قد يتساءل مستغرب : ما العلاقةُ بين المواعظ الحسينيّة والأخلاق ؟! أليست المواعظُ والحِكَمُ تُدرجُ في حقل العلوم والمعارف ؟
الجواب : نعم , هي كذلك تُدرَجُ في العلوم والمعارف , ولكنْ نتساءل نحنُ في المقابل : أليستِ السُّنَّةُ النبويّةُ المطهّرة قد امتدّتْ بأمر الله سبحانه وتعالى وحكمته ومشيئته في سُنَّةِ أهلِ بيته (عليهمُ السّلام) ؟
أليستْ السنّةُ النبويّة على ثلاث صور :
1 ـ فعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
2 ـ قوله
3 ـ تقريره ؟
ألَمْ يكنْ للنبيّ (صلّى الله عليهِ وآلِهِ) في هذه الصور الثلاث توجيهاتٌ أخلاقيّةٌ للاُمّة ؟ حيث صدرتْ منه أفعالٌ في مكارم الأخلاق , وأقوالٌ في محاسن الأخلاق , وإقرارٌ وتبريكٌ وتشجيع لمَنْ صدرَ منه خلُقٌ طيّب , أو بانتْ منه صفةٌ أخلاقيّةٌ حميدة .
فالمصطفى الأكرم (صلّى الله عليهِ وآلهِ) كان كريماً , وكان يدعو إلى الكرم ويشوّق إليه , مبيّناً فضائلَه , ورذائلَ البخل . ويوم جيء بالاُسارى إليه أمر (صلّى الله عليهِ وآلِه) عليّاً (عليه السّلام) بضرب أعناقهم ؛ إذْ كانوا قد حاربوه وقتلوا المؤمنين , ثمّ أمره بإفرادِ واحدٍ من الأسرى المشركين لا يقتله , فقال الرجل : لِمَ أفردتني من أصحابي والجنايةُ واحدة ؟!
فأجابه (صلّى الله عليهِ وآلِه) قائلاً : (( إنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إليَّ أنّك سخيُّ
قومِك , ولا أقتلك )) .
فقال الرجل : فإنّي أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ الله , وأنّك رسولُ الله .
قال : فقاده سخاؤه إلى الجنّة(1) .
* وجاء عن الإمام محمّد الباقر (عليه السّلام) أنّه اُتي النبيّ (صلّى الله عليهِ وآلِه) باُسارى , فأمر بقتلهم وخلّى رجلاً من بينهم , فقال الرجل : كيف أطلقتَ عنّي من بينهم ؟!
فقال : (( أخبرني جَبرئيلُ عنِ الله (جلَّ جلالُه) أنَّ فيك خمسَ خصالٍ يُحبُّها الله ورسولُه ؛ الغَيرةُ الشديدةُ على حرمِك , والسخاء , وحُسْنُ الخلُق , وصدقُ اللسان , والشجاعة )) .
فلمّا سمعها الرجلُ أسلمَ وحسُنَ إسلامُه , وقاتل مع رسولِ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) قتالاً شديداً حتّى استُشهد(2) .
* ورأى النبيّ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) أبا أيّوب الأنصاريّ (رضوانُ الله عليه) يلتقطُ نُثارةَ المائدة , فقال (صلّى الله عليهِ وآلهِ) : (( بُورِكَ لك , وبُوركَ عليك , وبُورك فيك ))(3) . فدعا له (صلّى الله عليهِ وآلِه) ؛ لأنّه عمِل مستحَبّاً , وكان منه التواضعُ واحترامُ نعمةِ الله (عزَّ وجلَّ) .
وأهلُ البيت (سلامُ الله عليهم) كانوا يباركون لِمَنْ تصدُرْ منه بادرةٌ أخلاقيّة إيمانيّة ؛ فيومَ عاشوراء التفتَ أبو ثمامةَ الصائدي إلى الشمس قد زالتْ ـ أي حَلّ وقتُ الظهر ـ , فقال للحسين (عليه السّلام) : نفسي لكَ الفداء ! إنّي أرى هؤلاءِ قد اقتربوا منك , لا والله لا تُقتَلُ حتّى اُقتلَ دونك , واُحبّ أنْ ألقى الله وقد صلّيتُ هذه
ـــــــــــــــــ
(1) الاختصاص ـ للشيخ المفيد / 253 .
(2) الخصال ـ للشيخ الصدوق / 282 .
