إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

روح الله القاص : محمد مشعل

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • روح الله القاص : محمد مشعل


    .................................................. .............................
    مضى من الليل نصفهُ الأول، خفَّ الضجيج، وهدأت النفوس، نام اﻷطفال، وتعلقت أيادي الصالحين بالسماء، سَكر الحاكم في كأس منيته، وتبادل الجند نوبة الحراسة على الغنائم في خربة الشام.
    عاد يوسف حارس البلاط إلى زوجته فوجدها تحرس باب الدار بنظراتها، تلتحف ببردها وتلوذ إلى الجدار، تجلس عند عتبة غرفتها المطلة ببابها على فناء المنزل.
    سحب يوسف مفصل الباب برفق، وسار بخطوات ثقيلة لا تناسب شابا في الثلاثين من عمره، رأته فنهضت تستقبله، وتبدي له قلق التأخير الذي أذهب النوم عن عينيها وتسأله:
    - يوسف، لماذا تأخرت يا حبيبي؟!
    توقف في باحة الدار، وكأن صوتها هو من أمره بذلك، فردَّ عليها مستغربا:
    - ماريا، ألم تنامي؟
    تقدمتْ نحوه بمودة، وخاطبته بصوت متهجد:
    - وهل يغمض لي جفن وأنت خارج الدار؟!
    طوقته بذراعيها، فأماط على مهل ساعديها، وقال في تململ:
    - حسنا حسنا، ها أنا قد عدت.
    لم يكن الجواب شافيا لعلة السؤال، فبادرته بمودة وغنج:
    - هل أنت جائع؟
    وقبل أن يجيبها أردفت بطفولية:
    - سأعد لك الطعام.
    قاطعها وهو يتكئ على قائم سيفه:
    - كلا كلا لا أريد شيئا. فقط أرغب في قسط من الراحة.
    أخدت بيمينه واندست تحت إبطه، سارت به نحو حجرتها، تناولت غطاء رأسه، سيفه، والدرع عن صدره، وضعتها في أماكنها، فيما جلس هو على مقعد منزويا في ركن الغرفة حاسرا عن رأسه، يحمله بكفيه وقد انحنى بجذعه يقترب من ركبتيه.
    لم يكن منظره ساراً بالنسبة لها؛ فليس من المعتاد أن يجلس هكذا وهو الشديد الصلب، الشاب الذي تميز عن أقرانه كأفضل حارس في بلاط الخليفة.
    جلست عند قدميه، أماطت النعل عنهما، وعرجت تخلع عنه ثوب الحراسة، نهض وألقى بجسده على السرير بما تبقى له من الثياب الداخلية، لاطفته وعرضت نفسها عليه:
    لم يجبها، وانحاز ملتويا يحتضن الجدار بنظراته، تعجبت، وتساءلت:
    - ما بك يا يوسف؟
    لم يجبها.
    جذبته من كتفيه وأدنت فمها من أذنه:
    - يوسف هل أنت هنا؟
    صوتها الهامس استله من بئر أفكاره العميقة، التفتَ نحوها واستوى جالسا، أمسك بمعصميها وقربها إليه، ثم قال لها:
    - ما ريا حدثيني عن السيد المسيح.
    شهقت ثم تنهدت في لحظة تجلٍ، وهي تحتضن وجههُ بكفيها، تملأ عينيها منه، وتخاطبه كالطفل الصغير:
