بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
تعميق مفردة الانتظار
إنَّ من أبرز معالم هوية الإمام المهدي عليه السلام أنَّه الأمل، وأنَّ الفرج المهدوي يساوي الأمل، لذلك عبَّرت بعض الروايات أنَّ الانتظار من أفضل العبادة.
وفي العلوم العصـرية نلاحظ أنَّ الأمل يتدخَّل في الحياة الإنسانية ويعطيها الحيوية، بل إنَّ البدن ونشاطهُ معقود بالأمل، فأيّ إنسانٍ ينسدُّ لديه باب الأمل فإنَّ ذلك يكون بداية انهياره، ولا حبل نجاة وإنقاذ لمثل هكذا إنسان إلَّا الأمل المرتبط بالمستقبل.
وإنَّ أحد المعاني الماهوية العقلية لمعنى الإمام والإمامة الإلهية أنَّها الأمل، أي غاية تأملها وتقصدها وتنحو إليها، فـ (أَمَمَ) يعني قصدَ وتبعَ، فهو منطوٍ على غاية، والغاية منطويةٌ على شيءٍ يريده، فأنت تلاحظ أنَّ الأمل مقرَّر بالمعنى الماهوي للإمامة، والأُمَّة لا تُسمّى أُمَّةً
ما لم تُؤَم وتقصد وتنحو وتتَّجه، فالإمامة أملُ القاصدين والأُمَّةُ سيرٌ باتِّجاه المقصودين، فإذا كانت الحضارات التي شكَّلتها الأُمم هي شاخصها وبارزها فإنَّه لم تكن تلك الحضارات إلَّا من أُمم كانت لها أهدافٌ ومقاصد قمميةٌ تطلَّعت إليها فبنت وأسَّست ما صار بعد ذلك حضارةً لها، فدور الأُمَّة في بناء الحضارة دورٌ ريادي أساسي، ولا بدَّ أن يكون على نظام (لا جبر ولا تفويض)، وعلى نظام (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: ١١)، فالأُمَّة عليها مسؤوليات في بناء حضارتها واتِّجاه نظام الخالق، وهو نظام الدولة الإلهية ونظام الأمل، فالأُمَّة مسؤولةٌ عن الأمل والفرج، وعليها السعي لتعبيد طريقه.
من هنا ينفتحُ مجال الحديث عن مسؤوليات الأُمَّة تجاه إمامها، وما هي الطرق التي ينبغي أن تصلها لتعبيد الطريق من خلال الأمل للوصول إلى الظهور.
من هنا تكمن خطورة عقيدة الإمامة - والإمام المهدي عليه السلام بالخصوص - على المناوئين وأهمّيتها للموالين، فهذه الشخصية الإلهية التي تفتح للأُمم تطلّعاً فوق مستوى غايات إدراكها وفوق مستوى قمم ما تصبو إليه، فكلُّ ما تنتج، بل وما تُفكِّر أمام ما يمكن التطلّع إليه في هذه العقيدة هو قليل، وتكمن خطورته عند الأعداء في أنَّه يُمثِّل تهديداً لكلِّ واقعهم، إذ عند شعوبهم لا يكون ما حقَّقوه أو ما سيريدون تحقيقه هو الهدف القممي، إذا عرفت تلك الشعوب أنَّ هناك أملاً أعظم لتحقيق أهدافها على كلِّ المستويات والصعد.
وهو في نفس الوقت فيه أهمّية للموالين في شحذ الهمم، لأنَّ كلَّ ما أنتجه المؤمنون، بل وكلَّ ما يُفكِّرون فيه ويخطر في أذهانهم هو مراتب دنيا ممَّا يُحقِّقه الفرج المطلق والأُطروحة الكبرى، فالانتظار شيء ولا يُقاس به أيّ أُطروحة أُخرى.
الانتظار هو: أنَّ كلَّ ما يُطرَح عليك تقول: هل من مزيد؟ لا يقف أمام القمَّة المهدوية والانتظار المهدوي في هذه البورصة شيء، وكلُّ ذلك أعطته الروايات في كبسولةٍ عبَّرت عنها بانتظار الفرج، فالرؤية العقائدية، والسعادة، والأُفق المفتوح، والسياسة، والمال والاقتصاد، وكلُّ شيء تجده صغيراً متضعضعاً أمام الأمل والفرج، لذلك عبَّرت الروايات بأنَّ (أعظم الفرج انتظار الفرج).
