بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لمّا وصلت أنباء إعلان الإمام الحسين ثورته على الحكم الاُموي إلى كوادر الحزب الاُموي ، كانت ردود الفعل مختلفة بحسب وجهات نظر أعضاء الكوادر الحزبية الاُمويّة ، وهي في اتّجاهين :
الاتّجاه الأوّل :
وهو الذي يمثل جانب اللين والفتور لأنّ بعض الكوادر الحزبية الاُمويّة كانت تمثّل الجانب المعتدل في الحزب ، لأنّها تعلم في قرارة نفسها أنّ يزيد لا يستحق الخلافة وغير جدير بها ؛ ولذا نراها غير متحمّسة لحكمه ، من أمثال النعمان بن بشير واليه على الكوفة ؛ فإنّه بعد أن سمع بثورة الإمام الحسين (ع) قام خطيباً ، وخطب خطبة لم ترضِ الحزب الاُموي ، فقام إليه أحد كوادر الحزب الاُموي قائلاً :
إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم ، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين.
فأجابه النعمان قائلاً : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله 1.
الاتجاه الثاني :
وهو الاتّجاه المتطرّف المتعصّب ، الذي يسير وراء مصالح الاُمويِّين ، وليس لديه أيّ واقعية أو الإحساس بها ، فنرى ردّ فعله عنيفاً جدّاً ، لأنّه اتّخذ موقفاً صارماً ضدّ الثورة ؛ ولهذا نرى هذا الكادر الاُموي سارع بالكتابة إلى يزيد بن معاوية عندما دخل الكوفة رسول الثورة الحسينيّة مسلم بن عقيل ، وأقبل الناس عليه لمبايعة الحسين ، ويتزعّم هذا الكادر الحزبي الاُموي رجل اسمه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي.
خطبة النعمان والي يزيد على الكوفة 2
بلغ ذلك النعمان بن بشير والي يزيد على الكوفة ، فجاء إلى المسجد وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيهما يهلك رجال ، وتُسفك الدماء ، وتُغصب الأموال. إنّي لم اُقاتل مَنْ لم يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة ، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر ؛ أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يرديه الباطل 3.
فقام إليه أحد أعوان الحزب الاُموي ، واسمه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي ، وقال : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم ، إنّ هذا الذي أنت عليه ، فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين. فأجابه النعمان قائلاً : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله.
رجال الحزب الاُموي وخطورة الموقف 4
فكتب عبد الله بن مسلم الحضرمي كتاباً إلى يزيد بن معاوية جاء فيه : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف 5.
ثمّ كتب آخرون إلى يزيد بن معاوية كتباً أخرى بهذا المضمون ، مثل : عمارة بن عقبة ، وعمر بن سعد ، وغيرهما من أنصار الحزب الأموي.
يزيد يعزل النعمان وينصب عبيد الله 6
وعندما وصلت الكتب إلى يزيد بن معاوية وقرأها وفهم محتواها ، دعا سرجون مولى معاوية وأقرأه الكتب ، وقال : هذا الحسين قد توجّه إلى الكوفة ، وهذا مسلم بن عقيل يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء ، فما ترى؟ فقال له سرجون : أرأيت لو نشر معاوية لك ، أكنت آخذاً برأيه؟ قال : نعم. [قال : فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : هذا رأي] أبيك ، فأخذ يزيد بهذا الرأي ، وكان عبيد الله والياً على البصرة فضمّ إليه الكوفة ، وبعث إليه بعهده على الكوفة ، مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وكتب إليه كتاباً :
أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجمع لشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه ، أو تقتله ، أو تفنيه ، والسّلام 7.
فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالعهد والكتاب إلى عبيد الله بن زياد بالبصرة ، فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب ، أمر بالجهاز والتهيؤ ، والمسير إلى الكوفة من الغد 7.
ولمّا كان الغداة ، استخلف أخاه عثمان بن زياد على البصرة ، بعد أن خطبهم بالوعد والوعيد. وأقبل إلى الكوفة مسرعاً لا يلوي على شيء حتّى دخلها ومعه بضعة عشر رجلاً ، متنكّراً بزيّ أهل الحجاز ، فظنّ الناس أنّه الحسين (عليه السّلام) لأنّهم ينتظرون قدومه. فأخذ لا يمرّ على أحد من الناس إلاّ وسلّموا عليه ، وقالوا : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم ، وهو لا يكلّمهم ، حتّى جاء القصر فسمع النعمان بن بشير فأغلق باب القصر عليه ، ولمّا أنتهى إلى القصر أطلّ النعمان بن بشير من بين شرفتي القصر قائلاً : «اُنشدك الله إلاّ تنحيت عنّي ، ما أنا بمسلّم لك أمانتي ، وما لي في قتلك من إرب» ظانّاً أنّه الحسين (عليه السّلام). فأزال عبيد الله اللثام عن وجهه وقال : «افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك ، وشيّدت قصرك ، وضيعت مصرك» عندها عرف النعمان والناس أنّه عبيد الله بن زياد ، ففتح النعمان باب القصر ودخل ، ثمّ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس ، فخرج إليهم وصعد المنبر.
