لإمامة كل إمام من ائمة أهل البيت ؏ عصرها وظروفها الخاصّة وطبيعة الأحداث التي مرّت بها ، وهذا الأمر بدوره ينعكس على أسلوب الإمام وطريقته في إدارة واداء مهام تلك الإمامة ، ولهذا تختلف إمامة عليّ بن الحسين - موضوع البحث - عن إمامة باقي الائمة عليهم السلام لإختلاف عدد من الحيثيات ، ميّزتها وفرضت عليها لون معيّن من السيرة ، ومن تلك الحيثيات التي تختصّ بها إمامته عليه السلام :
١. قد تولّى الإمامة عليه السلام بعد إبادة جماعية لأهل بيته وخلّص أصحابهم ، سواء ما حصل في كربلاء - وهو المصاب الأعظم - أو ما حصل في واقعة الحرّة ، ولقد ثبّت عليه السلام هذه الحيثية وإختصاص عصره بها في أول كلمة له في المدينة بعد رجوعه من الأسر ، حيث قال مخاطباً أهل المدينة :{ أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين .. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، ان هذا إلا اختلاق .. } اللهوف ٧٦ .
٢. فرعنة يزيد ابن معاوية وزمرته على الأمّة الإسلامية بشكل عام وثوران طغيانه وظلمه وبشكلٍ لم يعهده المسلمون من قبل ، فبعد واقعة كربلاء وسبي ذراري النبوة .. انتهك جريمة واقعة الحرة وأباح المدينة المنورة ثلاثة أيام والتي قتل فيها الآلاف ، وكذلك ما قام به من هجوم على مكة المكرمة وإحراق للكعبة المشرفة .. !!
٣. انفجار ثورات كبيرة مُطالبة بدم الإمام الحسين عليه السلام في عصره عليه السلام والتي سبّبت ضغطاً سياسياً وأمنياً واجتماعياً وحتى اقتصادياً على الإمام عليه السلام ، كثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي ، وقيام المختار بن أبي عبيد الثقفي رضوان الله عليهما ..
٤. بعد واقعة كربلاء بدأت الشيعة تتبلور وتتكتل بتكتلات ذات صبغة مغايرة عمّا قبل كربلاء ، فالصبغة السياسية المعارضة والصفة الثورية المطالبة بدماء كربلاء وصفة المظلومية عموماً .. وغيرها مما بدأت تتميز به الجماعة والفرقة الشيعية على وجه الخصوص ..
٥. الحزن كان مخيّماً على شخصية الإمام عليه السلام . يقول الإمام الصادق عليه السلام : أن زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة .. ( الوسائل ج٣ ص٢٨٢ )
هذه الحيثيات - وغيرها - كان لها دخل في تحديد الصفة العامّة لإمامة السجاد عليه السلام والأسلوب الذي إتخذه صلوات الله عليه في القيام بمهام ووظيفة القيادة الإلهية للأمّة ، خاصة في السنوات الأولى من إمامته .
فلم تعد الأمة الإسلامية بعد خذلانها للإمام الحسين ؏ في واقعة الخذلان الكبرى في كربلاء كما كانت قبلها حتى تسافلت الى حضيض الدرجات وعلى جميع المستويات الدينية والأخلاقية والعلمية والإنسانية ..
فأصابتها ويلات القتل والتشريد وانتهاك الحرمات ، وخاصة في الحرمين الشريفين ، مدينة رسول الله ومكة المكرمة كما حصل في وقعة الحرة ( وهي المعركة التي وقعت سنة 63 هـ بين الثائرين من أهل المدينة بقيادة عبد الله بن حنظلة وجيش الشام المبعوث من قبل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بقيادة مسلم بن عقبة المرِّي ، وقد قتل الكثير من أهل المدينة في هذه المعركة منهم 80 صحابياً و700 حافظاً للقرآن ، كما استبيحت المدينة ثلاثة أيام ، وسلبت خلالها أموال الناس ، وانتهكت الأعراض من قبل جيش الشام .. ثم توجه الجيش إلى مكة فمات أميرهم مسلم بن عقبة ، وقام بإمرة الجيش الشامي حصين بن نمير فحاصر ابن الزبير بمكة ورموا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية فرجعوا إلى الشام ) ..
وأمّا المستوى الأخلاقي للمجتمع فتسافل هو الآخر الى مستويات بشعة ، فإنتشر الغناء والفجور في جميع البلاد الاسلامية وخاصة في مكة والمدينة ، يقول أبو الفرج الاصفهاني في العقد الفريد : ( إن الغناء في المدينة لا يُنكره عالمهم ولا يدفعه عابدهم .. وكان العقيق إذا سال وأخذ المغنّون يلقون أغانيهم لم تبق في المدينة مخبّأة ولا شابة ولا شاب ولا كهل الا خرج ببصره ليسمع الغناء .. )
وأما الحياة العلمية فقد شلّتها سياسة التجهيل الأموية حتى وصل المجتمع الى حالة لا يفقهون فيها صلاتهم ، يقول أنس بن مالك عن ذلك - على ما رواه البخاري والترمذي - : ما أعرَفَ شيئاً مما كان على عهد رسول الله ؟ قيل : الصلاة . قال : أليس صنعتم ما صنعتم فيها .
وبعد عصر أنَس بقليل نجد الحسن البصري يقول : لو خرج عليكم أصحاب رسول الله ما عرفوا منكم إلا قِبْلتكم .