تعميق مفردة العدالة:
إنَّ ما تتمتَّع به العقيدة المهدوية من تحقيق للعدالة، وما يُسلِّط عليه الضوء من قبل الخبراء الاستراتيجيين، يُمثِّل نوعاً من الخطورة عند هؤلاء ونوعاً من التعميق لمفردة العدالة عندنا، ووجه كونه يُمثِّل خطورة عندهم أنَّه يلاشي ويُصغِّر العدالة التي ينادون بها، فإنَّ هذه العقيدة تبرمج للأفراد وللأُمم استراتيجية حضارية عليا، ويقول بأنَّ كلَّ ما تُقدِّمه البشـرية من أُطروحات هو مُهَيمَن عليه من قِبَل الانتظار، ومن قِبَل العدالة المهدوية، لأنَّ الانتظار شيء أعظم وأعلى وأشمخ، فعلى سبيل المثال لو أنَّ أيَّة دولة أقامت نظاماً عادلاً، فإنَّ الانتظار يقول بأنَّ هناك ما هو أكثر عدلاً، حتَّى لو كانت تلك الدولة شيعية وترفع شعار الولاء لأهل البيت عليهم السلام، فإنَّ العدالة التي تُقدِّمها مهما كانت سامية فهناك عدالة أسمى منها.
أثر الأمل في بناء الفرد والمجتمع:
تُعتَبر العقيدة وما تُعطيه للنفس من ثقة وضمان واطمئنان أعظم من الفروع في الدين، وإن كانت الفروع من الأهمّية بمكان في الشـريعة، ولكن طبيعة الرؤية العقائدية في أنَّها رؤية واسعة أشبه بالفضاء الواسع بالنسبة إلى الأرض، وهذه الحقيقة لمن يمتلكها يتمكَّن من خلالها أن يتنقَّل دون اضطراب أو حيرة، فإذا كانت العقيدة بالنسبة لصاحبها كالخريطة المنضبطة المنظَّمة وواضحة المعالم فإنَّ الإنسان تهون عليه الأهوال ولا يقع في الخطر مهما كان عظيماً.
إنَّ الخريطة العقائدية إذا كانت مكشوفة معلومة فإنَّها تُمثِّل لصاحبها الصـراط في قراءة متقدِّمة للمستقبل والعوالم، ولا يقع معها في بلبلات ولا يقف عند مفاجآت، بل تراه يسير في طريقه سريعاً لأنَّه متبصِّـر. بخلاف من لا يملك العقيدة والرؤية، فإنَّه يهوي عند أوَّل مفاجأة، وعند أوَّل قراءة يُقدِّمها له غيره على أنَّها قراءة عقائدية، وكلَّما كانت العقيدة واسعة وذات رؤية شمولية كلَّما كانت حالة الاتِّزان والثبوت والاستقرار في نفس الإنسان وروحه أكبر، فلا ينخدعُ بالصور البرّاقة والعقائد المصطنعة والمفاجآت المهلكة.
وعندما نُسئَل من أين جاءتكم هذه القوَّة والصلابة والاستقامة يا من تحملون هذه العقيدة الانتظارية؟
نقول: إنَّها وليدة لهذا المشـروع العملاق، مشـروع الأمل، لأنَّنا إذا أُصبنا بأيِّ محنة أو ابتلاء فإنَّنا نلاحظ أنَّ هناك فرجاً أكبر من هذا البلاء والامتحان، وإذا جاء الفرج فإنَّنا نأمل بفرج أكبر منه، هذا ما يصنعه انتظار الفرج لمستقبلنا المُشـرق الذي يضخُّ في أرواح المؤمنين طاقة جبّارة من النشاط والصبر، تُولِّد الفضائل، وتنبع منها الكمالات، وتدعو صاحبها إلى التكامل وعدم الوقوف والخمول، تدعوه إلى الإخلاص، فلا يغويه أحد مهما كانت المبيعات في الأسواق أخّاذة بالأبصار، فإنَّما يأمله وينتظره أعلى وأثمن وآخذ للنفس والروح.
