تحفل قصيدة النثر بخطابها الرؤيوي المنبثق من عدة مستويات تتحرك داخل النص الشعري وتسعى لأقامة تضادات لغوية متعددة مرتكزة على فاعلية التماثل والتقابل والتفارق لتوفر محمولات غنية بالشعر ـ ويتبلور هذا الثراء في مجموعة الواحي للشاعر ميثم العتابي بستة الواح شعرية
/لوح الرأس/ لوح الهجرة / لوح الصمت / لوح النوم/ لوح الأمن / لوح الخوف ... لتجسد لنا مجموعة البنى الشعرية قيمة الاشتغال الفني
&&&
( برزخ التناصات القرآنية )
معطى ابداعي يحيلنا الى مخزون موروثي يساهم في بلورة الفكرة ـ المعنى ويعمق الصورة عبر ظلال اللغة القرآنية المشعة والتي تمنح اللفظة قوة عبر الانزياحات المتقنة فنجدها تبحث في النص المشهدي عن بنية ايقاعية منذ الموشور الاستهلالي الأول ..
( انا الذي اوحيت لك ريش القول ) ص3
يشترك الارسال بين منظومتي القراءة احداهما موروثة والثانية عبارة عن متغيرات تتبع للمنظومة الازاحية وتكون مؤثرة ، يؤكده الشاعر في الموشور الاستهلالي الثاني
( أحسبت ان الرأس الممضوغ بعلكة هذا الشعر كان من تأويلي .. ) ص7
والبحث عن مؤثرات التناصية كمسعى من المساعي الحداثوية التي احتفى بها الشاعر المعاصر مؤمنا بان اللغة القرآنية هي رافدا مهما من الروافد الابداعية بل اهمها ... ولكونها تحمل ابعاد اللامحدود، وهذه الابعاد قادرة على ان تحرك ذهنية التلقي باتجاه روح النص ونجده يسعى لأزاحة النص باتجاه دلالاته المضمونية ( فيها من كل زوجين اثنان لاخامس لنا ) ص9
ومثل هذا المحمول الشعري يمنح الشاعر معادلات نفسية مؤثرة تؤسس لقدرة التماهي الشعري وتفعّل الخطاب بوعي سعيا لأحتواء منطقة القبول العام ، تناصات لفظية ـ معنوية
( هل اتاك حديث السائرين
حين يناورك الريح
أو يهمهم الحزن
على رفقة ورد في رابية فارغة ) ص37
ومثل هذه التأسيسات التفاعلية التناصية بحاجة الى شاعر متمكن من ادواته واع يجيد التعامل مع لغة محكمة مثل اللغة القرآنية وبحاجة ايضا الى متلقي نخبوي يدرك متحولات البنية النصية الى مقاربة جمالية قادرة على تحريك ذهنيته وتكمن قدرته على تماثل التناصات القرآنية مع دلالاته الجديدة ..
( رب إني أنزلت قلبي
وبني جنسي من الشعراء
في واد غير ذي زرع
وهبطت كالنسر افتش عن حزني ) ص64
تعد مسألة تأسيس النص داخل لغة القرآن مغامرة مغرية تبهر التلقي بقيمة التناص التماثلي أو التقابلي المفرداتي والجملي وصورة البناء الكلي والتحريك المضموني ، انفتاح المعنى وحيوية المباغتة لحظة القراءة ... الدهشة في حركة التعبير
( حبل من مسد الحزن بجيبي
كم وأدوا صوت الله بقلبي
وشد قريش فطام الابل على كفني
ليمضي فصيلي
مثل الأيام يداول سيرته ) ص71
ومثل هذه التناصات شكلت اقنعة يتماهى معها الشاعر ومشعات مضمونية عمقت بؤرة النص
( لم يفلح من استعصم وتصدى
وذكر اسم ربه
لااسم لربي غير انه
ليس كمثله حتى (ص73)
وما دام الشاعر اختار مثل هذا المنحى فلاريب ان تكون له اشتغالات صوفية وسور محتدمة تدخل بناءه الجملي الاستعاري فتغير ملا محه ـ لنقف امام تأملات كثيرة تعنون اهداف التناص ـ نواياه ـ شكل المغايرة المقصودة وقيمة الخرق فنيا ... ومن ثم نقف عند معنى التماهي وابراز مظاهر التمكن الشعري والمعرفي وهذا جزء من حركة ابداعية حركت المشهد الشعري في مجموعة العتابي
&&&&&
( برزخ الفعل الأمري )
يكشف التعامل الشعري مع الافعال الكثير من البنية التكوينية للذات المبدعة ـ وخاصة حين يكون التعامل مع افعال الأمر ان تأتي غالبا بصيغ التمني او الرجاء ومنذ المفتتح الاول لأستهلالية المجموعة سلط الشعر مدياته على هذا الاشتغال في صياغة المجموعة برمتها
( قف ايها الموت الصغير
تدل مثل خفاش حجري
قارع الطوفان بلوح مثقوب ) ص8
سعيا يحتوي تصاعد الحالة الانفعالية لذروتها المنهمكة بمظاهر الحنق في دواخل الشعرية ..