في ظل الظروف الخاصة التي يمرُّ بها أهل بيت النبوّة وشيعتهم والظروف العامة التي يمرُّ بها المجتمع المسلم في عصر الإمام السجاد عليه السلام والتي ألمحنا لها بإجمال وإختصار قبل قليل .. أرتسمت الملامح الرئيسية لإمامته عليه السلام وفرضَ الواقع حدودَ خارطة المساحة التي يعمل بها الأمام ؏ ويؤدي بها رسالته وكذلك تعيينَ نوع وهيئة ذلك العمل .. فحفلت سيرته الشريفة بظواهر بارزة ، منها :
» الجانب العبادي والروحي ، فكان لهذه الظاهرة الحصة الأكبر من سيرته ، قال اليعقوبي في تاريخه ( ٣: ٤٦ ) : كان أفضل الناس وأشدّهم عبادة ، وكان يسمّى زين العابدين ، وكان يسمّى ذا الثفنات ، لما كان في وجهه من أثر السجود ..
» كما أن للجانب العلمي حصة كبيرة ، قال الشيخ المفيد في الإرشاد : وقد روى فقهاء العامّة من العلوم ما لا يُحصى كثرةً ، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيّام ما هو مشهور بين العلماء ..
» وينقل المؤرخون عنه قصصاً عجيبة في السخاء والكرم ومساعدة الفقراء في السرّ والعلن .. وفي مقابل ذلك كان أزهد الناس حتى أن الزهري ( تابعي ) سُئل عن أزهد الناس فقال : علي بن الحسين .
» وكانت ظاهرة إعتاق العبيد من الظواهر الإنسانية الواضحة في سيرته الشريفة ، فكان يشتري العبيد ويعلّمهم أحكام الدين ثم يغنيهم من ماله ويعتقهم بعد ذلك ..
وغيرها من الظواهر التي فصلّتها كتب التراجم ، تركناها اختصاراً ، ولا ينبغي أن ننظر لها بجانبها الشخصي وحيثيتها الفردية للإمام بقدر ما كانت أسلوباً أتبعهُ عليه السلام في تربية الأمة وترسيخ مبادىء وآداب الإسلام وفق طبيعة الظروف والإمكانيات المتاحة ، وكذلك بما ينسجم وحاجة المجتمع الإسلامي وقتئذ ..
واقعة بحجم الطف وبحجم تضحيّاتها ، لا تحتاج الى الإستنساخ مرةً أخرى بقدر ما تحتاج الى إستثمار حقيقي لها والحفاظ على معطياتها وتأمين استمرارية ذلك العطاء جيلاً بعد جيل لحين تحقيق الفتح الكامل الذي تنبّأ به بطلها أبو عبدالله عليه السلام ..
فالتثقيف على فلسفتها ومنطلقاتها ، والعمل على تحقيق أهدافها ، وبيان حجم مظلوميتها ، ورفع الأقنعة عن مجرميها ، والمحافظة على حرارتها وفاعليتها في الأمّة ، وتكييف القضية الحسينية بما ينسجم وعامل الزمان والمكان لتبقى حيّة في ضمير الأمّة وواقعها .. هو الواجب الأهمّ ما بعد واقعة الطف ، وهذا الذي سار عليه أئمة أهل البيت وشيعتهم الى يومنا هذا ..
ولعل دور الإمام السجاد ؏ في هذا الجانب هو الأوضح والأبرز ، بحكم دوره التأسيسي لهذا المسار ، فكشف عليه السلام الكثير من أوراق كربلاء وللطرفين ( الظالم والمظلوم ) ، وهو أول من دقَّ مسامير نعش الانتصار الأموي الموهوم ، وهو من أصّلَ ظاهرة الحزن والبكاء على أبي عبدالله ؏ حتى عُدَّ من البكائين الخمسة .. فهو شاهد الواقعة وشهيدها الحيّ صلوات الله وسلامه عليه ..
ومما يرجّح هذا الدور على دور إعادة انتاج كربلاء هو صعوبة تأمين عناصر ومقومات هذا الانتاج المكرر ، ولهذا عندما قال له عبّاد البصري وهو في طريق مكة : ( يا علي بن الحسين ، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه ، وإن الله عز وجل يقول - إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم .. - ) فقال له الإمام : ( أتم الاية - التائبون العابدون الحامدون السائحون .. إذا ظهر هؤلاء الذين صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج ) .
فيمكننا القول بأنَّ أي دور يقوم به الائمة بعد كربلاء ولم يكن بحجم كربلاء سيكون مقوّضاً للقضيّة الحسينية ومضعّفاً لدورها ومُهدراً لطاقاتها التي عبّأت بها الأمّة وأودعتها في ضمير أبناءها وعلى جميع الأصعدة ..
ولهذا لم نجد الائمة عليهم السلام قد تفاعلوا مع ثورات الثأر والتوبة التي إندلعت بعد واقعة الطف تفاعلاً قيادياً ، فموقفهم إتجاهها في أعلى درجاته هو الإمضاء والرضا الخفيّ وأحياناً إبداء النصيحة بعدم القيام أصلاً كما في ثورة عبدالله بن الحسن المثنى الذي أشار عليه الإمام الصادق ؏ بعدم حصوله على ما يصبو إليه من ثورته وأنَّ ما يدعوا إليه لم يحن أوانه ..
وعندما كاتب المختار الإمام زين العابدين ؏ فيما يخص ثورته لم يُعلن الإمام عن تأييده الصريح ، في حين يقول المؤرخون : إنّ الإمام عليه السلام لم ير ضاحكاً منذ أن إستشهد أبوه إلا في اليوم الذي رأى فيه رأس ابن مرجانه الذي أرسله إليه المختار ..
أوضحنا ضمن هذه المقالة السريعة بعض جوانب إمامة علي بن الحسين زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام .. آجركم الله بذكرى شهادته في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام وأحسن لكم العزاء ..