إنَّ الأمل لا يجذب المؤمنين فقط، إنَّه يجذب الجميع، فهو يدعو العلماء للتعلّم أكثر وأكثر، ويدعو الحوزات لمزيد من الغور في الدين والفحص في العلوم أكثر وأكثر، وهذا لا يعني القفز على الثوابت بأيَّة حال، فإنَّ هذا وهم وظنّ لا ينبغي أن يقع فيه سامع، فالأمل يدفع العالم باتِّجاه العلم مهما كان يحمل من علم فإنَّ هناك علماً أكبر فيدفعه الأمل ليحصل عليه.
إنَّ هذه العقيدة تصيحُ في الباحث وتخاطبهُ، تصيح في العالم، في المفكِّر: استيقظ، انتبه، التفت، فإنَّ هناك أُفقاً، بل آفاقاً أكبر وأكبر، وعليك بمواصلة السعي والمسير العلمي فلا تقف عند حدٍّ، الأمل يحدو بك، الانتظار يسعى بك، فلا يأخذ بك بريق ما اكتشفته من نظريات وما حصلت عليه من معلومات، في كلِّ الفنون، وعلى مختلف الصُعُد والميادين، في الفقه والأُصول، في السياسة، في الرياضيات، في الهندسة.
يصيح هذا الصوت عالياً: لا للوقوف، إنَّك تنتظر ما هو أعلى، ما هو أغلى، ما هو أثمن.
إنَّ هذا كلّه لا يعني التفسير الخاطئ لمعنى الحديث (يأتي بدين جديد)، لا يعني ذلك والعياذ بالله أنَّ هناك بدعاً في الدين وخروجاً عن الأُصول، إنَّ هذا ينطوي على السُّذَّج فقط، ويستفيد منه المتلاعبون لإغواء من يستمع لهم، إنَّ معنى ذلك هو أنَّ العلوم لا تقف عند حدٍّ، وهي كلّ يوم في اكتشاف جديد وفي مسألة جديدة، فالفيزياء الموجودة اليوم لو عُرِضَت انجازاتها على العلماء قبل خمسين أو قبل مئة سنة فإنَّهم سيذهلون، إذا لم يصابوا بالجنون من عظمة ما اكتشفه علماء الفيزياء المتأخِّرون، ولا يعني ذلك أنَّ هناك تناقضاً في بديهيات الفيزياء القديمة، إنَّ ما جيء به ليس بدين جديد في الفيزياء أو هو فيزياء غير الفيزياء، بل على العكس تماماً إنَّ الفيزياء القديمة والجديدة مترابطة أيّما ترابط، وإنَّ الجديد إنَّما بني على القديم وانطلق منه وتفرَّع وتوسَّع، وكذلك في كلِّ العلوم الأُخرى من كيمياء، وبايلوجيا، وفسيولوجيا، ورياضيات، وهندسة، هذا كلّه توسّع في العلوم، لا تناقض فيها.
ألم نسمع الحديث القائل: إنَّ العلم إلى الآن حرفان، وسيُخرج المهدي عليه السلام الخمس والعشرين الأُخريات من حروف العلم، كلُّ ذلك ليس في علوم المادَّة أو الطبيعة أو البدن فقط، بل إنَّه في كلِّ العلوم، في علوم العقيدة والدين والفلسفة والتفسير، كلّها ستُكتَشف وكلّها ننتظر اكتشافها، ويدفعنا الأمل لرؤيتها، فهل معنى ذلك أنَّ ما يأتي به عليه السلام لا ينسجم مع ما كان؟
وهل معنى ذلك أنَّ الخمسة والعشـرين حرفاً ستناقض الحرفين؟ معاذ الله إنَّه التلاؤم، الانسجام، كلُّ ذلك صادر من واحد.
لاحظ انتظار الفرج كيف هو أكبر الفرج، ولاحظ بنفسك كيف هو باعث لمزيد من السعي لدى العلماء فضلاً عن غيرهم، وليس هو ساع لنسف العلم وتدميره وإبادته، ليس هناك سعي لقتل العلماء ولا اغتيال العلم، إنَّما هو سعي توسّعي حثيث يدفعنا له انتظار الفرج على كلِّ الصعد.
الانتظار ساعٍ لتوسّع العلم وساعٍ لتكامل الأخلاق.