(3) مكارم الأخلاق / 146 .
الصفحة (31)
الصلاةَ التي دنا وقتُها .
فرفع الحسين (سلام الله عليه) رأسَه إلى السماءِ وقال : (( ذكرتَ الصلاة , جعَلَكَ الله مِنَ المصلّينَ الذَّاكرين . نعم هذا أوّلُ وقتها , سَلُوهم أن يكفُّوا عنّا حتّى نُصلّي ))(1) .
فدعا (عليه السّلام) له ؛ لأنّه ذكر الصلاةَ في أوّلِ وقتها ؛ اعتناءً بها , واهتماماً بطاعةِ الله (عزَّ وجلَّ) كما يُحبّ , وممّا يُحبّه سبحانه الصلاةُ في أوّل وقتها . فالتشجيعُ على الواجبات والمستحبّات والفضائل هو من الأخلاق الحميدة ؛ لأنّه سببٌ لأنْ تسودَ السننُ الشريفة والأخلاقُ الكريمة .
ولا يفوتنا أن نقول : إنَّ الإمامةَ هي الامتدادُ الإلهيُّ والشرعيُّ للنبوّة , وبما أنَّ السُّنَّةَ النبويّةَ سُنَّةٌ مطهَّرةٌ معصومة , كذلك سُنّةُ الأئمّةِ الأطياب . فالأخلاقُ عندهم تظهرُ مَرَّةً في صورةِ فعل , ومرّةً اُخرى في صورةِ وعظٍ وإرشاد , ومرّةً ثالثة في صورةِ تقرير .
ثمّ لا ينبغي أنْ يفوتَنا أنَّ الوعظَ هو قول , والقولُ هو من العمل , فكما يكون الاعتداءُ على المؤمنِ البريء بالضربِ حراماً , كذلك شتمُه بالقول حرام , وكما يكونُ الدرهمُ والدينارُ صدقةً , كذلك الكلمةُ الطيّبةُ صدقة , وكما تكون الغلاّتُ والأموالُ زكاةً , كذلك العفو ؛ فقد جاء عن الإمام عليٍّ (عليه السّلام) أنّه قال : (( العفوُ زكاةُ القدرة ))(2) .
وقد قال رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) يوماً لأصحابه : (( أيعجزُ أحدُكم أن يكونَ كأبي ضمضم ؟ )) .
قيل : يا رسولَ الله , وما أبو ضمضم ؟
قال : (( رجلٌ ممّنْ قبلكم , كان إذا أصبح يقول : اللهمَّ إنّي تصدّقتُ بِعرضي على
ــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 2 / 17 .
(2) غرر الحكم / 22 .
الناس عامّة ))(1) . فيكون عفوه عن إساءات الناس صدقةً له عليهم .
ومن هنا نفهم أنَّ القولَ هو من الفعل , وإلاّ لَمَا حرّمَ الله تعالى الغيبةَ والنميمة , والكذبَ والبذاء ... وهي أقوال , ولَما قال النبيُّ الهادي (صلّى الله عليهِ وآلِه) : (( إنَّ مَنْ حَسِبَ كلامَه مِن عمله قلَّ كلامُه إلاّ فيما يَعنيه ))(2) , ولَما قال أيضاً : (( مَن لم يحسب كلامَه مِن عملِه كثُرتْ خطاياه , وحضر عذابُه ))(3) .
إذَاً فإنَّ الكرمَ والغَيرةَ والعفوَ من الأخلاق ؛ إذ هي أفعال ومواقف , والدعوةُ إليها باللسان والتشويقُ لها والتشجيعُ عليها كذلك من الأخلاق .
ومن هنا رأينا أهلَ البيت (سلام الله عليهم) لم يكتفوا بدعوةِ الاُمّة إلى الأخلاق الفاضلة من خلال أفعالهم وسيرتهم , إنَّما واصلوا ذلك من خلال وصاياهم وحكمِهم وإرشاداتهم , وتوجيهاتهم ومواعظهم , وهذا أيضاً من الأخلاق الفاضلة ؛ لأنَّ الدعوةَ إلى الأخلاق هي من الأخلاق , بل هي كرم ؛ لقول الإمام عليّ (عليه السّلام) في غرر الحكم : (( النصيحة من أخلاق الكرام )) .
