(سيرة الهفهاف بن مهند الراسبي الفكرية في رواية الرحلة العجائبية / فيصل عبد الحسن)
علي حسين الخباز
ليس عجيبة بل هي عجائبية تمتلك الحضور الطاغي في جميع مناحي الحياة، من واقع وخيال وأحلام.
العمق الفكري للرحلة من قلق وإيمان ورغبة بابتكار ما يكسر المألوف، واستثمار فضاءات متنوعة بين سير وأحداث وأغوار التأريخ لتجسد لنا رؤى فكرية تعبر عن وعي الانتماء من خلال تعدد صوت الرواة، كل راوي له رؤية وفكر ويقرأ الواقع التاريخي للأمة، ويكشف الأبعاد الاجتماعية والفكرية والسياسية.
تعدد الشخصيات لإثراء التجربة السردية وتوسيع نطاق المروي باعتباره المحور الأساسي للرواية، واستخدام أسلوب (البرجمانات) سجل مذكرات تدون فيها الأحداث والرؤى، واستثمار تعدد الرواة في كتابة تلك المدونات بمقدمات وامضة ترسم معالم البنية الفكرية.
جاء في البرجمان الأول (ما أكبر الحب وأصغر الكراهية بميزان الأخلاق) ونقرأ في برجمان آخر (كل من سلك طريقا لا يؤدي إلى علة يرضاها الله ينتهي إلى التيه) يستشهد في بعض البرجمانات بأبيات شعرية، تحمل تلك الومضات منطلقات فكرية تلج العمق النصي ولكل برجمان مساحته الفكرية
(مسعود الأعمش) خادم حرره الهفهاف من ربقة العبودية فصار أقرب، كتب في برجمانه الثامن (الله.. الله.. هو غاية ووسيلة المذنبين، فاطلبوا العفو منه وحده) ، استخلاص تلك الرؤى الفكرية تقودنا لمعرفة البطل الهفهاف آخر شهداء الطف الحسيني هو ابن الشيخ مهند الراسبي كبير قبائل الأعامشة، قاتل في صفين وتعرض للأسر، انفضت عنه القبيلة وتركت ابنه الوحيد (الهفهاف)وبايعت إحد أبناء عمومته.
تميزت تلك البرجمانات بفاعلية الوجود الإنساني لفهم أوليات الصراع السياسي بين فكر علي عليه السلام وبين فكر معاوية، بين من عمل على تأسيس دولة إسلامية وفكر رسالي محمدي وبين من يريد أن يشيد دولة بأداء مستورد، يصل الهفاف عبر هذه المشاهدات إلى يقين (أن معركة صفين ليست سوى معركة بين معارك كثيرة قادمة) لا بد من استثمار تلك الدلالات الواردة في البرجمانات والتأمل في علائقها الفكرية والدلالية، جاء في البرجمان الثامن (منع والي دمشق سك الدنانير المكية، وسك بدلها دنانير) المنع الذي سرى مفعوله في الشام كان القصد منه رفع اسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من الدينار، النكتة أن الدينار المكي يصرف في جزيرة الفرنجة وبيزنطة ويتعاملون به التجار الرومان ولا يصرف عند المسلمين، وهذا البرجمان يوضح إلى أي مدى وصل الصراع من أمور نفسية هالكة، استطاعت عجائبية فيصل عبد الحسن أن تنفتح على التأريخ عبر الرؤى الفكرية المعبرة عن روح التأريخ، وتنوعت تلك الرؤى والقيم الإنسانية في بعدها الوجداني، كتب الهفهاف حكمة ورثها من أبيه مهند الراسبي (إن وقوف أهل الكدية على باب مسكنك الجديد هي بشارة خير بسكن مريح) انقسم المسار السردي في رواية الرحلة العجائبية إلى التاريخ الماضوي ليسترجع الأحداث التاريخية التي سبقت زمن تدوين البرجمانات، تهيئة المتلقي نفسيا لتقبل ما سيرد من أحداث ونجد أن سرعة الانتقال من مكان إلى آخر وتغيير دائم في الأمكنة دفع المنجز لتسخير شخصيات أخرى لسد الفجوات التي قد تحدث من سرعة الانتقالات وتكرارها فأبدع بقصص جانبية سريعة تشاغل ذهنية المتلقي كي تبعد عنه الملل وتشده لمتابعة خط الرواية الرئيسي.
القضية ليست سهلة بالشكل الذي يتصوره البعض، تكمن صعوبتها بأن بطلها الهفهاف شخصية معلومة من قبل المتلقي ويعرف الأحداث التي وردت في الطف الحسيني ويعرف أنه آخر شهداء الطف.
