.
تتعلق دراسة الرموز التاريخية بالعديد من المذاهب النقدية التي تهتم في بلورة تاريخها جماليا بواسطة جواذب تنظيرية تسلط الاضواء على الرمز ومنجزه كمعالجة تاريخية تمتلك قدرة تحليلية واعية لاستيعاب ذلك الواقع ومؤثثاته العلائقية المكونة لحيثياته داخل النص وخارجه معتمدا على القيمة الانتقائية التي تختلف من شخصية الى اخرى من حيث السمات الجذرية؛ فهناك كاتب يخدم رمزا تاريخيا وهناك رمز تاريخي يخدم الكاتب ومنجزه الابداعي لما له من فاعلية... وشخصية الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام من أكثر تلك الشخصيات الفاعلة من جميع الجوانب التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية حتى اصبحت خارج حدود الزمان والمكان.
يرى الشيخ (عبد الرزاق فرج الله الاسدي) في مقدمة مؤلفه (الامام علي (ع) بين طهر الميلاد ومجد الاستشهاد) تحقيق وانتاج وحدة الدراسات التابعة لشعبة الاعلام قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة يرى ان الامام علي (ع) هو المضمون الأكبر من كل العبارات، وان هذا الرمز المقدس يهب الغذاء الروحي والرصيد الفكري والاخلاقي وجميع النصوص لاتضيف اليه شيئا بقدر ما تكشف عن جوهر وخصائص الذات التي ولدت معه وخلدت بعده كونه دلالة امتداد رسالي يقول الفراهيدي: (احتياج الكل اليه واستغناؤه عن الكل دليل امامته) فيرى المؤلف ان الاجيال اذا ارادت بناء وجودها المتعثر عليها ان تلتمس هديها من حياة الامام علي (ع) ويعني ان سمات البحث في محاور هذه الشخصية مسعى استدلالي لوجودها، ولذلك رأى الملف ان يدخل هذا السفر الجليل من خلال ثلاث اشراقات...
فكانت الاشراقة الاولى: التخطيط الرسالي لوجوده، والاشراقة الثانية: اعداده الرسالي، والثالثة: صفاته، والمعروف ان سمعة الامام ع احتلت مكانة مرموقة في التدوينات البحثية، وأصبح من النادر اضافة شيء ينهض عبر مخاض المفاهيم البحثية، ليشكل عمقا حداثويا، وهذا ما شمل الذهنية الاكاديمية عهودا زمنية، حينما نجد ان المسعى الحداثوي المعاصر لايختلف عن الاصول المتوارثة في ماهية الغاية او الحكمة الالهية، وتعتبر وجود القيادة المعصومة ضمن موجهات العنصر الرسالي ولذلك نجد في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي حديث ابن عباس في قوله تعالى: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال الرسول (ص): (انا المنذر وعلي الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون)، ليصل الشيخ (فرج الله) من خلال هذا الاستشهاد الى نتيجة مهمة اسمها أداء الدور واكمال المشروع الاسلامي...
يرى المؤلف ان قيمة الجذوة ومسار التأثر يكمن في نقطتين (الانذار ـ الهداية) وتوحيد دوري النبوة والامامة، ولهذه الوحدة موقع فكري وروحي فاعل، اسقط محاولات الكثير من التاريخيين الذين حاولوا خلق تصنيفات شخصية او مقاربات او مقارنات قيادية ضمن اشتغالات ذات قصد غرضي يشاغل الحقائق لابعاد الرابط الجوهري كاتحاد المنشأ النوراني بدليل قول الرسول (ص): (ان الله تبارك تعالى خلق عليا من نوري وخلقت من نوره وكلانا من نور واحد) والارادة الازلية الربانية، ومثل هذه الحقائق غير خاضعة لمنطق الذوق أو مساعي النشأة النفسية بقدر ارتكازها على واقع حقيقي يمتلك المعنى الثابت، ولابد من تجاوز نمطية التهويم الخارجي والدخول في عمق الشخصية دون قيود، وبهذه الحال سنحتاج الى متابعة الخوارق التي ستشكل الشكل والمضمون كخارقة ولادته في بيت الله سبحانه، وصدى هذه الولادة وبنيتها الجوهرية ودلالتها لتدخل العناية الربانية واستحقاقات هذه الشخصية...