فالقول كالفعل تترتّبُ عليه الآثار ؛ طيّبةً حميدة , أو سيّئةً مذمومة ؛ كالسرقة والكذب كلاهُما مخرّبانِ للمجتمع وإن كانتِ السرقةُ عملاً والكذبُ قولاً , وكالصدقةِ والسّلام كلاهما ينشرانِ المحبّة في المجتمع وإن كانتِ الصدقةُ فِعْلاً والسلامُ كلاماً .
وهنا نسأل : أليستْ مواعظُ الإمامِ الحسين (سلام الله عليه) تنمّ عن شفقة الحسين (صلواتُ الله عليه) على الاُمّة , ورأفتِه بالمؤمنينِ , ورحمتِه بالناس , وحرصِه عليهم أن يسلكوا سبيلَ الهدايةِ والخير , والفضيلةِ والسّلام , ويتجنّبوا
ــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الشريعة ـ للإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) ـ الباب 70 في العفو / 158 .
(2) معاني الأخبار ـ للشيخ الصدوق / 334 .
(3) الكافي 2 / 115 .
خطُواتِ الشيطان المُؤدّيةِ إلى الضلالِ والشرّ , والباطل والفساد ؟
أليستْ تدلُّ مواعظُ الإمام الحسين (عليه السّلام) على اهتمامه الغيور بأن يوفَّق الناسُ جميعاً إلى الفوز بالسعادتين ؛ الدنيويّة والاُخرويّة ؟
إذَاً كانت مواعظُه أخلاقاً ؛ حيث عبّرتْ عن حالاتٍ أخلاقيّة مِلْؤها الطيبةُ والإنسانيّةُ في أرقى آفاقها ؛ فقد نوى خيراً , وعمِلَ خيراً ؛ إذ نفع الناس أجيالاً متتابعةً متعاقبة , فكان خيرَ الناس , لا سيّما وقد خلُصتْ نيّتُه لله (عزَّ وجلَّ) , وبرِئتْ من كلّ شائبة وخاطرة , شاردة أو واردة تبتعد عن طلب مرضاةِ الله , أو تقصدُ غيرَ وجه الله .
ولكي نتعرّف على أخلاق الإمام الحسين (عليه أفضلُ الصلاة والسّلام) من خلال مواعظه , وحكمِه وبياناته , تعالوا نطالعْ بعقلٍ متبصّر , وقلبٍ نيّر , وروحٍ متفتّحة هذه الروايات الشريفة , وتلك الجُمَلَ المُنِيفة التي تُخبِرُنا عن مواقفَ متعاليةٍ سامقة في دنيا الأخلاق , معبِّرة عن طيبةِ الإمام الحسين (عليه السّلام) , إضافةً إلى تعبيرها عن علمِه الجمّ ومعرفته النورانيّة .
وهنا ـ وقبل عرض الأخلاق الحسينيّة ـ يحسُن بنا أن نعرف :
أوّلاً : أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان سلوكُه كلُّه أخلاقاً قويمةً طيّبة , شَهِدَ بذلك العدوُّ والصديق , حتَّى إنَّ مُبغضيه لم يستطيعوا أن يظفروا بشيءٍ يعابُ فيه , بل لم يملكوا إلاّ أن يمدحوه ويُثنوا عليه ـ والفضلُ ما شهِدتْ به الأعداءُ ـ , وما كان منهم إلاّ التعبير عن حسدِهم له , وحسدُهم دالٌّ على فضلهِ عليهم .
وهذا التاريخ , رغم تسليطه لأضوائه على الإمام الحسين (عليه السّلام) باعتباره شخصيّةً كبيرة لم يدوّنْ عليه إلاّ الفضائلَ والمناقب والمكارم ؛ فالأخلاقُ الإلهيّةُ تجسّدتْ فيه فعبّر عنها بشخصه الشريف قبل منطقِه
الحكيم ؛ لذا جاءت مواعظُه نافعةً أبلغَ النفع , مؤثّرةً أبلغَ التأثير , ليس في زمانه فحسب , بل تعدّتْ حدود القرون والعصور , ثمَّ إنَّها جاءت مفصحةً عن مطاليب الشريعة الإسلاميّة وغاياتها .
ثانياً : اتّسمت أخلاقُ الإمام الحسين (سلام الله عليه) بالحكمة والمُراعاة , فكانت موزونةً أدقَّ وزن ؛ تُراعي الظروفَ الموضوعيّة , وتراعي حالةَ السامع والناظر من حيث مستواه وطبيعته , ومدى استعداده وتقبّله ؛ لذا نجدُها أساليبَ مفيدةً في التربية والتوجيه , والإرشادِ والتعليم .
