كربلاء حقيقة كونية وقرآنية
- بعد فاجعة الطف إمتازت أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام بتعريف الناس بشكل كبير بشرافة التربة الحسينية المقدسة وما تحمل من خصائص؛ والسبب يعود للأمور الآتية:
- إشتهار المكان بين الناس ومعرفتهم له بسبب فاجعة مقتل أهل البيت عليهم السلام.
- توجيه الناس إلى التحلي بالآداب واللياقة عند توجههم لزيارة صاحب التربة ومشرّفها الإمام الحسين بن علي عليهما السلام.
- نقل الملكة المعرفية عند أهل الإيمان من مرحلة العلم بحقيقة الشيء إلى مرحلة العمل.
فحملهم لهذه التربة كان كاشفاً عما توصلوا إليه من معرفة بها.
فتقديسهم لها، واستشفاؤهم بها، وسجودهم لله عليها؛ دافعهُ العلم بخصوصية هذه التربة؛ وهو ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة الآتية:
تقديم تربة كربلاء بالخلق على تربة مكة
- روى الحر العاملي رحمه الله في الوسائل، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (خلق الله كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدسة مباركة ولا تزال كذلك (التهذيب).
- وفي رواية ثانية: (حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أولياءه في الجنة) (كامل الزيارات).
تفضيلها على أرض مكة وأنها حرم آمن
ومن الأحاديث الأخرى التي تحدثت عن خصوصية تربة كربلاء وتفضيلها على أرض مكة هي ما يلي:
- فعن أبي الجارود، قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام: «أتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق أرض الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وأنها إذا بدل الله الأرضين رفعها الله كما هي برمتها نورانية صافية فجعلت في أفضل روض من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنها إلا النبيون والمرسلون).
أو قال: (أولوا العزم من الرسل وأنها لتزهر من رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدري من بين الكواكب لأهل الأرض يغشى نورها نور أبصار أهل الجنة جميعاً، وهي تنادي أنا أرض الله المقدسة، والطينة المباركة التي تضمنت سيد الشهداء وشباب أهل الجنة» (الوسائل).
- عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: «أن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُنيَ بيت الله على ظهري، يأتيني الناس من كل فج عميق؟ وجعلت حرم الله وأمنه؟ فأوحى الله إليها كفي وقري، ما فَضْلُ ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من ضمنته كربلاء لما خلقتك، ولا خلقت الذي افتخرت به فقري واستقري وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلاّ مسختك وهويت بك في نار جهنم» (وسائل الشيعة).
والحديثان يتضمنان معاني وحقائق ومسائل:
- المسألة الأولى: سنة التفضيل حقيقة كونية وقرآنية
لو نظر الإنسان إلى ما يدور من حوله في هذا الكون الرحب لوجد أنّ الله عز وجل قد فضل خلقاً على خلق،
- فالأرض فضلها على الكواكب فجعل فيها الحياة وشرفها بالأنبياء وأكرمها بهبوط الوحي،
ثم خلق الماء فجعل منه فراتاً عذباً ومنه مالحاً أجاجاً
وفضل التربة بعضها على بعض فمنها الأرض السبخة التي لا ينبت فيها الزرع ومنها الصلبة التي لا يخرج منها إلاّ الحجارة ومنها الأرض الطيبة
ولو نظرنا إلى أرض مكة وأرض كربلاء لوجدناهما قد أُعدّتا أن تكونا حرمين فكربلاء ضمت جسد سيد شباب أهل الجنة ومكة ضمت بيت الله.
ولذلك ورد هذا الحديث عن الإمام زين العابدين عليه السلام كي يتعرف الناس على الخصائص التي خصت بها أرض كربلاء. . لا من قبيل التقليل من شأن أرض مكة، أو الكعبة المشرفة أعزها الله.
وإنما من قبيل بيان الحكمة في تفضيل أرض كربلاء، علماً أن التفضيل في الواقع هو حقيقة قرآنية تحدث عنها كتاب الله تعالى وأنها جرت حتى بين الأنبياء والمرسلين عليهم السلام؛ قال تعالى:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [البقرة - 253].
