يلتصق بحضن أبيه كفراشة تتشبث بالنور، كزهرة تكاد تذوي أرهقها الظمأ، ذاك الظمأ لم يكن سببه شح الماء، بل شح المروءة ونبل الأخلاق؛ فهاهي مياه الفرات العذبة تتلألأ تحت آشعة الشمس، تدعو كل ظامئ لاحتضانها والارتواء منها، لكن هيهات؛ فالشيطان يقف لحراستها سدا منيعا متشحا بثوب الخسة، متسلحا بسيف الدناءة، محرِّما مياهه على سبط سيد الخلق وأهله، تتمايل الزهرة تشيح بوجهها وهْنًا وعطشًا، الماء حُرِّم عليهم، جفَّ حليب الأم، يصرخ الأب المكلوم:
(إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار؟ اتقوا الله في الطفل، إن لم تتقوا الله فينا)، يتبدد الصوت في فضاء التجرد من الإنسانية، يتوه بين دهاليز القسوة والوحشية، يقترب الأب البطل من نهر الفرات، لابد أن يسقي زهرته قبل أن تذوي بين يديه، أو؟ أو ربما سمعه القوم؛ فأشفق أحدهم على ذاك الرضيع الذي يحتضر عطشًا، تتناثر همهمات القوم، مازال البعض منهم يتعلق بأهداب الإنسانية، ماذا يضيرنا إن سقيناه؟ إنه مجرد طفل؟
يجتث الشيطان سريعا بذرة الإنسانية قبل أن تزهر، يجفف بئر الرحمة قبل أن تنبثق منه قطرات تروي ظمأ الملاك الوليد، هاهو صوته المستغيث يرتد إليه سهمًا مسمومًا بالحقد، تطلق يد الغدر والوحشية سهمها، الشيطان حرملة بن كاهل يصوب سهمه، يخترق السهم رقبة الملاك الصغير، يتفجر نبع الدم الطاهر، ترفرف الفراشة بجناحيها، ينظر إليه الحسين داعيا:
(لايكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح، اللهم إن كنت حبست عنا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا)، يعود به الأب إلى واحة الظمأ تنتظره النساء والبنات، عله أتى بما يروي ظمأهن، يحتوي ملاكه البرئ الصريع بعباءته؛ لايجب أن تراه النساء هكذا، كيف ستتحمل الرباب رؤية ملاكها البرئ مذبوحا من الوريد إلى الوريد؟، يتجه به صوب بطلة كربلاء، عقيلة بني هاشم عمته زينب، تحمله بين يديها، يحتوي البطل بين كفيه الدماء الزكية، ينثرها في اتجاه السماء، تتحول إلى بركان ثائر يتفجر حممًا في وجوه الطغاة، مدادًا لا يُمحَى؛ يسجل شهادته في سجل التاريخ على جرائم الظالمين؛ صوت الدماء البريئة يعلو، يهز المشاعر، تلين له قلوب الصخور: بأي ذنب قُتِلتُ؟! ألا تعرفونني؟ أنا ابن سبط الرسول ص وريحانته، أنا ابن سيد شباب أهل الجنة،
ينزع الحسين خشبة السهم من عنق زهرته، يحفر حفيرة ليغرسها، تُروى بدموع المظلومين فتنمو، وتزهر من جديد أملًا في جنة العدل الإلهي
رجاء حسين حافظ