كاتب.
مشكلة معقدة لبعض الكتاب الذين ينتمون إلى إيديولوجيات ضبابية منعتهم من رؤية الواقع الوجداني. قد يرى بعض المتفلسفين من إمكانية تلافي الحرب في الواقعة، لكن اغلبهم عاد وآمن بأن الواقعة كانت تحد ضروري. وتعددت وجهات النظر باتجاه مواقف عدة، منهم من يرى إن الحسين كان ساعيا لخلاص نفسه، أي ثمة تهديد يقف ضد الحسين إما أن يستسلم له أو يهاجر ليأوي وسط الحشد الرافض لحكم يهدد السلام، في وجهة نظر مثل هذه قد تكون قاصرة لكننا أيضا من خلالها نستطيع احتواء مسألة مهمة أي أن الحسين عليه السلام كان يشعر أن رضوخه لحكم الطغاة يعني نهاية الإسلام من العبودية وقيادة تحمل مثل هذه المواصفات لا يمكن أن تحتسب لحرب كبيرة تخوضها بعدة أشخاص لا يتجاوزون السبعة عشر رجلا وجمع من الأنصار وعوائل وأطفال لكن لمثل هذه القيادة أيضا مسؤوليات جسيمة تجعلها تحسب للنهايات حسابها، فالآثار الشخصية غير محسوبة عند القيادات القوية مادام هناك آثار ايجابية واضحة ـ فعلى الكتـّاب أولا أن يكونوا منصفين بوضع الحجم الحقيقي للقيادات المؤثرة، فلم يكن الحسين بن علي بالإنسان العادي وإنما انحرافه وحاشاه من ذلك يعني انحراف أمة وانكساره انكسار أمة ونصره نصر امة، وإلا فالكتابات بغير هذا الحساب تكون سوقية غير فعالة والطرف السلبي يدرك هذه الحقيقة ويعرف تماما إن كسب الحسين إلى صفوفه يعني كسب الشرعية التامة عند المسلمين لكنه يدرك أيضا أن شخصية قيادية مثل الحسين وريث بيت لا يباع، فيصبح وليس أمامه سوى منطق القوة وهذا خطأ كبير وقع فيه النظام الأموي، إذ لم يحسب للانعكاسات المعنوية أي حساب. فالثورة الحسينية وبجميع المعاني المترتبة عند الكتـّاب كان يسعى للإنقاذ وليس للهدم أو الحرب أو التسلط السياسي، ثم نجد هناك دلالات كثيرة تكشف لنا أن مسعى الحسين لم يكن مسعى فردي بل هناك شعور عام بالقلق سواء كان على مستوى القيادات أو الأفراد. يروي التاريخ أن عبد الله بن مطيع أحد زعماء الحجاز قد توسل الحسين بعدم الخروج إلى الكوفة قائلاً: (والله لئن هلكت لنسترقن من بعدك) ولو وقفنا متأملين لنحلل الواقع ونتقصى حيثيات مخاوف ابن مطيع سنجد أن تلك الجملة اختزلت مخاوفا كثيرة، منها أن يزيد لا يملك الدهاء السياسي الذي كان يمتلكه أبوه فيمكن أن يبقي لمصلحته الحاجز المعنوي بل سيستبد بالحكم إذا صفا له الجو من المعارضين، ومقتل الحسين بالتأكيد سينهي الصوت المعارض هذا ما كانت تظنه السلطة. ويروي سعيد بن المسيب أن عبد الله بن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام واستنفر الناس ضد يزيد لكنه تراجع بعد حين، وهذه هي بعض مشاعر الرق التي كان يخشاها ابن مطيع والتي تعي مخاوف العرب من الخضوع لحاكم جائر لا تحكمه القيود التي وضعها الإسلام.
***************
الخروج الأول:
ظهرت تيارات إنسانية تحمل تعاليم ثقافة حضارية تريد أن ترى من موت أبطالها تضحية وتقديرا طبيعيا لطريق جديد للحياة، لأن القائد الذي يقف أمام موقف إذا كان لابد أن يموت فيجب أن يكون هناك معنى له، يجب أن نعاني من الموت لا كاستئذان من الأشياء التي نحتقرها ولكن كتضحية بالأشياء التي نحبها.
***************
الخروج الثاني:
الأمر لا يحتاج إلى كلام قائد استشهد من أجل إنقاذ حضارة بصورة عقلية وهل بعد ذلك من شرف؟ هناك طبيعة سابقة ترتبط بمواصفات القبيلة التي تحررت نسبيا من مركزية السلطة، وبمقتل الحسين سيثبت الأموييون أساسا جديدا للحكم تتضمن إعلانا للقوة يضع حداً للاحتماء بالدين وسنة النبي (ص) في قيادة المجتمع، وهذا يعني إن الحكم الأموي ينشىء بمقتل الحسين بُعداً أولياً لما سيسميه ضرورات سياسية، وليضع المقدسات الإسلامية في مرثيات ثانوية فعلا، وتحققت الكثير من هذه المخاوف، لقد استهدف يزيد ثورة عبد الله بن الزبير فهاجم الكعبة واستباح المدينة وهذا يعني إن أهم ما تنبأ به الحسين أصبح واقعا بعد مقتله، فبعد أن كان العرب يباهون بعزتهم وأنفتهم، أصبحوا مضطرين لقبول واقع مرير ارتضوه حين وقفوا متفرجين والحسين يُقتل وتطأه حوافر الخيل.
***************
الخروج الثالث:
يقول مقاتل عربي مسلم: كانت حرب الحسين لا تعني شيئا لي !
كانت رسالة يزيد شديدة الوضوح ولا تحتاج إلى تورية أو إرضاء مقامات إما أن يقبلوا الذل صاغرين أو يقتلوا ولا شيء بينهما.