يبقى أمام المنجز الروائي استثمار عمليات الجذب الروحية والفكرية، نجده سعى لكسر نمطية السرد عبر نبوءات منها عامة نبوءات الأب مارسيل عن الكتاب المقدس، أن هناك ذبيحٌ على شاطئ نهر الفرات: ـ وكنت أتساءل كلما قرأت النص من يكون هذا الذبيح؟ وذكرت النبوءة دلائل أخرى قريبة المعنى من تكوين ذاكرة الهفهاف مثل النواويس، النبوءة تتحدث عن رجل مقدس جاء من صلب النبي، ويشير النص لمعركة مصيرية تقع بجانب شط الفرات، في أرض يقال لها (كركميش) والنبوءة تمنح المتلقي أبعادا دلالية تبعث معها الإحساس بالألم، وشعور بالحزن.
النبوءة سياق من سياقات الموقف الاستباقي، ومن تلك النبوءات ما تتعلق بحياة الهفهاف شخصيا، تقول العرافة العجوز: ـ أنت أيها السيد المبجل الهفهاف ستكون لرأسك منزلة كبيرة مع الرأس المقدس، أبشر يا هفهاف بمجد الدنيا والآخرة
يتجسد وعي الرحلة العجائبية في بث القيم الفكرية من أجل خلق مساحة تأثيرية عالية في وجدان المتلقي، يروي الهفهاف من ضمن مروياته
: ـ قال لي أبو عبد الله عليه السلام
: ـ قبل أن تجاهد في سبيل الله عليك أن تعرف تحت أي راية ستقاتل، فربما كنت في ظل راية من ضلال، تساءلت
: ـ هل هناك راية ضلال في الجهاد؟
فابتسم لي بثغر منير بأجمل ابتسامة شاهدتها في حياتي
: ـ ما أكثر ما نعتوا حروبهم الخاصة بعلة الجهاد في سبيل الله يا هفهاف
: ـ وسيكون أصحابها في النار؟
: ـ نعم وأصحابها في النار يا أبن المهند هذا ما سمعته من رسول الله، فكم من حق جعلوا له منظر الباطل، وكم من باطل زينوه فبدا كالحق في جماله ووضوحه.
تميزت الرحلة العجائبية باشتغالها على المؤثر الفكري لترسيخ اليقين في مساعي الهفهاف بن مهند الراسبي يترك برجمانه رقم خمسين وبتوقيع مسعود الأعمش
(إذا خذلنا الحسين سنبقى كالذي باع ثوبه وبقى عاريا إلى آخر الزمان)
كان فكر الهفهاف فكرا وقادا يعي أهمية التوثيق آخر ما قاله الهفهاف لمسعود الأعمشي وهو يسلمه البرجمان،
: ـ هذا جسدي الحي الذي لا تفنيه الإيام والدهور، جسد من كلام وأحداث سيتداوله الأحفاد إلى ما شاء الله.
علي حسين الخباز
علي حسين الخباز
ليس عجيبة بل هي عجائبية تمتلك الحضور الطاغي في جميع مناحي الحياة، من واقع وخيال وأحلام.
العمق الفكري للرحلة من قلق وإيمان ورغبة بابتكار ما يكسر المألوف، واستثمار فضاءات متنوعة بين سير وأحداث وأغوار التأريخ لتجسد لنا رؤى فكرية تعبر عن وعي الانتماء من خلال تعدد صوت الرواة، كل راوي له رؤية وفكر ويقرأ الواقع التاريخي للأمة، ويكشف الأبعاد الاجتماعية والفكرية والسياسية.
تعدد الشخصيات لإثراء التجربة السردية وتوسيع نطاق المروي باعتباره المحور الأساسي للرواية، واستخدام أسلوب (البرجمانات) سجل مذكرات تدون فيها الأحداث والرؤى، واستثمار تعدد الرواة في كتابة تلك المدونات بمقدمات وامضة ترسم معالم البنية الفكرية.
جاء في البرجمان الأول (ما أكبر الحب وأصغر الكراهية بميزان الأخلاق) ونقرأ في برجمان آخر (كل من سلك طريقا لا يؤدي إلى علة يرضاها الله ينتهي إلى التيه) يستشهد في بعض البرجمانات بأبيات شعرية، تحمل تلك الومضات منطلقات فكرية تلج العمق النصي ولكل برجمان مساحته الفكرية
(مسعود الأعمش) خادم حرره الهفهاف من ربقة العبودية فصار أقرب، كتب في برجمانه الثامن (الله.. الله.. هو غاية ووسيلة المذنبين، فاطلبوا العفو منه وحده) ، استخلاص تلك الرؤى الفكرية تقودنا لمعرفة البطل الهفهاف آخر شهداء الطف الحسيني هو ابن الشيخ مهند الراسبي كبير قبائل الأعامشة، قاتل في صفين وتعرض للأسر، انفضت عنه القبيلة وتركت ابنه الوحيد (الهفهاف)وبايعت إحد أبناء عمومته.