الخطبة الأولى لابن زياد في الكوفة 8
«فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متّبع فيكم أمره ، ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبي عنك لا الوعيد». ثمّ نزل ، فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً ، وقال لهم : «اكتبوا إليّ الغرباء ، ومَنْ فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومَنْ فيكم من الحرورية ، وأهل الريب الذين رأيهم الخلا والشقاق ، فمَنْ كتبهم لنا فبرئ ، ومَنْ لم يكتب لنا أحد فيضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمَنْ لم يفعل برئت منه الذمة ، وحلال لنا ماله وسفك دمه. وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا طلب على باب داره ، واُلغيت تلك العرافة من العطاء ، وسيّر إلى موضع بعمان الزارة» 9.
اعتقال هاني بن عروة
ثمّ تطوّر الموقف عندما اعتقل عبيدُ الله هاني بن عروة ، وطلب منه أن يسلّمه مسلم بن عقيل فأبى هاني ، فضربه عبيد الله بالسياط على وجهه فسال الدم على لحيته ، فتناول سيفاً بيد أحد أعوان عبيد الله فأراد أن ينتزعه فلم يستطع ، فعندها أمر عبيد الله به أن يغلّ ، ويحبس في غرفة ، ويوضع عليها الحرس. وإذا بجمع مذحج على باب القصر لأنّهم سمعوا أنّ عبيد الله يروم قتله فجاؤوا لاستنقاذه. فأمر عبيد الله شريح القاضي بأن يخرج للناس ويعلمهم بأنّ صاحبهم حيّ ، فخرج شريح إليهم وقال لهم : إنّي قد رأيت صاحبكم حيّاً ، وإنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلاً. فقالوا : إذاً لم يُقتل فالحمد لله. ثمّ تفرّقوا.
الخطبة الثانية لابن زياد 10
ثمّ إنّ عبيد الله جمع بعض زعماء القبائل ، وشرطته وحاشيته ، فخرج بهم وصعد المنبر ، فخطب خطبة موجزة : «أمّا بعد ، أيّها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم ، ولا تخلفوا ، ولا تفرقوا فتهلكوا ، وتذلّوا وتقتلوا ، وتجفوا وتحرموا ، إنّ أخاك مَنْ صدقك ، وقد أعذر من أنذر» 11.
ثم إنّ الموقف قد تدهور ، وخذل الناس مسلم بن عقيل ؛ وذلك بعد أن اشترى عبيد الله ذمم وضمائر بعض الزعماء ، فأخذوا يخذلون الناس عن مسلم ويمنونهم بالمال ، ويخوّفونهم بجنود أهل الشام.
ثمّ أشرف على الناس بعض رؤساء القبائل ، وتكلّم كثير بن شهاب وقال : «أيّها الناس الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشرّ ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذريّتكم من العطاء ، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جرت أيديها» 12.
وتكلّم بقيّة الرؤساء بنحوه ، فأخذ الناس يتفرّقون أفراداً وجماعات حتّى كانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع؟ فخذل الناس مسلم ، وبقي وحده يسير في الطريق فلا يرى أين يذهب حتّى دخل في دار امرأة يُقال لها : طوعة ، فآوته إلى الصباح.
الخطبة الثالثة لابن زياد 13
وكان عبيد الله قد علم بتفرّق الناس عن مسلم ، فأمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمّة من رجل من الشرطة والعرفاء ، أو المناكب ، أو المقاتلة صلّى العتمة إلاّ في المسجد. فما كانت إلاّ ساعة وامتلأ المسجد بالناس ، ثمّ أمر عبيد الله الحرس أن يحرسونه من جانب ، فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : «أمّا بعد ، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره ، ومَنْ جاء به فله ديّته. اتقوا الله عباد الله ، وألزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً» 14 15.
المصادر
1. انظر الوثيقة ١٣ من هذا الكتاب.
2. الوثيقة رقم ١٣.
3. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٤.
4. الوثيقة رقم ١٤.
5. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٣٩.
6. الوثيقة رقم ١٥.
7. a. b. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٥.
8. الوثيقة رقم ١٦.
9. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٤٢.
10. الوثيقة رقم ١٧.
11. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٥٤.
12. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٥٧.
13. الوثيقة رقم ١٨.
14. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٠.