لنتأمّلْ مَثَلاً في هذه الرواية :
* عن الرُّويانيّ أنَّ الحسنَ والحسين (عليهما السّلام) مَرَّا على شيخٍ يتوضّأ ولا يُحسن , فأخذا في التنازع ؛ يقول كلُّ واحدٍ منهما : (( أنت لا تُحسن الوضوء )) , فقالا : (( أيُّها الشيخ , كُن حَكَماً بيننا , يتوضّأ كلُّ واحدٍ منّا )) . فتوضّأا ثمّ قالا : (( أيُّنا يُحسِن ؟ )) .
قال : كلاكُما تُحسنانِ الوضوء , ولكنَّ هذا الشيخَ الجاهلَ هو الذي لم يكن يُحسن , وقد تعلّمَ الآنَ منكما , وتابَ على يديكما ببركتكما وشفقتكما على اُمّةِ جدِّكما(1) .
أيُّ أخلاقٍ هي ! وهما صغيران لم يُحرِجا شيخاً يتوضّأ ولا يعرف كيف ينبغي أن يتوضّأ , فعلّماه دونَ أن يخدشا شعوره !
يقول العالِم الفاضل الشيخ جعفر التُّستَريّ (أعلا الله مَقامه) : رأى رجلاً لا يُحسن الوضوء , فأراد أن يُعلّمَه , فاستحى من ذُلِّه حين يتعلّم , فقال لأخيه : (( نحن نتوضّأ قُدّامَه , ثمّ نسألُه أيُّ الوُضوءينِ أحسن )) . ففعلا ذلك , فقال الأعرابيّ : كِلاكُما تُحسنانِ الوضوء , وأنا
ــــــــــــــــــــ
(1) مناقب آل أبي طالب ـ للشيخ الفاضل ابن شهر آشوب 3 / 400 .
الجاهلُ الذي لا أعرف(1) .
وكأنّه (عليه السّلام) رأى الناسَ يملّون النثر , ويأنسون بالشعر , ويستعذبون الكلامَ المقفّى الموزون حتّى ليبقى في ذاكرتهم عقوداً من الزمن , فجاراهم وجاء لهم بالحكم والمواعظ في صيغٍ شعريّة جميلةٍ وواضحة .
فَمِمَّا نُسب إليه ودوّنه التأريخ , قولُه (سلام الله عليه) :
إذا جادتِ الدنيا عليكَ فَجُدْ بها على الناسِ طُّرَّاً قبلَ أن تتفلَّتِ
فلا الجُودُ يُفنيها إذا هي أقبلتْ ولا البُخلُ يبقيها إذا ما تولَّتِ(2)
هذا في الحثِّ على الجودِ , أمَّا في الاستغناءِ بالله تعالى عن الناس , فقد قال (عليه السّلام) :
اغْنَ عَنِ المخلوقِ بالخالقِ تُغْنَ عنِ الكاذبِ والصادقِ
واسترزقِ الرحمنَ مِن فضلِهِ فليس غيرُ الله من رازقِ
مَنْ ظنَّ أنَّ الناسَ يُغنونَهُ فليس بالرحمنِ بالواثقِ
أو ظنَّ أنَّ المالَ مِن كسبِهِ زلَّتْ به النعلانِ من حالقِ(3)
وقال (عليه السّلام) في اللجوءِ إلى الله تعالى :
إذا ما عضّكَ الدَّهرُ فلا تجنحْ إلى الخَلْقِ
ولا تسألْ سوىْ اللهِ تعالى قاسمِ الرزقِ
فلو عشتَ وطوّفتَ مِنََ الغربِ إلى الشرقِ
لما صادفتَ مَن يقْدِ رُ أن يُسعِدَ أو يُشقي(4)
ـــــــــــــــــــ
(1) الخصائص الحسينيّة ـ للشيخ جعفر التستريّ / 22 .
(2) تاريخ مدينة دمشق ـ لابن عساكر 4 / 325 .
(3) المصدر نفسه .