فقد روى خارجة بن سعد عن ابيه: (ياعلي لايحل لأحد ان يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك)... والدلالة الثالثة الاعداد الالهي لعملية تغيرية هامة في بيته الحرام، وهي تطهيره من رجس الوثنية الجاهلية، لو يسألني احد ما عن القيمة التجديدية في المسعى البحثي التي أؤمن بها، لقلت: هو الدخول الى عمق الشخصية، الى معناها الخاص، الى خوارق تميزها، لكي احس اني فعلا اقرأ بحثا عن أمير المؤمنين علي (ع) صاحب الامتيازات الكبيرة فكيف لباحث ان يقدم مثل هذه الشخصية دون مكانتها والمواقف التي تتسم بالاعجاز الدال على عمق التكوين الرباني، فقد قدم الباحث تلك الخوارق مستشهدا بنبوآته، مثل نبوءته بذي قار: (يأتيكم من قبل الكوفة الف رجل لايزيد واحد ولا ينقص يبايعون على الموت).
يقول ابن عباس: جزعت خشية الزيادة والنقصان؛ فاذا بالعدد الكلي يحتاج الى واحد فقط ومن اين سيأتي ساعتها بالواحد؟؟ وفجأة جاء الاخير الفارس الف واذا به (أويس القرني) فلماذا نهمل مثل هذه الوقائع في بحوثنا وتدويناتنا، وهي القادرة على تكوين البعد البنيوي الشعوري، وتمثل الرؤيا، وقادرة ايضا على تعميق الحس الدرامي داخل البحث مع توفير مساحة اكبر لإعطاء مثل هذه المضامين والتصورات ومن ثم اعطاء مثل هذه المضامين والنبوءات بعدا كونيا يتعدى المساحة الزمانية الى حدود البنية المفتوحة، وبهذا ينتج الوعي القادر على احتواء الشخصية؛ فقصة مثل قصة المدائن وهي قصة تخلف (عمرو بن حريث) ومعه سبعة اشخاص الذين بايعوا الضب، ونبوءته بملك الحجاج وجرائمه وطريقة موته ونهايته، ومن ثم نبوءة اخباره بجرائم معاوية وموته وطالما كان على منبر الكوفة يتحدث عن احداث زمانية لم يحن وقوعها بعد كنبوءته بحكم الديلم الذين ملكوا بغداد وحكموا مثلما عدهم امير المؤمنين مئة عام والكثير من تلك الاخبار.
واجد ان مثل هذه الوقائع تخلص المنجز البحثي من التقريرية المملة، وبعث الروح داخل المنجز البحثي فهي ابنية ذات طاقات متجددة تلائم كل عصر ومكان ـ نعم انا اندهش فعلا لمن يكتب عن حياة الامام ع ويتجاوز عن قصد هذه الخوارق التي تمثل الصورة الابهى والاشمل لمفهوم العصمة، ولا يمكن حجب الحقيقة خشية من يتهمنا بالغلو؛ والمعروف ان انكار العصمة من الامور السياسية التي لاعلاقة لها بالدين والعصمة رؤيا ترفع من المستوى الفني لأي بحث فهي تمنحه الطراوة والنداوة والمداليل التربوية وتستند على عاملين؛ الاول: الحرص على صدق الطاعة، والثاني: العلم المعرفي الحقيقي (البصيرة).ومن هنا يأتي معنى التنزيه والذي يعني الدلالة على مفهوم الكمال.
أما في الاشراقة الثانية التي ركز عليها الشيخ (عبد الرزاق فرج الله) هي مسألة الاعداد الرسالي للامام علي عليه السلام وبحثها باتجاهين مهمين ارتكزا على حضور التحليل النقدي الواعي؛ الاتجاه الاول تبني تربيته أي اثاره، وتثمينه المواهب الكامنة في ذاته بالاسلوب الطبيعي للتعلم والتعليم، والكشف عن هذا الاستعداد الذي تلقاه علي (ع) في المهد الرباني الأول، وتأكيد الشعور بفضل رسالة الله تعالى الفات نظر الامة الى جوهر الصلة.
