إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

(من أوراق سجين) الوجه الثاني

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • (من أوراق سجين) الوجه الثاني


    أي سماء انظر إليها، وهذا الحاجز (السقف) صار (عصّابة) عين وقلب ؟ فأنى لي النظر فوقه، لأبحث عن هلال في كبد سماء لا أراها؟ فلذلك صرت لا انظر إلى فوق أبدا... تتعثر نظراتي عند باب سجن حقود... هل عيبٌ أن أخاف؟ وأنا الذي نشأت في حضن عائلة، تخاف عليّ من النسمات... وأين ما أذهب آخذ معي صوت أمي: ماما انتبه لنفسك... إياك أن تتشاجر... امشي بعين مفتوحة... إياك أن تقول... إياك أن.. إياك.. إياك.. حتى صرت أخشى كل شيء.. لا أصدقاء لدي.. لا احد يعرفني سوى باسم أبي.. من هذا..
    أوه أنه ابن عزيز العطار.. فالكل يناديني ابن عزيز، لا احد يعرف إن عندي أسم وهو هيثم.. اطلع من سوق النجارين لأدلف سوق النجارين.. احدث نفسي لأضحك.. ذات يوم مات جارنا، حملنا تابوته إلى المغتسل، ومن ثم إلى المقبرة.. وإذا به يعطس ليصحو ويرفع التابوت هكذا فجأة.. تساقط جميع المشيعين من العربة.. إلا أنا.. لأني كنت ميتا لحظتها تقول أمي:ـ إن ملك الموت قد توهم! كيف يتوهم ملك الموت؟ لا أدري.. أحدث نفسي لأضحك.. كانت لدينا ساعة يطلع منها بلبل يغرد عند كل رأس ساعة.. ذات يوم سمعتُ البلبل ينهق مثل الحمار.. هل فعلا ينهق البلبل أحيانا؟ سألني احدهم لِمَ أنت سجين؟
    فقلت له: لِمَ أنت سجان؟ فركلني.. ما إن أغمض عيني حتى أراهم يقفون على رأسي (طاخ ما طاخ) مشكلة انهم صاروا يتعقبون الناس، حتى في مناماتهم.. ولذلك قررت أن أقضي العمر هنا صاحيا دون نوم.. أريد أن أتحدث عن أشياء أخرى جميلة عن الطبيخ، مثلا عن المرأة والأطفال والبيت.. ذات مرة وهم يقودوني إلى التحقيق، مررنا بقاعة كبيرة في طابق علوي. وفي لحظة من لحظات الانتظار، نظرت إلى نافذة قريبة، فرأيت رجلا وامرأة يسيران سوية.. فسألت نفسي حينها وأنا ابكي.. هل ستتزوج يوما مثل الناس، ويصير عندك امرأة وأطفال وبيت؟ أم ستذهب إلى ربك هكذا أعزب؟ أنا احلم.. احلم أن اجلس على السفرة مع أهلي... سنموت من الجوع، ما نأكله من ضرب واهانات، أضعاف ما نأكله من طعام، أي واقع نعيشه أو نتحدث عنه بشفافية وتفهم وثقافة؟ إن منظر المرأة وهي تبكي، يرق له القلب والعاطفة والحنان، لكن أي واقع كافر.. هذا الذي نسمع فيه إلا بكاء الرجال و(آخ ما آخ...؟) المعروف حين يموت شخص ما ينادي المنادي: (أخواني المؤمنين، انقلوا أقدامكم إلى مغتسل المخيم، لتشييع جثمان المرحوم المغفور له) وهنا من يموت لا ندري أين يدفنوه.. يقولون: إن هناك مقابر خاصة.. أحواض تيزاب مثلا.. ثرامات لحم.. ثلاجات المستشفيات.. ليزجونا مع جثث (اقرب حادث مروري).. و.. و.. مثل هذه الأمور.. ويقولون إن السجين في الخارج، عنده سرير خاص، وغرفة مؤثثة، فيها ثلاجة وتلفزيون ومكتبة وتليفون، ويعطونه سكائر، وتغذية درجة أولى، وراتب سجين... راتب سجين يعني هناك عندهم وظيفة كبيرة اسمها سجين، تعادل عندنا درجة سفير فما فوق، ونحن لا نعرف في أي فصل من فصول السنة نعيش..
