الأسماء الحسنى لله جل جلاله ليست مجرد أسماء أو صفات تصفه بها، فهي خزائن من الأسرار والجواهر الملكوتية،
فلكل اسم من الأسماء الحسنى له من الأسرار الروحانية والميزات والخصوصيات ما ليس لغيره.
وسبر أغوار تلك البحار اللجية من المعارف واللطائف الإلهية للأسماء الحسنى نأخذها من المعصوم عليه السلام فهو الوحيد الذي يمتلك مفاتيح تلك المعرفة.
ومن الأسماء الحسنى المميزة "الصمد"، وهو اسم من أسماء الله الحسنى ورد في القران الكريم مرة واحدة فقط في قوله تعالى: (الله الصّمد) الاخلاص/٢.
والصمد في المعنى اللغوي (الذي أُصْمِدَتْ إليه الأمورُ، فلا يعتني فيها أحَدٌ غيرُه.
وصَمَدْتُ: قَصَدْتُ.
وفي العربية: الصَّمَدُ السّيِّد في قومه، ليس فوقه أحَدٌ، ولا يُقضَى أمرٌ دونه،
ويقال: هو المُصمَتُ الذي ليس بأجْوَفَ.) (١)
والمعنى الاصطلاحي للصمد لا يختلف عن المعنى اللغوي فهو يعتمد عليه أساسا.
كما وردت عدة روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تبين معنى الصمد منها ما سُئِل أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما الصمد؟ قال (عليه السلام): السيد المصمود إليه في القليل والكثير.
وفي تفسير الصمد معان أخر مروية عنهم (عليهم السلام) فعن الباقر (عليه السلام): الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه، وعن السجاد (عليه السلام): الصمد الذي إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند.) (٢)
وعن (الحسين بن على عليهم السلام أنه قال الصمد الذى لا جوف له، والصمد الذى لا ينام، والصمد الذى لم يزل ولا يزال.) (٣)
ومن الروايات أعلاه تتضح لنا جليا معاني (الصمد) المتعددة والتي تدل جميعها على عظمة الخالق سبحانه وتعالى كما تدل على هيمنته المطلقة على الكون وحاجة الخلق إليه وقصدهم إليه بالحوائج إضافة إلى دلالة نفي التشبيه والتجسيم عنه جلّ وعلا.
ومن لطائف الروايات في تفسير الصمد تفسيرا معنويا دقيقا لكل حرف من حروف هذا الاسم العظيم وكشف لنا بعض من أسراره باقر علوم الأولين والأخرين الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في رواية طويلة نقتطف منها موضع الحاجة:
(قدم وفد من فلسطين على الباقر (عليه السلام) فسألوه عن مسائل فأجابهم عنها ثم سألوه عن الصمد فقال تفسيره فيه الصمد خمسة أحرف ( فالألف ) دليل على أنيته و هو قوله عز و جل « شهد الله أنه لا إله إلا هو » و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس ( و اللام ) دليل على إلاهيته بأنه هو الله و الألف و اللام مدغمان لا يظهران على اللسان و لا يقعان في السمع و يظهران في الكتابة دليلان على أن إلاهيته بلطفه خافية لا يدرك بالحواس و لا يقع في لسان واصف و لا أذن سامع لأن تفسير الإله هو الله الذي أله الخلق عن درك ماهيته و كيفيته بحس أو بوهم لا بل هو مبدع الأوهام و خالق الحواس و إنما يظهر ذلك عند الكتابة فهو دليل على أن الله سبحانه أظهر ربوبيته في إبداع الخلق و تركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة و إذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه كما أن لام الصمد لا يتبين و لا يدخل في حاسة من حواسه الخمس فلما نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي و لطف فمتى تفكر العبد في ماهية البارئ و كيفيته أله و تحير و لم تحط فكرته بشيء يتصور له لأنه تعالى خالق الصور و إذا نظر إلى خلقه ثبت له أنه عز و جل خالقهم و مركب أرواحهم في أجسادهم و أما (الصاد) فدليل على أنه سبحانه صادق و قوله صدق و كلامه صدق و دعا عباده إلى اتباع الصدق بالصدق و وعدنا بالصدق و أراد الصدق و أما ( الميم ) فدليل على ملكه و أنه الملك الحق المبين لم يزل و لا يزال و لا يزول ملكه و أما ( الدال) فدليل على دوام ملكه و أنه دائم تعالى عن الكون و الزوال بل هو الله عز و جل مكون الكائنات الذي كان بتكوينه كل كائن ثم قال (عليه السلام) لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الدين و الشرائع من الصمد.)(٤)
في التأمل الدقيق في نص قول الإمام الباقر عليه السلام في الرواية أعلاه (لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة لنشرت التوحيد والإسلام والدين والشرائع من الصمد.)
نستنتج عدة امور مهمة:
١- علم الأئمة هو علم من الله تعالى ويسمى عندنا في علم العقائد (العلم اللّدنِّي) الذي يقذفه الله تعالى في قلوب عباده من المعصومين عليهم السلام.
٢- إن اسم الله (الصمد) فيه من الأسرار المعنوية الشيء الكثير الذي يجعل الإمام ينشر التوحيد والإسلام والدين والشرائع من الصمد لو أصاب لعلمه الذي أتاه الله حَمَلَة.
٣- بلحاظ معرفتنا أن الإمام الباقر عليه السلام عاش في عصر انفتاح العالم الإسلامي على علوم أهل البيت عليهم السلام بعد التضييق الأموي عليهم في ظل التناحر الأموي-العباسي آنذاك، وكثر عنه الرواة من أصحابه رضوان الله عليهم الذين نقلوا لنا كنوزا من المعارف الإلهية عنه عليه السلام وهو بأبي وأمي
ويتأوه ويقول (لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة)!! فأي علوم دقيقة ضاعت على الأمة الإسلامية والإمام يعيش
الغربة بين أصحابه من الرواة الثقاة المخلصين.
٤- ولأن هذه العلوم الإلهية الدقيقة هي من مختصات العصمة ندرك الآن حجم خسارتنا المادية والمعنوية في زمن غيبة إمامنا الحجة عجل الله تعالى فرجه وحجم غربة إمامنا في زمن ضاعت فيه القيم والمقاييس ابتعد الناس فيه عن علوم الدين والتوحيد بحجة التخلف وأصبحوا فيه أقرب للإلحاد بذريعة الثقافة والتحضر.!!!!
وما أحوجنا الآن لتعلم معاني وأسرار شريعتنا الإسلامية وأحكامها ومفاهيمها وأسسها وتطبيقاتها وفق علوم أهل البيت عليهم السلام التي تتعرض بدقة لكل تفصيلة من تفاصيلها كما رأينا في شروحات وتفسيرات اسم (الصمد) من أسماء الله الحسنى الذي يعتبر
بحق إكسير المعارف الإلهية.
الهوامش:
(١) راجع العين،ج٢، ص٣٤.
(٢)تفسير الميزان، ج ٢٠، ص ٢