اللهم صل على محمد وآل محمد
تعميق مفردة الانتظار
إنَّ من أبرز معالم هوية الإمام المهدي عليه السلام أنَّه الأمل، وأنَّ الفرج المهدوي يساوي الأمل، لذلك عبَّرت بعض الروايات أنَّ الانتظار من أفضل العبادة.
وفي العلوم العصـرية نلاحظ أنَّ الأمل يتدخَّل في الحياة الإنسانية ويعطيها الحيوية، بل إنَّ البدن ونشاطهُ معقود بالأمل، فأيّ إنسانٍ ينسدُّ لديه باب الأمل فإنَّ ذلك يكون بداية انهياره، ولا حبل نجاة وإنقاذ لمثل هكذا إنسان إلَّا الأمل المرتبط بالمستقبل.
وإنَّ أحد المعاني الماهوية العقلية لمعنى الإمام والإمامة الإلهية أنَّها الأمل، أي غاية تأملها وتقصدها وتنحو إليها، فـ (أَمَمَ) يعني قصدَ وتبعَ، فهو منطوٍ على غاية، والغاية منطويةٌ على شيءٍ يريده، فأنت تلاحظ أنَّ الأمل مقرَّر بالمعنى الماهوي للإمامة، والأُمَّة لا تُسمّى أُمَّةً
ما لم تُؤَم وتقصد وتنحو وتتَّجه، فالإمامة أملُ القاصدين والأُمَّةُ سيرٌ باتِّجاه المقصودين، فإذا كانت الحضارات التي شكَّلتها الأُمم هي شاخصها وبارزها فإنَّه لم تكن تلك الحضارات إلَّا من أُمم كانت لها أهدافٌ ومقاصد قمميةٌ تطلَّعت إليها فبنت وأسَّست ما صار بعد ذلك حضارةً لها، فدور الأُمَّة في بناء الحضارة دورٌ ريادي أساسي، ولا بدَّ أن يكون على نظام (لا جبر ولا تفويض)، وعلى نظام (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: ١١)، فالأُمَّة عليها مسؤوليات في بناء حضارتها واتِّجاه نظام الخالق، وهو نظام الدولة الإلهية ونظام الأمل، فالأُمَّة مسؤولةٌ عن الأمل والفرج، وعليها السعي لتعبيد طريقه.
من هنا ينفتحُ مجال الحديث عن مسؤوليات الأُمَّة تجاه إمامها، وما هي الطرق التي ينبغي أن تصلها لتعبيد الطريق من خلال الأمل للوصول إلى الظهور.
من هنا تكمن خطورة عقيدة الإمامة - والإمام المهدي عليه السلام بالخصوص - على المناوئين وأهمّيتها للموالين، فهذه الشخصية الإلهية التي تفتح للأُمم تطلّعاً فوق مستوى غايات إدراكها وفوق مستوى قمم ما تصبو إليه، فكلُّ ما تنتج، بل وما تُفكِّر أمام ما يمكن التطلّع إليه في هذه العقيدة هو قليل، وتكمن خطورته عند الأعداء في أنَّه يُمثِّل تهديداً لكلِّ واقعهم، إذ عند شعوبهم لا يكون ما حقَّقوه أو ما سيريدون تحقيقه هو الهدف القممي، إذا عرفت تلك الشعوب أنَّ هناك أملاً أعظم لتحقيق أهدافها على كلِّ المستويات والصعد.
وهو في نفس الوقت فيه أهمّية للموالين في شحذ الهمم، لأنَّ كلَّ ما أنتجه المؤمنون، بل وكلَّ ما يُفكِّرون فيه ويخطر في أذهانهم هو مراتب دنيا ممَّا يُحقِّقه الفرج المطلق والأُطروحة الكبرى، فالانتظار شيء ولا يُقاس به أيّ أُطروحة أُخرى.
الانتظار هو: أنَّ كلَّ ما يُطرَح عليك تقول: هل من مزيد؟ لا يقف أمام القمَّة المهدوية والانتظار المهدوي في هذه البورصة شيء، وكلُّ ذلك أعطته الروايات في كبسولةٍ عبَّرت عنها بانتظار الفرج، فالرؤية العقائدية، والسعادة، والأُفق المفتوح، والسياسة، والمال والاقتصاد، وكلُّ شيء تجده صغيراً متضعضعاً أمام الأمل والفرج، لذلك عبَّرت الروايات بأنَّ (أعظم الفرج انتظار الفرج).