    - يا روح الله، يا سيدتي العذراء.. ما بك يا زوجي الحبيب؟
    وضعت رأسه في حجرها، تمسد بكفها خصلات شعره، وتقرأ له بعض الصلوات.
    رفع رأسه، وقال لها:
    - لقد رأيت السيد المسيح!
    فقالت متلهفة باسمة:
    - لا شك أنها رؤية صادقة.
    استوى جالسا وهز رأسه نافيا، وردَّ بجدية:
    - ليست رؤيا يا ماريا، بل حقيقة!
    - حقيقة؟
    - نعم.
    أكد لها فتلمست جبهتهُ بباطن كفها، ومسحت ما تندى عليها من حبات عرق متناثرة.
    نهض من مكانه، ثم جلس على ذات المقعد منفردا وقال وهو يرفع باطن كفه اليمنى كمن يدلي بقسمٍ، ويستند بالأخرى على فخذه:
    - لقد رأيته مصلوبا على قيد الحياة، يشع منه نور وبهاء لم أرَ مثله.
    قاطعته سائلة مستنكرة:
    - هل صلبوا قديسا؟ لا استبعد ذلك من هؤلاء المسلمين!
    - ليس مسيحيا يا ماريا. قالها في لوعة، فردت عليه:
    - لا بد إنه ممن لا دين له ولا معتقد، ولكن كيف يكون كافرا و” يشع منه نور وبهاء”؟ قل غير هذا الكلام يا يوسف!
    - إنه من دين الإسلام.
    تعجبت حين سمعت ذلك وتساءلت:
    - غريب أمر هؤلاء القوم!
    فرد عليها:
    - الأغرب من ذلك هو الخوف الذي داهم الخليفة من ذلك المصلوب!
    - وهل يخاف الجاني من ضحيتهِ، هل هذه أُحجية؟
    أومأ، ثم قال بهدوء:
    - كنت قريبا من الخليفة فأحسست به مضطربا قلقا، تغير لون وجهه، لقد كانت الكأس ترتجف في كفه، تساءلت في نفسي لحظتها، كيف يحدث هذا للخليفة وهو ابن الخليفة، أتراه خائفا، وكيف يخاف وهو في قصره، وبين حاشيته، وجنده، وممن يخاف، من رجل مقيد اليدين والرجلين، لا حول له ولا قوة؟!
    قاطعته في تندر:
    - هل هو الخائف، أم أنت؟
    فقال مؤكدا:
    - أنا لا أخفي رهبتي عند رؤيته ذلك الشاب، ولكن صدقيني يا ماريا الخلفية كان يرتعد خوفا، لم أره بهذه الحالة من قبل، برغم أنه كان يواري خوفه عن جلسائه، يستطرفهم ليخفي ما ألم به، ولا أحسبهم غفلوا عن ذلك.
    - ومن هذا الذي أدخل الرعب إلى قلب الخليفة يزيد بن معاوية؟
    - روح الله.
    - من؟
    - روح الله، يا ماريا!
    - ولكن روح الله صُلب يا زوجي العزيز.
    ابتسم ابتسامة رجل ينظر في رأس زوجته، وقال:
    - كلا، روح الله ما زال حيا يا ماريا.
    - هل ما زلت تستمع لوعاظ المسلمين لتنقل لي ما يقولونه عن سيدنا المسيد؟!
    - كلا يا عزيزتي، ولكن…
    - ولكن ماذا يا يوسف، لا أفهم شيئا مما تقول!
    - سأخبرك، ولكن لا تقاطعيني.
    استنهضها الغضب، دارت في الغرفة، ودار معها الصمت، ثم أنها تظاهرت بالكياسة، وقالت:
    - تفضل، أكمل.
    أشار إليها بباطن كفه أن تعود إلى مجلسها، فلما عادت قال:

    علي حسين الخباز, [03/06/2021 11:03 ص]
    - انتشر خبر النصر الكبير الذي حققه الخليفة على أعدائه، وتزينت الشام لهذا اليوم.
    - وهل بقي في الشام من لم يسمع بذلك؟!
    رمى نظراته مرة أخرى عليها، وأتم:
    - دُعيتْ الوفود لحضور الاحتفال بوصول السبايا، احتشد الضيوف من مختلف البلدان والأديان، ليشهدوا هذا النصر الكبير، نُقلت اليهم الجفان المملؤة بما لذ وطاب، وسقوا من معتق الشراب.
    أطرق يوسف وتوقف عن الكلام، فبادرته:
    - لم أقاطعك فلمَ قاطعت نفسك؟!
    رفع رأسه ومد بصره من باب الغرفة الذي لم يغلق، كأنه يشاهد شيئا أمامه ليصفه، ثم قال:
    - فُتحت الباب، أُدخل ركب السبايا، كان في طليعتهم شاب مقيد بالجامعة حول رقبته ومعصميه، ناحل الجسم، يبدو من انحنائه أنه عليل البدن، ولكنه برغم ذلك كان عليه سيماء الصالحين، تأخذ بالألباب هيبته، لم أشهد أحدا في حياتي أهيب منه، وقد استحوذ على الأبصار والأسماع، ونفذ إلى القلوب.
    تسير خلفه سيدة يجللها السواد لا أدري أكانت تحمي ظهره أم تلوذ به، وبعض نسوة خلفها يلذن بها، وأطفال صغار يلوذون ببعضهم وبالنساء.
    ورؤوس محمولة على رماح كأنها الأقمار، معفرةٌ بالتراب، لم يسلبها الموت عنفوانها وعزتها.
    كنت أذوب وأنا انظر إلى ذلك الشاب العظيم، وقد تصاغر كيان الخليفة أمام هيبته، وذلّ أمام صلابته، يا ماريا أرادوا النيل منه فأوعز الخليفة إلى خطيب دمشق أن يصعد المنبر ويبالغ في ذمّ أبيه وجده فانبرى إليه فصاح به:
    "ويلك أيّها الخاطب، اشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار".
    ثم إنه اتجه نحو الخليفة فقال له: " أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضىً، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب".
    بهت الحاضرون وعجبوا من هذا الفتى العليل الذي ردّ على الخطيب والأمير وهو أسير، فرفض الخليفة إجابته، وألحّ عليه الجالسون بالسماح له فلم يجد بُدّاً من إجابتهم فسمح له، اعتلى أعواد المنبر، ولم ينزل حتى نزلت دموع الحاضرين.
    - ومن يكون ذلك الرجل؟
    - انه ابن حفيد نبي الإسلام.
    - وكيف عرفته؟
    - قبل أن يُعرف بنفسه في خطبته، سمعت أحد الضيوف يسأل الخليفة وكان من أحبار اليهود:
    - من هذا الغلام؟
    فأجابه الخليفة:
    - علي بن الحسين.
    فسأله الحبر:
    - من الحسين؟
    رد الخليفة:
    - ابن علي بن أبي طالب.
    فسأله الحبر:
    - من أمه؟
    رد الخليفة:
    - بنت محمد.
    عندها استشاط الحبر اليهودي غضبا وقال للخليفة:
    - " يا سبحان الله!! هذا ابن بنت نبيكم قتلتموه، بئسما خلفتموه في ذريته، فوالله لو ترك نبينا موسى بن عمران فينا سبطاً لظننت أنا كنا نعبده من دون ربنا، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس فوثبتم على ابنه وقتلتموه سوأة لكم من أمة".
    فغضب الخليفة من كلامه، وأمر فضُربَ في حلقه، فرفع الحبر اليهودي عقيرته قائلاً:
    - " إن شئتم فاقتلوني، فإني وجدت في التوراة من قتل ذرية نبي فلا يزال ملعوناً أبدا ما بقي، فإذا مات أصلاه الله نار جهنم".
    جذبت ماريا نفسا عميقا وقالت في غيض:
    - تعسا لمن كان خصمه الله.
    أحكم بكفه على فمها، يرتجيها كبت صوتها، فآذان الخليفة في كل مكان.
    صمتت، فغطت سحب الحزن وجهها، وتلبدت عيناها بالدموع، وعندما هدأت أنفاسها سألتهُ بعد تنهد:
    - ولكنك شبهته بالسيد المسيح، لعل الخشبة هي من أوحى لك بذلك؟
    - الأمر أبلغ من ذلك يا زوجتي الحبيبة.
    - كيف؟
    - لقد قال في كلامه "أيها الناس أعطينا ستاً وفضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار، ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة ومنا مهدي هذه الأمة".
    - هو من قال ذلك؟ سألتهُ بلهفة فأجاب:
    - نعم.
    فقالت له مسرورة كأنه ساق لها البشارة:
    - يوسف: إنه يُبشر بالمنقذ المهدي.
    - نعم، وأنت تعلمين أن ناصر المهدي عند ظهوره هو روح الله.
    - أعلم ذلك ومؤمنة به.
    صمتت لحظة كأنها وضعت فاصلة، ثم أتمت:
    - روح الله لم يمت.
    -( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لهم).
    تعاهدا على اتباعه ونصرته. نهضت ماريا ودارت حول نفسها في حركة صوفية مغمضة العينين، تفتح ذراعيها تحتضن الهواء وتنادي (يا روح الله).

    مرت الأيام وذاب في ليلها ونهارها طعم مرارتها، وسرّب غربال الصبر غث المحن وسمينها، تنقل يوسف في عمله داخل القصر حتى عمل أخيرا سائسا للخيل، وبعد ثلاثة أعوام على العهد الذي قطعه على نفسه أعلن في دمشق موت الخليفة بركاب فرسه.​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X