فالتفضيل سنة كونية وقرآنية، وأحاديث العترة عليهم السلام إنما جاءت في هذا المورد كي يطلع الإنسان على حكمة الله فيها.
- المسألة الثانية: الحكمة في تفضيل أرض كربلاء على أرض مكة
للوقوف على الحكمة في تفضيل أرض كربلاء على أرض مكة ينبغي أولاً" معرفة عوامل الإفتخار ودواعيه
فكربلاء ومكة ــ أعزهما الله ــ قد تضمنتا في ثراهما آثاراً تفضيلية كانت هي السبب في هذا التفضيل، وهذه الأسباب:-
(مكة) سبب افتخارها على بقية الأراضي هو:
لوجود البيت الحرام، وقدوم الحجاج من كل فجّ عميق، وموضع قبلة المصلي في صلاته، وكلا الفرضين، ــ فبالصلاة والحجّ ــ وقد ارتبطا بالبيت الحرام
(مكة) حرم آمن، وهذه الحرمة إكتسابية لا ذاتية، بمعنى أنها اكتُسِبتْ من خلال دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ
مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة - 126].
(مكة) فيها مقام إبراهيم عليه السلام ولوجود هذا المقام اكتسبت أرض مكة ــ أعزها الله ــ هذا التفضيل والحرمة.
قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران - 97].
وهذه الآية تدل على أمرين:
- أن الآيات البينات جمعت في مقام إبراهيم.
- لوجود هذا المقام جعل هذا البلد حرماً آمناً،
- بمعنى آخر: الجعل في الحرمة والأمن كان لوجود مقام إبراهيم عليه السلام.
- وهذا يدل على أن شرافة المقام من المقيم وهو إبراهيم الخليل عليه السلام؛
- ويدل أيضاً على أن هناك فرقاً بين أرض مكة وبين أرض الكعبة المشرفة؛ إذ قد ينصرف الذهن إلى أن التفضيل هو بين أرض كربلاء والكعبة المشرفة وهذا غير صحيح.
لأن الحديث يدور في أسباب التفضيل ودواعيه بين (أرض كربلاء وأرض مكة)
لذا إذا كانت هناك أسباب ودواعٍ لتفضيل مكة على غيرها من البقاع؛ فمن باب أولى النظر إلى هذه الأسباب وما تحمل من شأن عند الله تعالى.
- فإذا كانت أرض مكة تفتخر على بقية الأراضي والبقاع بسبب بيت الله المحرم، ومقام إبراهيم عليه السلام
فالفخر كل الفخر بمقيم البيت وذريته،
أي: بإبراهيم وذريته يكون التفضيل لا بالأرض.
- وهذه حقيقة قرآنية لا تقبل الريب، قال تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [إبراهيم - 37].
- المسألة الثالثة : (كربلاء) هي البقعة المباركة بجانب شاطئ الوادي الأيمن
ومن الأحاديث التي أظهرت الخصوصية المكانية لأرض كربلاء، حديث أخرجه الشيخ الطوسي والشيخ المفيد، والعاملي، والقمي، والنوري (رحمهم الله) وغيرهم.
واللفظ للشيخ الطوسي: عن علي بن الحكم، عن مخرمة بن ربعي، قال:
- قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: «شاطئُ الوادي الأيمن الذي ذكره الله تعالى في القرآن هو الفراتُ، والبقعة المباركة هي كربلاء» (التهذيب).
- وفي رواية: «والشجرة هي محمد صلى الله عليه وآله» (كامل الزيارات).
المسألة الرابعة (كربلاء) محل ولادة عيسى عليه السلام والربوة التي التجأت إليها مريم عليها السلام.
- أخرج الطوسي رحمه الله عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام، في قوله: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} (سورة مريم - 22).
قال: «خرجت من دمشق حتى أتت كربلاء فوضعته في موضع قبر الحسين عليه السلام، ثم رجعت من ليلتها» (التهذيب).
- وفي رواية: عن أم سلمة رضي الله عنها حينما قتل الحسين عليه السلام، قامت فأخبرت بذلك! فقيل لها: أنى علمت؟! قالت: دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال لي: «إذا صار هذا دماً فاعلمي، أن ابني قد قتل؛ فكان كما قال.