(4) كشف الغمّة ـ للإربليّ 2 / 185
ولمّا زار مقابرَ الشهداء بالبقيع قال (عليه السّلام) :
ناديتُ سكّانَ القبورِ فاُسكِتُوا فأجابني عن صمتِهمْ ندْبُ الحشا
قالتْ أتدري ما صنعتُ بساكني مزّقْتُ جثماناً وخرّقْتُ الكِسا
وحَشَوْتُ أعينَهم تراباً بعد ما كانتْ تَأذّى باليسير مِنَ القذا
أمّا العظامُ فإنّني مزّقْتُها حتّى تباينتِ المفاصلُ والشَّوىْ
قطّعتُ ذا مِن ذا ومِن هذا كذا فتركتُها ممّا يطولُ بها البِلى(1)
كلماتٌ رشيقة , وعباراتٌ عذبة , ومعانٍ عالية في صورٍ مُؤنسة أثمرتْ عن أبياتٍ واضحةٍ سهْلةِ الحفظ , من شأنها أن تبقى في خاطر السامع تتردّد على ذاكرته حتّى ترسخ قيمُها الأخلاقيّة والعقائديّة فتنعكس سلوكاً صحيحاً , وموقفاً مُحقّاً .
والآن نذهب إلى المنبر الحسينيّ الواعظ , حيث نستمعُ إلى ما يجودُ به علينا من كلماتٍ راشدة , وحِكَمٍ باصرة , ووصايا ذاتِ عبر ...
خطب الإمام الحسين (عليه السّلام) يوماً فقال : (( يا أيُّها الناس , نافسُوا في المكارم , وسارعوا في المغانم ... واعلموا أنَّ حوائجَ الناسِ إليكم من نِعَمِ الله عليكم , فلا تملّوا النِّعَمَ فتحور نِقَماً . واعلموا أنَّ المعروفَ مُكْسِبٌ حمْداً , ومعقبٌ أجراً , فلو رأيتُمُ المعروفَ رجلاً رأيتمُوه حسَناً جميلاً يسرُّ الناظرين , ولو رأيتُمُ اللُّؤمَ رأيتمُوهُ سمجاً(2) مشوَّهاً , تنفرُ منه القلوب , وتغضّ دونه الأبصار .
أيُّها الناس , مَن جادَ سادَ , ومَن بَخِلَ رذل . وإنَّ أجودَ الناسِ مَن أعطى
ـــــــــــــــــــ
(1) تاريخ مدينة دمشق ـ لابن عساكر 4 / 325 .
(2) السمج : القبيح والخبيث .
مَن لا يرجوه , وإنَّ أعفى الناس مَن عفا عن قُدرة , وإنَّ أوصلَ الناسِ مَن وصلَ مَن قطعَه .
والاُصولُ على مغارسها بفروعها تسمو ؛ فمَن تعجّل لأخيه خيراً وجدَه إذا قدِم عليه غداً , ومَن أرادَ الله تبارك وتعالى بالصنيعةِ إلى أخيه كافاه بها في وقتِ حاجته , وصرفَ عنه من بلاءِ الدنيا ما هو أكثرُ منه , ومَن نفّسَ كُربةَ مؤمنٍ فرّج الله عنه كُرَبَ الدنيا والآخرة , ومَن أحسنَ أحسنَ الله إليه , والله يُحبُّ المحسنين ))(1) .
قال الإربليّ : هذا الفصلُ من كلامه وإن كان دالاّ على فصاحته , ومُبِيناً عن بلاغته , فإنَّه دالٌّ على كرمِه وسماحتِه وجُودِه , مُخْبِرٌ عن شرفِ أخلاقِه وسيرته , وحُسنِ نيّتِه وسريرتِه , شاهدٌ بعفوه وحلْمِه وطريقته ؛ فإنَّ هذا الفصلَ قد جمع مكارمَ الأخلاق , لكلّ صفةٍ من صفاتِ الخير فيها نصيب , واشتمل على مناقبَ عجيبةٍ , وما اجتماعُها في مثْلِه بعجيب .
وجاء في قصار الجمل هذه الحِكَمُ الجميلة :
ـ (( الصدقُ عزٌّ , والكذبُ عجز , والسرُّ أمانة , والجوارُ قرابة , والمعونةُ صدقة , والعملُ تجربة , والخُلقُ الحسَنُ عبادة , والصمتُ زين , والشُّحُّ فَقْر , والسخاءُ غِنى , والرفْقُ لُبّ ))(2) .
ـ (( شرُّ خصالِ الملوك الجُبنُ مِنَ الأعداء , والقسوةُ على الضعفاء , والبخلُ عند الإعطاء ))(3) .
ـــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمّة 2 / 241 , 242 , والفصول المهمّة ـ لابن الصبّاغ المالكيّ / 178 , ووسيلة المآل ـ لباكثير الحضرميّ المكّيّ الشافعيّ / 182 .
(2) لمعة من بلاغة الحسين (عليه السّلام) / 104 .
(3) المناقب 4 / 65 .
ـ وقال (عليه السّلام) لرجلٍ اغتابَ عنده رجلاً : (( يا هذا , كُفَّ عنِ الغيبة ؛ فإنَّها أدامُ كلابِ النار ))(1) .
ـ (( إيّاك وما تعتذرُ منه ؛ فإنَّ المؤمنَ لا يُسيء ولا يعتذر , والمنافقُ كلَّ يومٍ يُسيءُ ويعتذر ))(2) .
ـ وقال لابنه عليّ بن الحسين (عليهما السّلام) : (( أيْ بُنيّ , إيّاكَ وظُلْمَ مَنْ لا يجدُ عليكَ ناصراً إلاّ الله (جَلَّ وعزَّ) ))(3) .
ـ وقال له رجلٌ ابتداءً : كيفَ أنتَ عافاكَ الله ؟
فقال (عليه السّلام) له : (( السّلام قبل الكلام عافاك الله )) .
ثمّ قال (عليه السّلام) : (( لا تأذنوا لأحدٍ حتّى يُسلِّم ))(4) .
وقال (سلام الله عليه) : (( البخيل مَنْ بخِلَ بالسّلام ))(5) .
وقال رجلٌ عنده : إنَّ المعروفَ إذا اُسديَ إلى غيرِ أهله ضاع .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( ليس كذلك , ولكنْ تكونُ الصنيعةُ مثْلَ وابلِ المطر , تُصيبُ البرَّ والفاجر ))(6) .
وقال (سلام الله عليه) : (( مَن قبِلَ عطاءَك فقد أعانَك على الكرم ))(7) .
وقال (صلواتُ الله عليه) : (( صاحبُ الحاجةِ لم يُكرمْ وجهَه عن سؤالك , فأكرِمْ وجهَكَ عن رَدِّه ))(8) .
كلمات تنسجم تمامَ الانسجام مع الفطرةِ الإنسانيّةِ السليمة , وتقع على
ـــــــــــــــــ
(1) تحف العقول / 176 .
(2) تحف العقول / 179 .
(3) تحف العقول / 177 .
(4) المصدر نفسه .
(5) تحف العقول / 179 .
(6) تحف العقول / 176 .
(7) الدرّة الباهرة / 24 .
(8) كشف الغمّة 2 / 208 .
القلب موقعَ الماءِ البارد في حرِّ الضماء , وعلى العين موقع النور في الليلة الظلماء , وعلى الاُذن موقعَ صوتِ الأب الحنون ينادي ولدَه التائه , أو الاُمّ الرؤوم تلاطف ابنتَها المنكسرة .
كلمات هي للضّالِّ هدايةٌ مُطَمْئِنة , وللحائرِ سبيلٌ سهلة , ولقدِ انتفع مَن أسلمَ قلبه , واعتبرَ مَن صدق عقلُه في البحثِ عن العبرة , واهتدى من رغِبَ حقّاً في الخيرِ وطلبِ الحقيقة .
* ولقد أوصى فامتزج العلم بالاُبوّةِ الحانية , فكان أن قال : (( لا تتكلّفْ ما لا تُطيق , ولا تتعرّض ما لا تُدرك , ولا تَعِدْ بما لا تقْدرُ عليه , ولا تُنفقْ إلاّ بقدْرِ ما تستفيد , ولا تطلبْ من الجزاءِ إلاّ بقدرِ ما صنعت , ولا تفرحْ إلاّ بما نلتَ مِن طاعةِ الله , ولا تتناولْ إلاّ ما رأيتَ نفسَكَ له أهلاً ))(1) .
وقال (صلواتُ الله عليه) : (( اُوصيكم بتقوى الله ؛ فإنَّ الله قد ضَمِن لِمَنِ اتّقاهُ أن يُحوّلَه عمّا يكره إلى ما يُحبّ , ويرزقَه مِن حيث لا يحتسب , فإيّاكَ أن تكونَ ممّن يخاف على العباد مِن ذنوبهم ويأمنُ العقوبةَ مِن ذنبهِ ؛ فإنَّ الله تباركَ وتعالى لا يُخدَع عن جنّتِه , ولا يُنال ما عنده إلاّ بطاعته إن شاءَ الله ))(2) .