تميزت تلك البرجمانات بفاعلية الوجود الإنساني لفهم أوليات الصراع السياسي بين فكر علي عليه السلام وبين فكر معاوية، بين من عمل على تأسيس دولة إسلامية وفكر رسالي محمدي وبين من يريد أن يشيد دولة بأداء مستورد، يصل الهفاف عبر هذه المشاهدات إلى يقين (أن معركة صفين ليست سوى معركة بين معارك كثيرة قادمة) لا بد من استثمار تلك الدلالات الواردة في البرجمانات والتأمل في علائقها الفكرية والدلالية، جاء في البرجمان الثامن (منع والي دمشق سك الدنانير المكية، وسك بدلها دنانير) المنع الذي سرى مفعوله في الشام كان القصد منه رفع اسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من الدينار، النكتة أن الدينار المكي يصرف في جزيرة الفرنجة وبيزنطة ويتعاملون به التجار الرومان ولا يصرف عند المسلمين، وهذا البرجمان يوضح إلى أي مدى وصل الصراع من أمور نفسية هالكة، استطاعت عجائبية فيصل عبد الحسن أن تنفتح على التأريخ عبر الرؤى الفكرية المعبرة عن روح التأريخ، وتنوعت تلك الرؤى والقيم الإنسانية في بعدها الوجداني، كتب الهفهاف حكمة ورثها من أبيه مهند الراسبي (إن وقوف أهل الكدية على باب مسكنك الجديد هي بشارة خير بسكن مريح) انقسم المسار السردي في رواية الرحلة العجائبية إلى التاريخ الماضوي ليسترجع الأحداث التاريخية التي سبقت زمن تدوين البرجمانات، تهيئة المتلقي نفسيا لتقبل ما سيرد من أحداث ونجد أن سرعة الانتقال من مكان إلى آخر وتغيير دائم في الأمكنة دفع المنجز لتسخير شخصيات أخرى لسد الفجوات التي قد تحدث من سرعة الانتقالات وتكرارها فأبدع بقصص جانبية سريعة تشاغل ذهنية المتلقي كي تبعد عنه الملل وتشده لمتابعة خط الرواية الرئيسي.
القضية ليست سهلة بالشكل الذي يتصوره البعض، تكمن صعوبتها بأن بطلها الهفهاف شخصية معلومة من قبل المتلقي ويعرف الأحداث التي وردت في الطف الحسيني ويعرف أنه آخر شهداء الطف.
يبقى أمام المنجز الروائي استثمار عمليات الجذب الروحية والفكرية، نجده سعى لكسر نمطية السرد عبر نبوءات منها عامة نبوءات الأب مارسيل عن الكتاب المقدس، أن هناك ذبيحٌ على شاطئ نهر الفرات: ـ وكنت أتساءل كلما قرأت النص من يكون هذا الذبيح؟ وذكرت النبوءة دلائل أخرى قريبة المعنى من تكوين ذاكرة الهفهاف مثل النواويس، النبوءة تتحدث عن رجل مقدس جاء من صلب النبي، ويشير النص لمعركة مصيرية تقع بجانب شط الفرات، في أرض يقال لها (كركميش) والنبوءة تمنح المتلقي أبعادا دلالية تبعث معها الإحساس بالألم، وشعور بالحزن.
النبوءة سياق من سياقات الموقف الاستباقي، ومن تلك النبوءات ما تتعلق بحياة الهفهاف شخصيا، تقول العرافة العجوز: ـ أنت أيها السيد المبجل الهفهاف ستكون لرأسك منزلة كبيرة مع الرأس المقدس، أبشر يا هفهاف بمجد الدنيا والآخرة
يتجسد وعي الرحلة العجائبية في بث القيم الفكرية من أجل خلق مساحة تأثيرية عالية في وجدان المتلقي، يروي الهفهاف من ضمن مروياته
: ـ قال لي أبو عبد الله عليه السلام
: ـ قبل أن تجاهد في سبيل الله عليك أن تعرف تحت أي راية ستقاتل، فربما كنت في ظل راية من ضلال، تساءلت
: ـ هل هناك راية ضلال في الجهاد؟
فابتسم لي بثغر منير بأجمل ابتسامة شاهدتها في حياتي
: ـ ما أكثر ما نعتوا حروبهم الخاصة بعلة الجهاد في سبيل الله يا هفهاف
: ـ وسيكون أصحابها في النار؟
: ـ نعم وأصحابها في النار يا أبن المهند هذا ما سمعته من رسول الله، فكم من حق جعلوا له منظر الباطل، وكم من باطل زينوه فبدا كالحق في جماله ووضوحه.
تميزت الرحلة العجائبية باشتغالها على المؤثر الفكري لترسيخ اليقين في مساعي الهفهاف بن مهند الراسبي يترك برجمانه رقم خمسين وبتوقيع مسعود الأعمش
(إذا خذلنا الحسين سنبقى كالذي باع ثوبه وبقى عاريا إلى آخر الزمان)
كان فكر الهفهاف فكرا وقادا يعي أهمية التوثيق آخر ما قاله الهفهاف لمسعود الأعمشي وهو يسلمه البرجمان،
: ـ هذا جسدي الحي الذي لا تفنيه الإيام والدهور، جسد من كلام وأحداث سيتداوله الأحفاد إلى ما شاء الله.
علي حسين الخباز