15. المصدر : الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، لسماحة العلامة السيد عبد الكريم الحسيني القزويني
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لمّا وصلت أنباء إعلان الإمام الحسين ثورته على الحكم الاُموي إلى كوادر الحزب الاُموي ، كانت ردود الفعل مختلفة بحسب وجهات نظر أعضاء الكوادر الحزبية الاُمويّة ، وهي في اتّجاهين :
الاتّجاه الأوّل :
وهو الذي يمثل جانب اللين والفتور لأنّ بعض الكوادر الحزبية الاُمويّة كانت تمثّل الجانب المعتدل في الحزب ، لأنّها تعلم في قرارة نفسها أنّ يزيد لا يستحق الخلافة وغير جدير بها ؛ ولذا نراها غير متحمّسة لحكمه ، من أمثال النعمان بن بشير واليه على الكوفة ؛ فإنّه بعد أن سمع بثورة الإمام الحسين (ع) قام خطيباً ، وخطب خطبة لم ترضِ الحزب الاُموي ، فقام إليه أحد كوادر الحزب الاُموي قائلاً :
إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم ، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين.
فأجابه النعمان قائلاً : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله 1.
الاتجاه الثاني :
وهو الاتّجاه المتطرّف المتعصّب ، الذي يسير وراء مصالح الاُمويِّين ، وليس لديه أيّ واقعية أو الإحساس بها ، فنرى ردّ فعله عنيفاً جدّاً ، لأنّه اتّخذ موقفاً صارماً ضدّ الثورة ؛ ولهذا نرى هذا الكادر الاُموي سارع بالكتابة إلى يزيد بن معاوية عندما دخل الكوفة رسول الثورة الحسينيّة مسلم بن عقيل ، وأقبل الناس عليه لمبايعة الحسين ، ويتزعّم هذا الكادر الحزبي الاُموي رجل اسمه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي.
خطبة النعمان والي يزيد على الكوفة 2
بلغ ذلك النعمان بن بشير والي يزيد على الكوفة ، فجاء إلى المسجد وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيهما يهلك رجال ، وتُسفك الدماء ، وتُغصب الأموال. إنّي لم اُقاتل مَنْ لم يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة ، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر ؛ أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يرديه الباطل 3.
فقام إليه أحد أعوان الحزب الاُموي ، واسمه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي ، وقال : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم ، إنّ هذا الذي أنت عليه ، فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين. فأجابه النعمان قائلاً : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله.
رجال الحزب الاُموي وخطورة الموقف 4
فكتب عبد الله بن مسلم الحضرمي كتاباً إلى يزيد بن معاوية جاء فيه : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف 5.
ثمّ كتب آخرون إلى يزيد بن معاوية كتباً أخرى بهذا المضمون ، مثل : عمارة بن عقبة ، وعمر بن سعد ، وغيرهما من أنصار الحزب الأموي.
يزيد يعزل النعمان وينصب عبيد الله 6
وعندما وصلت الكتب إلى يزيد بن معاوية وقرأها وفهم محتواها ، دعا سرجون مولى معاوية وأقرأه الكتب ، وقال : هذا الحسين قد توجّه إلى الكوفة ، وهذا مسلم بن عقيل يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء ، فما ترى؟ فقال له سرجون : أرأيت لو نشر معاوية لك ، أكنت آخذاً برأيه؟ قال : نعم. [قال : فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : هذا رأي] أبيك ، فأخذ يزيد بهذا الرأي ، وكان عبيد الله والياً على البصرة فضمّ إليه الكوفة ، وبعث إليه بعهده على الكوفة ، مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وكتب إليه كتاباً :
أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجمع لشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه ، أو تقتله ، أو تفنيه ، والسّلام 7.
فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالعهد والكتاب إلى عبيد الله بن زياد بالبصرة ، فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب ، أمر بالجهاز والتهيؤ ، والمسير إلى الكوفة من الغد 7.
ولمّا كان الغداة ، استخلف أخاه عثمان بن زياد على البصرة ، بعد أن خطبهم بالوعد والوعيد. وأقبل إلى الكوفة مسرعاً لا يلوي على شيء حتّى دخلها ومعه بضعة عشر رجلاً ، متنكّراً بزيّ أهل الحجاز ، فظنّ الناس أنّه الحسين (عليه السّلام) لأنّهم ينتظرون قدومه. فأخذ لا يمرّ على أحد من الناس إلاّ وسلّموا عليه ، وقالوا : مرحباً بك يابن رسول الله ، قدمت خير مقدم ، وهو لا يكلّمهم ، حتّى جاء القصر فسمع النعمان بن بشير فأغلق باب القصر عليه ، ولمّا أنتهى إلى القصر أطلّ النعمان بن بشير من بين شرفتي القصر قائلاً : «اُنشدك الله إلاّ تنحيت عنّي ، ما أنا بمسلّم لك أمانتي ، وما لي في قتلك من إرب» ظانّاً أنّه الحسين (عليه السّلام). فأزال عبيد الله اللثام عن وجهه وقال : «افتح لا فتحت ، فقد طال ليلك ، وشيّدت قصرك ، وضيعت مصرك» عندها عرف النعمان والناس أنّه عبيد الله بن زياد ، ففتح النعمان باب القصر ودخل ، ثمّ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس ، فخرج إليهم وصعد المنبر.