تعميق مفردة العدالة:
إنَّ ما تتمتَّع به العقيدة المهدوية من تحقيق للعدالة، وما يُسلِّط عليه الضوء من قبل الخبراء الاستراتيجيين، يُمثِّل نوعاً من الخطورة عند هؤلاء ونوعاً من التعميق لمفردة العدالة عندنا، ووجه كونه يُمثِّل خطورة عندهم أنَّه يلاشي ويُصغِّر العدالة التي ينادون بها، فإنَّ هذه العقيدة تبرمج للأفراد وللأُمم استراتيجية حضارية عليا، ويقول بأنَّ كلَّ ما تُقدِّمه البشـرية من أُطروحات هو مُهَيمَن عليه من قِبَل الانتظار، ومن قِبَل العدالة المهدوية، لأنَّ الانتظار شيء أعظم وأعلى وأشمخ، فعلى سبيل المثال لو أنَّ أيَّة دولة أقامت نظاماً عادلاً، فإنَّ الانتظار يقول بأنَّ هناك ما هو أكثر عدلاً، حتَّى لو كانت تلك الدولة شيعية وترفع شعار الولاء لأهل البيت عليهم السلام، فإنَّ العدالة التي تُقدِّمها مهما كانت سامية فهناك عدالة أسمى منها.
أثر الأمل في بناء الفرد والمجتمع:
تُعتَبر العقيدة وما تُعطيه للنفس من ثقة وضمان واطمئنان أعظم من الفروع في الدين، وإن كانت الفروع من الأهمّية بمكان في الشـريعة، ولكن طبيعة الرؤية العقائدية في أنَّها رؤية واسعة أشبه بالفضاء الواسع بالنسبة إلى الأرض، وهذه الحقيقة لمن يمتلكها يتمكَّن من خلالها أن يتنقَّل دون اضطراب أو حيرة، فإذا كانت العقيدة بالنسبة لصاحبها كالخريطة المنضبطة المنظَّمة وواضحة المعالم فإنَّ الإنسان تهون عليه الأهوال ولا يقع في الخطر مهما كان عظيماً.
إنَّ الخريطة العقائدية إذا كانت مكشوفة معلومة فإنَّها تُمثِّل لصاحبها الصـراط في قراءة متقدِّمة للمستقبل والعوالم، ولا يقع معها في بلبلات ولا يقف عند مفاجآت، بل تراه يسير في طريقه سريعاً لأنَّه متبصِّـر. بخلاف من لا يملك العقيدة والرؤية، فإنَّه يهوي عند أوَّل مفاجأة، وعند أوَّل قراءة يُقدِّمها له غيره على أنَّها قراءة عقائدية، وكلَّما كانت العقيدة واسعة وذات رؤية شمولية كلَّما كانت حالة الاتِّزان والثبوت والاستقرار في نفس الإنسان وروحه أكبر، فلا ينخدعُ بالصور البرّاقة والعقائد المصطنعة والمفاجآت المهلكة.
وعندما نُسئَل من أين جاءتكم هذه القوَّة والصلابة والاستقامة يا من تحملون هذه العقيدة الانتظارية؟
نقول: إنَّها وليدة لهذا المشـروع العملاق، مشـروع الأمل، لأنَّنا إذا أُصبنا بأيِّ محنة أو ابتلاء فإنَّنا نلاحظ أنَّ هناك فرجاً أكبر من هذا البلاء والامتحان، وإذا جاء الفرج فإنَّنا نأمل بفرج أكبر منه، هذا ما يصنعه انتظار الفرج لمستقبلنا المُشـرق الذي يضخُّ في أرواح المؤمنين طاقة جبّارة من النشاط والصبر، تُولِّد الفضائل، وتنبع منها الكمالات، وتدعو صاحبها إلى التكامل وعدم الوقوف والخمول، تدعوه إلى الإخلاص، فلا يغويه أحد مهما كانت المبيعات في الأسواق أخّاذة بالأبصار، فإنَّما يأمله وينتظره أعلى وأثمن وآخذ للنفس والروح.
