما ذكر آنفًا.
رابعًا: الدافع الاقتصاديّ والتجاريّ: إنّ معرفة الغرب للثروات الطبيعيّة وأحـوال الأسواق التجاريّة والصناعات في الشـرق فضلًا عن وجود أهمّ الموادّ الأوّليّة من شـتّى الصنوف وما إلى ذلك دفعهم إلى إيجاد أسـواق لصرف بضائعهم، وعملوا على عرقلة إنشاء مصانع حيويّة في الشرق ممّا جعل السوق الشرقيّ سوقًا استهلاكيّة، كما عمل الغربيّون على شراء الموادّ الأوّليّة بأبخس الأثمان، وردّها مصنّعة بأسعار باهظة، ولا يخفى فإنّ هذا الدافع له أثر كبير في تنشيط الاستشراق.
وقد يكون الدافع الاقتصاديّ الذي أوجده الفعل الاستعماريّ مرتبـطـًا بـالهدف العلميّ؛ باعتبـار الاستشــراق مهنة علميّة يُوظّف لها الأكفّاء والمتخصّصون، فأساتذة اللغات الشرقيّة في العصر الوسيط عملوا لقاء أجر، وأوائل المستشرقين والموسرين نالوا جزاءهم بإرساء النهضة الأوروبيّة على خيرات الوطن العربيّ، وقـد أغدقت الدول الاستعماريّة على جملة من المستشرقين بمختلف الإمدادات حتّى شكّل ذلك دافعًا اقتصاديًّا لدى البعض منهم، أو مكسبًا شخصيًّا أو سياسيًّا يحقـّق للبعض مرادهم. وقد أورد العقيقي بهذا الخصوص ما نصّه:
«فلمّا أرادت معظم دول الغرب عقد الصلات السياسيّة بدول الشرق والاعتراف من تراثه والانتفاع بثرواته والتزاحم على استعماره، أحسنت كلّ دولة إلى مستشرقيها، فضمّهم ملوكها إلى حاشيتهم أمناء أسراره وتراجمة وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والدبلوماسيّة إلى بلدان الشرق، وولّوهم المناصب وأجزلوا عطاءهم في الحلّ والترحــال ومنحـوهم ألقاب الشـرف وعضويّة المجامع العلميّة».
وخلاصة القول إنّه يوجد دوافع أخرى يمكن إدراجها ضمن الدوافع الأخرى المذكورة آنفًا كالدافع الاستراتيجيّ والبيئيّ وما إلى ذلك. ومن خلال هذا العرض المختصر للدوافع والأغراض والأهداف والغايات توضّحـت وبرزت في ثنايا البحث مسائل مهمّة وبخصوص قسم منها، وعلى الرغم من تعدّد الدوافع لكن يرد التأكيد على الجانب الدينيّ التبشيريّ؛ للأسباب الآتية:
إنّ العالم الإسلاميّ العربيّ يُعتبر نقطة الارتكاز المهمّة في الشرق من الناحية الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وغيرها.
أهمّيّة الشرق الاستراتيجيّة وما يتمتّع به عالميًّا من جميع المعطيات وبـالأخصّ مكانة العالم العربيّ الإسلاميّ منها.
بما أنّ الجانب التّشريعيّ الفقهيّ الذي هو الأحكام العمليّة الشرعيّة للإسلام يمثّل صلب البحث ومدار الدراسة. لذا، كان الاهتمام بهذا الخصوص ومدارسته بشـتّى طرقـه لـبـيان هدف البحث والغاية من الدراسة وإثبـاتها وتأكيدها.
الهزائم العديدة للغرب عسكريًّا أبرزها الحروب الصليبيّة ذات الدوافع الخبيثة والنوايا الخطرة، والانهيار الثقافيّ؛ لعدم التزامهم الحقيقيّ بالكتب المقدّسة، نظرًا لتحريفها وعدم التوجّه الفكريّ العقائديّ لها، لذا نجدهم اختاروا هذا المسار كمحاولة للوقوف أمام لغة الحوار الإسلاميّ الفكريّ والعقائديّ حيث يمثّل لغة القرآن الكريم، ولذا كانت البعثات والشخصيّات والمؤسّسات والحملات وغير ذلك تتري الواحدة بعد الأخرى بصورة مباشرة علنيّة وغير ذلك بأساليب ووسائل شتّى، لذلك كلّه يجب الحيطة والحذر من دراساتهم وأبحاثهم ورصد ما وراء ذلك بعين التركيز والعمق.
منقول