في حرارة الشمس الحارقة يَتَجرعُ الأزكياء مرارة العطشّ والقتل بينْ صَليل السِيوُف وطَعنّ الرِماح وصُراخ الثكالى والأطفال أوقدُ شمعةً لعلَ القوم بِها يَستنيرون
ها هوَ الحُسين وأهلُ بيتهِ لم يْبقى لهُم ناصراً ولا مُعين، قّضى الجَميعُ بين ذَبيحً وخَضيبْ، شَبابٌ وشيب تعانقتْ دِمائهُم الزَكية حتى شَكلت إبهى مَعاني التفانِ والإيمان،
رجلٌ وحيد يُنادي بصوتً يُدوي إلا مِن ناصراً ينصُرنا؟ إلا من ذابً يذُب عنا؟
صوتٌ تتحركُ لهُ الجبال قبل القُلوب، فبرز لهُ ذلكَ الغُلام اللذي يُشبهُ فِلقة القمّر، فتىً صَغير العُمر كبير المنزلة والرفعة، شَمرَ عَنْ ساعديه ووقفَ أمام عَمهُ وقال: ياعَم فَدتكّ النَفسّ لقَد تقرح فؤادي لغربتك وحُزنك ياعم اسمح لي بأن أخرج لقتال هؤلاء القوم
رقَ قَلب عَمهُ له ووضع يدهُ الشريفة على كَتف الفتى وقال أرجع إلى أمك يا ولدي جزاك الله خيراً،
فأخبره أن أمهُ هي التي أرسلته للنُصرة
فـردَ عَليه عمهُ قائلاً لا بأس عُد إلى الخَيمة يا بُني، عادَ الغُلام يملأهُ الحُزن والأسى، دخل خيمة أمه وهو يُدلي برأسهِ
قالت أمه: لم أنت هُنا يا ولدي؟ اجابها بحزنٌ و إنكسار رَفضَ عَمي ان أبرز للقتال واحارب وقال إني صغيرٌ وهو لا يُريد أن يجرح قَلبَكِ بمُصابي
وقَفت تلكّ السيدة الجليلة ونفضت الغُبار عَنْ صُندوقٌ كانت قد احتفظت بهِ، وأخرجت منهُ درعاً وخوذة ورسالة وقالت تعال مَعي يا ولدي، ذهبوا مُسرعين ودَخلوا خَيمة عمه،
قالت السيدة: السلام عليك يا مولاي فرد هو السلام عليها أعطته ما تحمله بين يَديها معَ الرسالة، وقالت له اقرأ هذه الرسالة يا مولاي،
بدأ بقرأة الرسالة حتى تَبللت لحيتهُ الشَريفة بالدموع، أخبره انها وصية والده له بأن ينصر عمه يوم لايجد ناصراً ولا مُعين،
فقال لكنك وصية اخي إلي ويتوجب علي ان احميك من الأذى لا أن أقدمك إلى المنية بيدي فانتفضت أُمّه”رملة وقالت اتفجع ليلى بالاكبر ولا أفُجع أنا بولدي؟
فَبكى الإمام بكاءً شديداً و أذن لهُ فبرز القاسم وهو ينادي
إن تُنكروني فأنا نجلُ الحسـن، سبط النبي المصطفى والمؤتمن
هذا حُسين كالأسير المرتهن، بين أناس لا سقوا صوب المزن
استلّ القاسم سيفهُ ، و تقدّم نحو آلاف الذئاب وأخذ يُحارب بضراوة المحارب الشُجاع، وبعد أن قَتل منهُم جبلاً كبيراً انقطع شسع نعله اليسرى فهوى ليعدلها استخفافاً بالطغاة فحملَ عَليه اللعين ابن اللعين عُمر بن سعد بن النفيل وضربه بالسيف على رأسه ففلقها ولم يُراعي صِغر سنه فسقط الفتى وصرخ: يا عمّاه…
حَمل الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) ابن أخيه الحبيب و لم يضعهُ فوقَ فَرسهُ، كما فَعل معَ ابنهُ عليّ الأكبر ، بل حملهُ بنفسهِ
كان القاسم غافياً على صدر عمّه … ووجهه ما يزال يتألّق كالقمر، كانت الرمال مليئة بالسِهام المتكسّرة و الدماء،
وضع الإمام جَسد أبن أخيه إلى جانب جسد ولدهُ عَليّ الأكبر في خيمة الشهداء، ثم نظر الحُسين إلى القاسم، بدا الفتى الشهيد كما لو كان نائماً
فتذكرَ الإمام طفولته المباركة ، كان عمرهُ صغيراً عندما استشهد أبوه الحسن مسموماً فجاء باكياً إلى عمّه ، يُريدُ أن يقول له أنّه أصبح يتيماً ، و ها هو الآن يلتحقُ بأبيه الإمام الحسن عليه السلام
طَبع العمّ قُبلةً على جبين ابن أخيه، و غادر الخيمة حزيناً، فقضى القاسم شهيداً بِعُمر الشمعة
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم اسُتشهد بين يَديّ عَمهُ ويوم يُبعَثُ حياً