لقد فاحتْ تلك الكلمات عن اُبوَّةٍ حانية , وقلبٍ رحيم , وفاضتْ عن صدرٍ مِلْؤه الإيمانُ والتقوى , والمعرفة وحبُّ الخير , وصدرتْ عن فمٍ طاهرٍ زاكٍ طالما قبّلَه رسولُ الله (صلّى الله عليهِ وآلِه) , ولكنَّ أعداءَ الله لم يتورّعوا في
ــــــــــــــــــ
(1) أعيان الشيعة 4 / 365 .
(2) تحف العقول / 173 .
هتكِ حرُماتِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السّلام) ؛ فقد جاء سنانُ بنُ أنس فرأى الإمامَ الحسين (عليه السّلام) مطروحاً على رمالِ كربلاء , يشخبُ دماً ممّا أصابه من السهام والأحجار والسيوف , فطعنه في بواني صدره الشريف(1) !
ودعا عمرُ بنُ سعدٍ : ألاَ مَن ينتدب إلى الحسين فيُوطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه ؟ فقام عشرة(2) ... فداسوا بخيولهم جسَدَ ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) !
وقُطع الرأسُ الشريف قبل ذلك , ولم تُرعَ للنبيّ (صلّى الله عليهِ وآلهِ) حرمة .
أروحُكَ أم روحُ النبيِّ تَصَعَّدُ من الأرضِ للفردوسِ والحُورُ سُجَّدُ
ورأسُكَ أم رأسُ الرسولِ على القَنا بآيةِ (أهل الكهف) راح يُرَدِّدُ
وصدرُكَ أم مستودعُ العلمِ والحِجى لتحطيمِه جيشٌ من الجهلِ يَعمدُ
وأيُّ شهيدٍ أصلَتِ الشمسُ جسمَه ومشهدُها مِن أصلِه متولِّدُ
وأيُّ ذبيحٍ داستِ الخيلُ صدرَه وفرسانُها مِن ذكرِه تتجمّدُ
فلو علمتْ تلك الخيولُ كأهلها بأنَّ الذي تحت السنابكِ أحمدُ
لثارتْ على فرسانها وتمرّدتْ عليهم كما ثاروا بها وتمرّدوا(3)
وفي الشام دعا يزيد برأس الحسين (عليه السّلام) ووضعه أمامه في طستٍ من ذهب(4) , ثمّ أخذ القضيب وجعل ينكثُ ثغرَ الحسين (عليه السّلام)(5) ويقول :
ـــــــــــــــــــ
(1) اللهوف في قتلى الطفوف ـ للسيّد ابن طاووس / 70 .
(2) تاريخ الطبريّ 6 / 161 , الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير 4 / 33 , مروج الذهب ـ للمسعوديّ 2 / 91 , الخطط ـ للمقريزيّ 2 / 288 , البداية والنهاية ـ لابن كثير 8 / 189 , إعلام الورى بأعلام الهدى ـ للشيخ الطبرسيّ 1 / 470 .
(3) من قصيدةٍ للسيّد صالح بن العلاّمة السيّد مهدي بحر العلوم .
(4) مرآة الجنان ـ لليافعيّ 1 / 135 .
(5) تاريخ الطبريّ 6 / 267 , الكامل في التاريخ 4 / 35 , تذكرة خواصّ الاُمّة ـ لسبط ابن الجوزيّ / 148 , الصواعق المحرقة ـ لابن حجر / 116 , الفروع ـ لابن مفلّج الحنبليّ 3 / 549 , مجمع الزوائد 9 / 195 , الفصول المهمّة / 205 , الخطط المقريزيّة 2 / 289 , البداية والنهاية 8 / 192 , الاتحاف بحبّ الأشراف ـ للشبراويّ / 23 , وغيرها من المصادر المعروفة .
----------------------------
يومٌ بيومِ بدرٍ(1) . وكان أبو برزةَ الأسلميّ واقفاً , فقال : أشهدُ لك رأيتُ النبيَّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن , ويقول : (( أنتما سيّدا شباب أهلِ الجنّة , قتلَ الله قاتلَكما , ولعنه , وأعدَّ له جهنَّمَ وساءتْ مصيراً ))) . فغضبَ يزيدُ منه وأمرَ به فاُخرِجَ سَحْباً(2) .
* * * * *
تعليق