أما في الاتجاه الثاني ثمة استيعاب لمفهوم التربية يعنى بمستوى التغذية والرعاية العائلية (مسكن، مأكل، ملبس...) فقد صورت بعض المصادر ان الدافع كان كفالة الرسول (ص) لمساعدة ابي طالب في اعالة ابنه للفقر الذي يعيشه وهو من اغنياء قريش كما هو معروف، فكانت مساحة التدوين البحثي هي المنطقة الذهنية حيث ان من طبيعة الوعي عدم الرضوخ للمعلومة القلقة وغير المستقرة وغير المسنودة بمعقولية متوازنة، موضحا قضية ابي طالب عليه السلام والذي كان من اشراف قريش ومن اثرياء مكة ووجهائها، وهو من كفل رسول الله (ص) حتى طفولته ورعاه وحماه من غوائل الدهر، فلا يعجزه الجانب المادي حتى يتصدى رسول الله (ص) بهذا المعنى ويرد له الفضل باشباع علي (ع) لكن النبي (ص) تلقاه ضمن اعداد خاص لحركة التغيير ضمن اسلوبين الاول النظري تكييف النصوص والاثار التي تؤكد ضروره القيادة الامامية بعد رسول الله (ص) والعبارات الواردة بحقه، وتوضح عملية السبق الايماني كوصية النبي (ص) لعمار بن ياسر (ياعمار وان سلك الناس كلهم بوادي وسلك علي (ع) بوادي فاسلك وادي علي وخل الناس طرا) والمعروف ان عمار كان مثالا فريدا في تاريخ الاسلام...
مثل هذه الاستشهادات التاريخية، وهذا المضمون الاوفق لاستيعاب الامة له لضرورة الاقتداء به، ووحدة التعبير هنا تشكل جمالية معرفية ممتلئة بالايحاء، محمولة بمفهوم الانصهار كقوله (ص): (علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) فهناك خلاصة تعبيرية تتكون من عدة خواص مثل ربانية المصدر والعصمة، واستيعاب المضمون ووحدة الوظيفة الشرعية.
اما الاسلوب الثاني هو الاسلوب العملي والذي تبناه الرسول (ص) للاعداد الامامي وتطرق البحث لثلاثة ايحاءات للتعايش المباشر للكشف على العلة، يقول الامام علي (ع): (كانت لي منزلة من رسول الله لم تكن لأحد من الخلائق...) وكان الحضور تعاهدا بأمر الله يقول النبي (ص): (ان الله أمرني ان أدنيك ولا أقصيك) وبعد هذا نجد ان الغاية اطلاع الامام علي ع على التفاصيل والمجريات.
الاشراقة الثالثة: خصصت لعظيم صفاته، فنجد ثمة تداخلات تشكل ملمحا كبيرا من ملامح البناء الدرامي لمقومات هذه الشخصية، احساس بالجمال، بالعظمة، والاحساس التراجيدي ـ صفة المعاناة ـ لكن بعيدا عن الصراعات الداخلية نجد ثمة استقرار نفسي رغم عملية كتمان لفضله واسعة النطاق تعرض لها ومصادرة تاريخه بين حاسد وخائف، وسر عظمته تكمن في عناية الله تعالى وتاريخه المتميز ورصد الاثر وعي يقوم على فهم الظواهر وتكوين التأثير الانساني.
يرى ابن عباس (رض): ما انزل الله في القرآن آية فيها (يا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا) إلا وكان علي أميرها وشريفها... وموضوع شواهد القرآن نجده من المحرضات الجمالية الساعية لتركيز الاثر والمحرض الجمالي يمنح النص شعورية ويزيد الاثر عمقا.
وقد ركز الباحث ستة شواهد قرآنية منتقاة وبعدها تناول قدر علي عليه السلام في حكم الوجدان، وهذا يعني انه فتح سبيلا لانتقاءات تبحث في عوالم معنوية، لاتخضع لأي منطق تقويمي، بل تسعى لإبراز الشهادات المحورية كشهادة الحسن البصري في جوابه لأسئلة حجاج بيت الله الحرام أو وصف ضرار بن مرة لعلي عليه السلام في مجلس معاوية، وهناك شهادات لتوماس كارليل، ومحي الدين الخياط، وبولص سلامة ومن ثم شواهد شجاعته عبر معارك ووقائع وحروب وبالمقابل ستجد زهده وانقطاعه عن الدنيا ومن ثم باقي مكنوناته الحياتية من عبقرية وحكمة. لقد قدم لنا الشيخ (عبد الرزاق فرج الله) مرتكزات الوعي القرائي لشخصية مهمة في التاريخ، عسانا نتعلم كيف نقرأ رموزنا القراءة الصحيحة.