تعرّضت امرأة الى حادث (حرق) من الدرجة الثالثة، كادت أن تكون مميتة، وهي في كل الأحوال مشوهة، نقلت على اثرها الى المستشفى برعاية ابنائها وبناتها، حيث التفّ الجميعُ حولها بين باكٍ وشاكٍ وحزين بعيون دامعة وحشرجة ألم واضحة... ومرّ يوم، يومان،... ثم بدى الملل يلوح في وجوه اولادها، واخيرا رحلوا باستثناء أصغرهم، وهو فتى شاب بقى مرابطاً في الحديقة القريبة عن الردهة، يستجيب لطلبات اخواته... ولكن الذي حدث بعد أيام هو ان الملل زحف الى قلوب بناتها ايضا، رحلن جميعهن، ولم يبقَ عندها سوى هذا الشاب الصابر، دون اخوته واخواته، ولايحق له أن يلازم والدته، كون الردهة نسائية فهي بحاجة الى مرافقة امرأة، استضافت الحديقة هذا المسكين ليل نهار، لم يتزحزح عنها إلا للضرورة القصوى، طال مكوث الأم وصارت الأيام أسابيع، والأسابيع صارت شهورا، وهو كما هو صامد لايتزحزح، يقلب الدنيا لو صاحت أمه: آه... حتى لو كانت هذه الـ (آه) في جوف الليل، ينهض يستنجد متوسلا بالممرضات: ارجوكم أمي تبكي، أمي تتألم، وهن يركضن لمداراتها استجابة لـ(خاطر) هذا الأبن البار... الذي صار حديث المستشفى... فالممرضات والممرضون، والعاملات والعاملون عرفوه والأطباء أحبوه، حتى ان مدير المستشفى استضافه لأكثر من مرة وأوصى به خيرا... لقد عشت يا عمة عشرين عاما في المستشفيات، ورأيت ما رأيت من أمور عجيبة غريبة، كم مرت بي مصائب وفواجع؟ حالات قتل ودهس وحرق، لكن لم أبكِ مثلما بكيت لهذا الشاب ـ صدقيني يا عمة ندعو له ليل نهار... الله يحفظه لشبابه، ويعوّضه كل خير، لهذه الوقفة التي عجز عنها اخوته وأخواته... كنت أقص الحكاية للحاجة (أم هادي) وانا أشعر بشيء من الزهو حين اراها تبكي وتمسح دموعها... (أم هادي) هي امرأة غنية تجاوزت الستين عاما، تعيش لوحدها، لقد مات الجميع ولم يبقَ لها إلا حفيد عاق سيء السمعة هجرها، ولم يدخل عليها إلا من أجل ابتزازها... قالت لي:ـ هل تعرفينه؟ تعرفين عنوانه؟ وهل من الممكن أن أراه.. استغربت بادىء الأمر ثم قلت: أكيد هي تعاطفت مع حكايته، وتريد ان تساعده واذا بها تتوسل خذيني اليه.. فأنا بحاجة الى أحد يذكرني بخير بعد موتي.. يزور قبري ويقرأ سورة الفاتحة كلما يذكر سيرتي.. التفتت إلي لتقول: من المؤكد ان هذا الفتى قد تأخر كثيرا عن حال اخوته.. ترك عمله في سبيل أن يتفرغ لرعاية والدته.. فلذلك قررت ان امنحه بيتا ونفقات زواج ورأس مال يفتتح به مشروع عمل... فرحت كثيرا، وصرت افخر بين الناس بأني كنت وسيطة هذا الخير وسببه المباشر ... صرخت بي أمي ذات مرة وهي تقول: من انت؟ ومن سواك؟ إن الله سبحانه وتعالى أراد ان يعوّض صبره خيرا...