***************
الخروج الرابع:
نستشف في واقع الطفوف عن رجال عنيفين دمويين امتلكوا السوقية والقذارة والاضطراب النفسي اللامعقول، وكان القتل غريزة فتك وغدر عندهم بدل أن يكون استثناءا بغيضاً... فهل حقاً أن مثل هؤلاء الرجال هم من يطمحون لقيادة أمة تمثل الإسلام؟ كيف لا يكون تأثير الطف كبير حين كشفت عن واقع مرير وعن نفسيات ملوثة مثل حرملة بن كاهل وهو يذبح رضيعا في قماطه ومثل سنان والشمر و...و...و.
تدل وقائع الطف لاحتياج السلطة السياسية من اقتناء الدين كواسطة تمويه فلو نظرنا إلى خطبة ابن زياد وهو يخاطب زينب عليها السلام يبتدأ بـ... الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم واكذب أحدوثتكم... فتنكر عليه وتجيبه: {الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر}.
***************
الخروج الخامس:
ترى الدراسات النقدية الحديثة أن الشجاعة هي حفظ الذات واحترام النفس كدوافع مختزلة ولم تكن حتماً بمعنى السيطرة على فعل...
يرى ابن زياد أن ثمة فضيحة أصبحت ناتجاً من نتائج واقعة الطف، ومن المؤكد أن هذه الفضيحة يدركها من غور ادراكات نفسية قبل غيره إذ يرتبط منطوقه بنتائج طبيعية... أكذب به أحدوثتكم... وركز جواب العقيلة(ع) كمرتكز تأكيدي على ما في نفسه هو: يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا يا عدو الله... وعندما حولت زينب أمر الاعتصام إلى الله عقب ردها وادعى التعلق به ثانية... قد شفى الله غيظي من طاغيتكِ والعصاة المردة من أهل بيتكِ... فنجد أن ابن زياد يبتدئ خطابه بالحمد لله واعتمد على نص قرآني في حواره مع السجاد(ع) {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.
***************
الخروج السادس:
إن الحرب الأموية ضد الحسين انطوت على جريمة وحشية لا يمكن احتمالها، ارتكبها قادة الأمويين كانت قاسية وغير حساسة وغبية ومثل هذه الحرب عادة تتعلق بالبشاعة والوقائع والذعر التي تؤسس سطحية الإيمان وتصلح أن تكون واسطة لقياس الطبيعة الحقة للرجال وإعادة تقسيمهم أخلاقياً، وعلى كل حال جاءت ردود الفعل لتكشف عن سذاجة المنتصر عسكرياً فاضطربت عروشهم...
إن تحريف المقدسات عمل إرهابي بكيفية تلائم أضرار السلطة السياسية، فيتحول الأمر إلى محاولات اضعاف النفوس ترغيباً وترهيباً بشكل يرهق الجماهير من تحمل مسؤولياتها للدفاع عن الحق، وخشية أن يستعظم الناس توفر الاستعداد الدائم لقبول تغيرات دينية جديدة لا يقتنعون بها بقدر ما تتماشى مع أمنهم واستقرار مصالحهم
***************
الخروج السابع:
يرى النقاد اليوم أن الحرب لا تقود فقط إلى تدمير المقدسات وإنما أيضاً إلى انهيار الثقة بالأفكار الدينية النبيلة...
ومن الآثار الأساسية لمعركة الطف إعلاء المبدأ الثوري في محاربة الفساد. وفي لغة ذلك العصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترقية الكرامة الإنسانية في مواجهة جبروت السلطة وهدم جدار الخوف حيث تواصلت الثورات رغم بشاعة الانتقام، فكانت في الحجاز ثورة عبد الله الزبير وابن الأشعث ومصعب بن الزبير في العراق.
ملاحظة: ليس بالضرورة أن يكون أهل الثورات من شيعة الحسين وهذا القائد يقول:
وإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التآسيا
ومن الحركات التي تعتبر رداً مباشراً على مقتل الحسين عام 66 هـ ثورة المختار بعدما التف الناس حوله وبايعوه بدلاً من أميرهم عبد الله بن مطيع الذي كان قد نصبه عبد الله بن الزبير أيام حكمه. يرى بعض الكتاب إن مؤازرة أهل الكوفة للمختار كانت بمثابة تعويض نفسي أو تكفير عن ذنب كما يشاء كتاب آخرون التعبير عنه، فشكلت تسعة آلاف مقاتل من قبائل مختلفة بقيادة إبراهيم ابن الأشتر لمحاربة ابن زياد، فتمكنوا منه وقتلوه كما لاحقوا القتلة كالحصين بن نمير وشرحبيل، ثم أرسلوا رؤوسهم إلى محمد بن الحنفية أخي الحسين (ع) في مكة، ولم يتوقف الإحساس بفجيعة الحسين (ع) حتى بعد الاقتصاص من قتلته والتنكيل بهم وظل شعار (يالثارات الحسين) حاضراً في نفوس الثائرين حتى نهاية العهد الأموي.
***************
الخروج الثامن:
يسأل أحد الـ... في إحدى المواقع ساخراً ممن سيأخذ الشيعة ثارات الحسين؟ ثارات الحسين ذمة في أعناق الثائرين تأخذه الشعوب من كل حاكم جائر وطاغية أثيم، لأن صحوة كل خير لا بد أن تنهض على أعقاب كل شر، وأين ما كان، ليبقى المثال الحسيني يلهم الحركات الشيعية المقاتلة ضد العباسيين وغيرهم بشد المعنويات عند الحركة وما يزال الناس إلى اليوم ينتخون بالثورة الحسينية من ثوراتهم وحركاتهم ليبقى الحسين رمزاً لكل ثورة.