    أتحدث وأنا ادري إن الكلام لا يمنحني حريتي.. دائما احمل لأمي حكمة.. تقول: إن الإنسان الذي لا يحمل ضميرا يؤنبه عند ظلم الآخرين، فلا خير فيه، والشرطي يضربني كأنه يقتص مني دم أبيه.. دون أن يوجعه ضميره أو يؤنبه..
    يضرب.. يضرب.. ولا يدعني إلا بعد إن افتعل السقوط!! المشكلة أنهم يرون في كل وليد جنازة، ونحن نرى في كل جنازة وليدا... هذا القول لأمي.. ومن له أم مثلها لا يخاف. أنا أخاف على من معي، أكثر مما أخاف على نفسي، رغم إن شراسة هؤلاء الوحوش تخيف الجبال.. لكني مهضوما أسأل لماذا نهان؟ نضرب؟ نداس بسنابك خيل هوجاء؟
    رفضتُ أكثر من فرصة للسفر... لأن أمي ترى إن الأرض أينما رحلتُ هي ضيقة بلا وطن.. لم اقل لأحد عن سر مجيئي أبدا.. لكن هذا الصفاء يلهب الحماسة والصدق والشجاعة.. كان أبي الحاج عزيز العطار رحمه الله، رجل مروءة، وشهامة ودين.
    رأيناه يوما والحزن يأكله.. أبي لم يشأ أن يخبرنا بما يعاني أو بما يريد.. لم نسمع منه سوى همسات وعيد محكم النبرات، مثل (الصباح رباح).. (بسيطة).. سأريهم من الحاج عزيز العطار.. أبي يحتفي وحده بالقرار.. نادمت أمي الصمت دون أن تبوح بشيء.. يا ولدي إن صدور الرجال صناديق مقفلة، هي خزين ألم وهم.. وانطلق الوجد رايات.. سمعنا الصبح من يقول: إن شيخ الجامع قد شاخ، فاعتزل البيت دون صلاة.. يا سبحان الله رجل بين ليلة وضحاها يشيخ..
    شظايا وعيد أقفلت أبواب الله.. وأبي يلملم بقايا الصوت مئذنة.. الله اكبر.. وهب الناس صفوفا خلف النداء.. وهناك من كان يتربص السجدة، فيطبر هامة الدعاء.. رفعوا أبي راية من رايات السنا..
    تقول أمي: أبوك يحتاج إلى ارض بحجم قلبه، ولذلك رحل شهيدا.. أش.. لا تبكوه.. لا تنصبوا له مأتماً لا.. لا.. وحسنا فعلوا كما تقول أمي: شاء الله أن يرحل أبوك، كما الشهداء بصمت.. هندمتني بعد ذلك أمي، لأسعى خادما لفيض كل دعاء.. سيدي أنا أريد أن أكمل مشوار أبي، واخدم هذا المجد عنوان وفاء، فأنا ابن هذا الدم الذي سال زهوةً على عتبات مسجد من مساجد الله.. أنا.. أنا.. أنا.. لا.. قاطعني الشيخ الجليل: عد إلى أمك يا ولدي، فلم يزل الجرح ندياً على قلبها المفجوع بالحسرات..
    قلتُ: سيدي هي التي هندمتني إليك.. أمي.. أمي التي تخاف عليّ من النسمة والأرض، هي ذي تجندني زاد فداء.. وإذا بلحظة من لحظات المخاض.. لا ادري كيف تحول الفتى المدلل الخائف إلى رجل مقدام يرفض المهانة، وهو يرى شيخ الجامع نائما، قرب خطوته، ملطخا بالدماء.. ارتعدت فرائصي حينها غضبا، فأرديت الضابط قتيلا... وإذا بأمي تطلق خلفي زغرودة فرح ودمع وداع.. واجتمعت عليّ أكوام الدمى الحجرية من كل صوب.. هذا يضرب وذاك يرفس، وذاك يعض كما الكلب يعض... وها أنا ارتحل من سجن إلى سجن... لأكتشف معنى الإنسان.. فتعلمت أن على السجين آن يخاف... لابد له من الخوف كي يسلم ويعيش.. ورغم هذا الألم، هناك شيء ما يشدني إلى الفرح الجميع هنا يناديني.. هيثم..
    نعم أنا هيثم أنا هيثم عزيز العطار...​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X