وقبره في البقعة المباركة والربوة التي هي ذات قرار ومعين بطف كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين» (دلائل الامامة)
المسألة الخامسة : كربلاء هو الموضع الذي ردت فيه الشمس لعلي أمير المؤمنين عليه السلام
من الكرامات التي أكرم الله بها أمير المؤمنين عليه السلام كرامة رد الشمس بعد غروبها.
والمتتبع للروايات والآثار الواردة عن العترة عليهم السلام وسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله ووصيه عليه السلام يجد أن هذه الكرامة قد تكررت له ــ بأبي وأمي ــ مرات عدة.
- منها: ما كان زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بدعوة منه لعلي عليه السلام بأن يخصه الله بهذه الكرامة والمنقبة، وقد شهدها النبي صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام وخلق كثير.
وكان هذا الحدث في المدينة (الكافي للكليني).
- ومنها ما كان في العراق وقد تكررت - رد الشمس - مرتين.
فالأولى: (إن أمير المؤمنين عليه السلام سار بعسكره من النخيلة مغرباً حتى أتى نهر كربلاء، فمال إلى بقعة يتضوع منها المسك وقد جنّ عليه الليل مظلماً متعكراً ومعه نفر من أصحابه، وهم: محمد بن أبي بكر، والحارث الأعور الهمداني وقيس بن عبادة، ومالك الأشتر، وإبراهيم الحسن الأزدي، وهاشم المري. (كتاب الهداية الكبرى)
قال ابن عبيد الله بن يزيد: فلما وقف في البقعة وترجل النفر معه وصلى؛ قال لهم: «صلوا كما صليت ولكم علي علم هذه البقعة».
فقالوا: يا أمير المؤمنين امنن علينا بمعرفتها.. فقال عليه السلام: «هذه والله الربوة ذات قرار ومعين، التي ولد فيها عيسى عليه السلام، وفي موضع الدالي من ضفة الفرات غسلت مريم، واغتسلت، وهي البقعة المباركة التي نادى الله موسى من الشجرة، وهي محط ركاب من هنأ الله به جده رسول الله صلى الله عليه وآله، وعزاه».
فبكوا وقالوا: هو سيدنا أبو عبد الله الحسين؟. قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: «اخفضوا من أصواتكم فإنه وإخوانه في هذا السواد وما أحب أن يسمعوا فيحزنوا على الحسين
على إن الحسين قد علم وفهم ذلك كله، وأخبره به جده رسول الله صلى الله عليه وآله»
ثم قبض قبضة من نشر دوحات كأنهن قضبان اللجين، فاشتمها ثم ردها في أيدينا وقال: «لا تظنوا أنها من غزلان الدنيا، بل هي من غزلان الجنة، تعمر هذه البقعة وتؤنسها وتنثر فيها الطيب».
قال قيس بن سعد بن عبادة: كيف لنا بأن نرسم هذه البقعة بأبصارنا، وهذا الليل بظلمته يمنعنا من ذلك؟. فقال لهم: «هذا عسكرنا حائر لا يهتدي طريقه».
فقال له محمد بن أبي بكر: يا مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأين فضلك الكبير لا يدركنا؟ فانفرد أمير المؤمنين عليه السلام بجانب من البقعة، وصلى ركعتين، ودعا بدعوات، فإذا الشمس قد رجعت من مغربها فوقفت في كبد السماء، فهلل العسكر وكبروا وخر أكثرهم سجداً لله؛ ونظروا إلى البقعة وعرفوها وعلموا أين هي من الفرات، وهي كربلاء؛ ثم سار العسكر في الجادة وغربت الشمس (الهداية الكبرى).
- هذه جملة من الأحاديث الواردة عن العترة النبوية صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تتجلى فيها الخصوصية المكانية لتربة كربلاء.
- وبدت من خلالها الحكمة في تفضيلها على أرض مكة، بل على جميع بقاع الأرض، وأن الله حفظ بمن تضمنته تربة كربلاء، وهو الإمام الحسين عليه السلام شريعة جده المصطفى صلى الله عليه وآله.
السلام عليك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله الحسين عليك مني سلام الله أبدا"ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم
تعليق