( امسك براسك
أو انشر غسيلك فوق تشظي المرايا ) ص9
للحركة الفعلية داخل النسق الجملي قوة تماسكية وترابطية تنظيمية وفي مجموعة الواحي تعد الافعال الأمرية وسيلة ايصالية
( أمضي ...
يا صديقي الماء والنار والتراب
لنغني / لنمضي معا ) ص21
لو تأملنا في عناصر الصداقة لرأينا مايديم الحياة وما يديم الأشتعال وما يديم الموت . فالصداقة تعني صداقة الحياة ، المكابدات ، الموت ، الذي لابد ان نقف عنده كثيرا حيث قصدية استخدام الامر للتحليق والمضي الى الغناء ( لنغن / لنمض معا )
يستنهض فعل الغناء الحالة الحلمية للسير معا ـ دون اختلاف ودون افتراق ـ اذ منح الامري الفعل حركة الدلالة لعوالم التخيل الكثير من المجازات الابداعية .. فيستخدم الشعراء المناجاة لنوال فسحة استرخاء تثرى الايقاع الشعري
( أي رب ...
خل سبيل الفرح نحو البيت
عبّد طريق العودة لهذا الطفل
اغسله بماء الدمع
انبت فوق اصابعه اللبنية
سربا من احلام بيض (ص67)
نموذج دعائي يسخر بابتكارات لغوية وحدات تتجلى بما يزخر به المفرد المخاطب يتحول الى صيغة الجمع في بعض المحاور
( اما آن للصمت ان يكون اما آن للصمت قد حان ..
فانهضوا ) /
( برزخ التشكيلات الجملية )
الثراء الجملي اقتدار يعمق الرؤى في بنى مكثفة ليبعد الترهل والمباشرة ويستثمر مساحات الفكر الايحائي القادر على فعل الحراك في ذهنية التلقي
( والحسين ....
الحسين ...
يجاهر ببيعته الاخيرة للموت
يحمل راسه اضحية للماء ) ص12
الماء اساس لكل شيء حي فمؤسس الحياة هنا يلغي المعنى المباشر للموت لتصير البيعة لحياة افضل ..
والأضحية قدمت للماء ـ الجمل التكوينية هي ثريات النص الشعري الحقيقي لكونها ترسم ابعاد كاشفة لفاعلية كل نص شعري احالات تكشف دلالات النص المضمر والمرموز .. الاختزال الضموني الفكري المعتمد على الومضات ـ الايحائي وسيلة اسلوبية ينطلق منه الى نوعية الارشال ... اضاءة منطقة المعنى فقط
( فارتطم بي على بعد دمعتين ـ ليصهل ظلي ) ص67
السياق الجملي يحتمل مستوى تجريبي سعي لبناء نص حداثوي تناسق مضمونه في بنية نصية ليربط بها الفكري .. بواسطة قصدية واعية وتناصات موروثية ولعب بالتضمين ( نضير موضوعي ) مع الاحتفاظ بروح المبالغة الشعرية
( حتى البكاء بحاجة الى تجربة سابقة
مثل قيادة الطائرة )
تناظر الغير متناظر .. ويبين مجالات الفسح الخيالية المهيمنة التي اثرت بوجود الخارق الفنطازي ـ
( استخدمت لأجلك حواسي الاضافية وضعت عيني الجديدة ) ص16
نجده يتنفس عند كل خرق أو تفرد في المخالفة ثمة تراكيب جملية تعبر عن هذا الثراء بغرائبية .. ..( الفراغ المشحون بالكترون التعب ) ص13
سعيا لتخصيب الصورة في التماثلات التوافقية ( مثل نهر يطعنه العطش ص51) او منها المفارقات التقابلية ( عطش الماء الى شفتيها ) ص47 ومنها الازاحات
( فكانوا يحتسون قنينة الكلمات ) ص62
تجربة الشاعر العتابي توسلت الجملة الشعرية المؤدية الى تنوعات ثيمية توازن جسد النص يمنحنا العمق المعرفي وهذا التنوع المضموني ينفتح على اشتغالات في عوالم تتماهى مع التجارب العالمية
( لاأدري أي خراب يكمن في دواخلنا ... وحدها الاحلام ..
تعبر عما يراه سلفادور دالي
في لوحاته التي لم تكتمل بعد )
الجملة الشعرية تأخذنا صوب العديد من المفاهيم كمفهوم حداثوي يعتمد على مرونة اللغة .. وحضور مدرك لجميع البنى دينية ـ اجتماعية ـ ثقافية ـ تحمل خزين الوعي دون ان يقع في مباشرة الوضوح عبر تقنيات البناء بثراء ايحائي توهج ..
لم يعد للريح نكهة القداح
لم تعد الخضرة والاسفلت
أو العودة الى البيت امرا مشوقا ص12)
يصل بنا الى معنى مضمر يشير الى خراب البساتين ـ خراب الراحة والذائقة والمتعة الانسانية
وقد قدم الشاعر ميثم العتابي برزخه الشعري بمغايرات تحفل بشعرية عالية ..