الخطبة الأولى لابن زياد في الكوفة 8
«فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متّبع فيكم أمره ، ومنفّذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبي عنك لا الوعيد». ثمّ نزل ، فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً ، وقال لهم : «اكتبوا إليّ الغرباء ، ومَنْ فيكم من طلبة أمير المؤمنين ، ومَنْ فيكم من الحرورية ، وأهل الريب الذين رأيهم الخلا والشقاق ، فمَنْ كتبهم لنا فبرئ ، ومَنْ لم يكتب لنا أحد فيضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمَنْ لم يفعل برئت منه الذمة ، وحلال لنا ماله وسفك دمه. وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا طلب على باب داره ، واُلغيت تلك العرافة من العطاء ، وسيّر إلى موضع بعمان الزارة» 9.
اعتقال هاني بن عروة
ثمّ تطوّر الموقف عندما اعتقل عبيدُ الله هاني بن عروة ، وطلب منه أن يسلّمه مسلم بن عقيل فأبى هاني ، فضربه عبيد الله بالسياط على وجهه فسال الدم على لحيته ، فتناول سيفاً بيد أحد أعوان عبيد الله فأراد أن ينتزعه فلم يستطع ، فعندها أمر عبيد الله به أن يغلّ ، ويحبس في غرفة ، ويوضع عليها الحرس. وإذا بجمع مذحج على باب القصر لأنّهم سمعوا أنّ عبيد الله يروم قتله فجاؤوا لاستنقاذه. فأمر عبيد الله شريح القاضي بأن يخرج للناس ويعلمهم بأنّ صاحبهم حيّ ، فخرج شريح إليهم وقال لهم : إنّي قد رأيت صاحبكم حيّاً ، وإنّ الذي بلغكم من قتله كان باطلاً. فقالوا : إذاً لم يُقتل فالحمد لله. ثمّ تفرّقوا.
الخطبة الثانية لابن زياد 10
ثمّ إنّ عبيد الله جمع بعض زعماء القبائل ، وشرطته وحاشيته ، فخرج بهم وصعد المنبر ، فخطب خطبة موجزة : «أمّا بعد ، أيّها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم ، ولا تخلفوا ، ولا تفرقوا فتهلكوا ، وتذلّوا وتقتلوا ، وتجفوا وتحرموا ، إنّ أخاك مَنْ صدقك ، وقد أعذر من أنذر» 11.
ثم إنّ الموقف قد تدهور ، وخذل الناس مسلم بن عقيل ؛ وذلك بعد أن اشترى عبيد الله ذمم وضمائر بعض الزعماء ، فأخذوا يخذلون الناس عن مسلم ويمنونهم بالمال ، ويخوّفونهم بجنود أهل الشام.
ثمّ أشرف على الناس بعض رؤساء القبائل ، وتكلّم كثير بن شهاب وقال : «أيّها الناس الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشرّ ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل ؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذريّتكم من العطاء ، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جرت أيديها» 12.
وتكلّم بقيّة الرؤساء بنحوه ، فأخذ الناس يتفرّقون أفراداً وجماعات حتّى كانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول : غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع؟ فخذل الناس مسلم ، وبقي وحده يسير في الطريق فلا يرى أين يذهب حتّى دخل في دار امرأة يُقال لها : طوعة ، فآوته إلى الصباح.
الخطبة الثالثة لابن زياد 13
وكان عبيد الله قد علم بتفرّق الناس عن مسلم ، فأمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمّة من رجل من الشرطة والعرفاء ، أو المناكب ، أو المقاتلة صلّى العتمة إلاّ في المسجد. فما كانت إلاّ ساعة وامتلأ المسجد بالناس ، ثمّ أمر عبيد الله الحرس أن يحرسونه من جانب ، فدخل المسجد وصعد المنبر ، وقال : «أمّا بعد ، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره ، ومَنْ جاء به فله ديّته. اتقوا الله عباد الله ، وألزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً» 14 15.
المصادر
1. انظر الوثيقة ١٣ من هذا الكتاب.
2. الوثيقة رقم ١٣.
3. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٤.
4. الوثيقة رقم ١٤.
5. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٣٩.
6. الوثيقة رقم ١٥.
7. a. b. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٥.
8. الوثيقة رقم ١٦.
9. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٤٢.
10. الوثيقة رقم ١٧.
11. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٥٤.
12. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٥٧.
13. الوثيقة رقم ١٨.
14. تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٦٠.
15. المصدر : الوثائق الرسمية لثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، لسماحة العلامة السيد عبد الكريم الحسيني القزويني
تعليق