إنَّ الأمل لا يجذب المؤمنين فقط، إنَّه يجذب الجميع، فهو يدعو العلماء للتعلّم أكثر وأكثر، ويدعو الحوزات لمزيد من الغور في الدين والفحص في العلوم أكثر وأكثر، وهذا لا يعني القفز على الثوابت بأيَّة حال، فإنَّ هذا وهم وظنّ لا ينبغي أن يقع فيه سامع، فالأمل يدفع العالم باتِّجاه العلم مهما كان يحمل من علم فإنَّ هناك علماً أكبر فيدفعه الأمل ليحصل عليه.
إنَّ هذه العقيدة تصيحُ في الباحث وتخاطبهُ، تصيح في العالم، في المفكِّر: استيقظ، انتبه، التفت، فإنَّ هناك أُفقاً، بل آفاقاً أكبر وأكبر، وعليك بمواصلة السعي والمسير العلمي فلا تقف عند حدٍّ، الأمل يحدو بك، الانتظار يسعى بك، فلا يأخذ بك بريق ما اكتشفته من نظريات وما حصلت عليه من معلومات، في كلِّ الفنون، وعلى مختلف الصُعُد والميادين، في الفقه والأُصول، في السياسة، في الرياضيات، في الهندسة.
يصيح هذا الصوت عالياً: لا للوقوف، إنَّك تنتظر ما هو أعلى، ما هو أغلى، ما هو أثمن.
إنَّ هذا كلّه لا يعني التفسير الخاطئ لمعنى الحديث (يأتي بدين جديد)، لا يعني ذلك والعياذ بالله أنَّ هناك بدعاً في الدين وخروجاً عن الأُصول، إنَّ هذا ينطوي على السُّذَّج فقط، ويستفيد منه المتلاعبون لإغواء من يستمع لهم، إنَّ معنى ذلك هو أنَّ العلوم لا تقف عند حدٍّ، وهي كلّ يوم في اكتشاف جديد وفي مسألة جديدة، فالفيزياء الموجودة اليوم لو عُرِضَت انجازاتها على العلماء قبل خمسين أو قبل مئة سنة فإنَّهم سيذهلون، إذا لم يصابوا بالجنون من عظمة ما اكتشفه علماء الفيزياء المتأخِّرون، ولا يعني ذلك أنَّ هناك تناقضاً في بديهيات الفيزياء القديمة، إنَّ ما جيء به ليس بدين جديد في الفيزياء أو هو فيزياء غير الفيزياء، بل على العكس تماماً إنَّ الفيزياء القديمة والجديدة مترابطة أيّما ترابط، وإنَّ الجديد إنَّما بني على القديم وانطلق منه وتفرَّع وتوسَّع، وكذلك في كلِّ العلوم الأُخرى من كيمياء، وبايلوجيا، وفسيولوجيا، ورياضيات، وهندسة، هذا كلّه توسّع في العلوم، لا تناقض فيها.
ألم نسمع الحديث القائل: إنَّ العلم إلى الآن حرفان، وسيُخرج المهدي عليه السلام الخمس والعشرين الأُخريات من حروف العلم، كلُّ ذلك ليس في علوم المادَّة أو الطبيعة أو البدن فقط، بل إنَّه في كلِّ العلوم، في علوم العقيدة والدين والفلسفة والتفسير، كلّها ستُكتَشف وكلّها ننتظر اكتشافها، ويدفعنا الأمل لرؤيتها، فهل معنى ذلك أنَّ ما يأتي به عليه السلام لا ينسجم مع ما كان؟
وهل معنى ذلك أنَّ الخمسة والعشـرين حرفاً ستناقض الحرفين؟ معاذ الله إنَّه التلاؤم، الانسجام، كلُّ ذلك صادر من واحد.
لاحظ انتظار الفرج كيف هو أكبر الفرج، ولاحظ بنفسك كيف هو باعث لمزيد من السعي لدى العلماء فضلاً عن غيرهم، وليس هو ساع لنسف العلم وتدميره وإبادته، ليس هناك سعي لقتل العلماء ولا اغتيال العلم، إنَّما هو سعي توسّعي حثيث يدفعنا له انتظار الفرج على كلِّ الصعد.
الانتظار ساعٍ لتوسّع العلم وساعٍ لتكامل الأخلاق.