من الأمور التي يستدل بها على نبوة النبي محمد، شهادة القرآئن الداخلية والخارجية
وهذا الطريق متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر، لتبيين صدق المدّعي والمنكر أو كذبهما، والتوصّل إلى كنه الحوادث1. ولكنه لا يختصّ بالمحاكم، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة، منها إثبات صدق دعوى المتنِّبئ2.
وأُصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأُمور التالية
1 ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها.
2 ـ الظروف الّتي فيها نشأ وتربّى وادّعى النبوّة.
3 ـ المفاهيم الّتي تبنّاها ودعا إليها.
4 ـ الأساليب الّتي اعتمدها في نشر دعوته.
5 ـ شخصية أتباعه الذين آمنوا به ولزموه وصحبوه.
6 ـ ثباته في سبيل أهدافه، وصموده في دعوته.
7 ـ أثر رسالته في تغيير البيئة الّتي ظهر فيها.
ومن هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى على وجه، وكذبها على وجه آخر، ولا ندّعي اختصاص القرائن بها، بل يمكن للممعن في رسالته، وحياته، استخراج قرائن أُخر، يستدلّ بها على صدق دعواه، وإليك بيانها، واحدة بعد أُخرى.
القرينة الأُولى: سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها
نشأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أرفع بيت من بيوت قريش، وأعلاها كعباً، وأشرفها شأناً. فسيرة جدّه عبد المطلب، وعمّه أبي طالب، في الكرم والسخاء وإغاثة الملهوفين، وحماية الضعفاء، معروفة في التاريخ والسِيَر.
وأمّا سيرة النبي الأكرم، فكفى في إشراقها أنّه كان يُدعى بـ"الأمين"، وكان محلّ ثقة واعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم. فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة، وإجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم. وذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة الّتي هدمها السيل موضع الركن، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى، حتى تحالفوا واستعدّوا للقتال، فَقَرَّبَتْ بنو عبد الدار جُفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عُدَيْ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، تُفَكِّر في مَخْلَص من هذه الورطة.
ثم إنّ أبا أُمية ابن المغيرة، الّذي كان أَسن قريش كلها، اقترح عليهم اقتراحاً، قال: "يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أوَّلَ من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه". ففعلوا. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوه قالوا: "هذالأمين"، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هَلمّ ثوب"، فأُتي به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده. ثم قال: "لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميع". ففعلوا. حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنوا عليه كما أرادوا.
وقد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه الحادثة بأبيات، منها:
رضينا وقلنا: العدلُ أَوَّلُ طالـع يجيء من البطحاء من غير موعـدِ
ففاجأنا هذا الأمين محمـــد فقلنا: رضينا بالأمين محـــمـدِ
بخير قريش كلّها أمس شيمة وفي اليوم مع مـا يحدث الله في غدِ
فجاء بأمر لم يــر الناس مثله أَعَمَّ وأَرضى فــي العواقب وألبدِ
وتلك يد منه علينا عظيمة يروب لها هـذا الزمــان ويعتدي3.
هذه لمحة موجزة عن خلقه وسيرته المحمودة المعروفة بين الناس، وقد احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته، وبعد غلبته على أعدائه الألداء، حتى في نصره النهائي حين فتح مكة ودخل صناديد قريش الكعبة، وهم يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأخذ رسول الله بباب الكعبة، وقال: "لا إله إلاّ الله، أنجز وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وغَلَبَ الأحزابَ وَحْدَه". ثم قال: "ما تظنون"؟. فأجابت قريش "نظن خيراً، أخ كريم". فقال: "فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ﴾(يوسف:92)"4.
والعجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة الهجرة، وهمُّوا باغتياله، وإراقة دمه، كانت أموالهم بين يديه، وأمانةً عنده، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت والهجرة إلى المدينة، أمر عليّاً أن يقيم صارخاً، يهتف بالأبطح، غدوة وعشياً: "من كان له قِبَلَ محمد أَمانة أو وديعة، فليأت، فَلْنُؤَدِّ إِليه أَمانته"!.
فأقام عليٌّ بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الودائع الّتي كانت عنده للناس5.
ومن ظريف أخلاقه عفوه عن العدو الغادر، الّذي أراد قتله، بمجرد التجائه إليه:
فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى الغزوات، ذهب النبي الأكرم لحاجته، فأصابه المطر، فبلّ ثوبه، فنزعه صلى الله عليه وآله وسلم ونشره ليجف، فألقاه على شجرة، ثم اضطجع تحتها. فرآه العدو وحيداً بعيداً عن أصحابه، فاختار أحدهم سيفاً صارماً، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور، فقال: "يا محمد، مَن يمنعك مني اليوم؟".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الله".
عندئذ وقع السيف من يده فأخذه الرسول الأكرم وقام به على رأسه فقال: "من يمنعك مني اليوم؟".
قال: "لا أحد".
ثم قال: "فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، والله لا أُكْثِرُ عليك جمعاً أبد".
فأعطاه رسول الله سيفه، ثم أدبر الرجل، ثم أقبل بوجهه، فقال: "أما والله، لأنت خير مني".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أحقّ بذلك منك"6.
هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة المعترف بها عند الصديق والعدو، ولو أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة، في أدبه وخلقه وسيرته، ولأجل ذلك اعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان، على تلك السيرة، وجعلها جزءاً من القرائن الّتي استفاد منها كونه صادقاً في دعوته7.
وهذا الطريق متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر، لتبيين صدق المدّعي والمنكر أو كذبهما، والتوصّل إلى كنه الحوادث1. ولكنه لا يختصّ بالمحاكم، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة، منها إثبات صدق دعوى المتنِّبئ2.
وأُصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأُمور التالية
1 ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها.
2 ـ الظروف الّتي فيها نشأ وتربّى وادّعى النبوّة.
3 ـ المفاهيم الّتي تبنّاها ودعا إليها.
4 ـ الأساليب الّتي اعتمدها في نشر دعوته.
5 ـ شخصية أتباعه الذين آمنوا به ولزموه وصحبوه.
6 ـ ثباته في سبيل أهدافه، وصموده في دعوته.
7 ـ أثر رسالته في تغيير البيئة الّتي ظهر فيها.
ومن هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى على وجه، وكذبها على وجه آخر، ولا ندّعي اختصاص القرائن بها، بل يمكن للممعن في رسالته، وحياته، استخراج قرائن أُخر، يستدلّ بها على صدق دعواه، وإليك بيانها، واحدة بعد أُخرى.
القرينة الأُولى: سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها
نشأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أرفع بيت من بيوت قريش، وأعلاها كعباً، وأشرفها شأناً. فسيرة جدّه عبد المطلب، وعمّه أبي طالب، في الكرم والسخاء وإغاثة الملهوفين، وحماية الضعفاء، معروفة في التاريخ والسِيَر.
وأمّا سيرة النبي الأكرم، فكفى في إشراقها أنّه كان يُدعى بـ"الأمين"، وكان محلّ ثقة واعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم. فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة، وإجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم. وذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة الّتي هدمها السيل موضع الركن، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى، حتى تحالفوا واستعدّوا للقتال، فَقَرَّبَتْ بنو عبد الدار جُفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عُدَيْ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، تُفَكِّر في مَخْلَص من هذه الورطة.
ثم إنّ أبا أُمية ابن المغيرة، الّذي كان أَسن قريش كلها، اقترح عليهم اقتراحاً، قال: "يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أوَّلَ من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه". ففعلوا. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوه قالوا: "هذالأمين"، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هَلمّ ثوب"، فأُتي به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده. ثم قال: "لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميع". ففعلوا. حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنوا عليه كما أرادوا.
وقد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه الحادثة بأبيات، منها:
رضينا وقلنا: العدلُ أَوَّلُ طالـع يجيء من البطحاء من غير موعـدِ
ففاجأنا هذا الأمين محمـــد فقلنا: رضينا بالأمين محـــمـدِ
بخير قريش كلّها أمس شيمة وفي اليوم مع مـا يحدث الله في غدِ
فجاء بأمر لم يــر الناس مثله أَعَمَّ وأَرضى فــي العواقب وألبدِ
وتلك يد منه علينا عظيمة يروب لها هـذا الزمــان ويعتدي3.
هذه لمحة موجزة عن خلقه وسيرته المحمودة المعروفة بين الناس، وقد احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته، وبعد غلبته على أعدائه الألداء، حتى في نصره النهائي حين فتح مكة ودخل صناديد قريش الكعبة، وهم يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأخذ رسول الله بباب الكعبة، وقال: "لا إله إلاّ الله، أنجز وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وغَلَبَ الأحزابَ وَحْدَه". ثم قال: "ما تظنون"؟. فأجابت قريش "نظن خيراً، أخ كريم". فقال: "فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ﴾(يوسف:92)"4.
والعجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة الهجرة، وهمُّوا باغتياله، وإراقة دمه، كانت أموالهم بين يديه، وأمانةً عنده، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت والهجرة إلى المدينة، أمر عليّاً أن يقيم صارخاً، يهتف بالأبطح، غدوة وعشياً: "من كان له قِبَلَ محمد أَمانة أو وديعة، فليأت، فَلْنُؤَدِّ إِليه أَمانته"!.
فأقام عليٌّ بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الودائع الّتي كانت عنده للناس5.
ومن ظريف أخلاقه عفوه عن العدو الغادر، الّذي أراد قتله، بمجرد التجائه إليه:
فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى الغزوات، ذهب النبي الأكرم لحاجته، فأصابه المطر، فبلّ ثوبه، فنزعه صلى الله عليه وآله وسلم ونشره ليجف، فألقاه على شجرة، ثم اضطجع تحتها. فرآه العدو وحيداً بعيداً عن أصحابه، فاختار أحدهم سيفاً صارماً، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور، فقال: "يا محمد، مَن يمنعك مني اليوم؟".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الله".
عندئذ وقع السيف من يده فأخذه الرسول الأكرم وقام به على رأسه فقال: "من يمنعك مني اليوم؟".
قال: "لا أحد".
ثم قال: "فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، والله لا أُكْثِرُ عليك جمعاً أبد".
فأعطاه رسول الله سيفه، ثم أدبر الرجل، ثم أقبل بوجهه، فقال: "أما والله، لأنت خير مني".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أحقّ بذلك منك"6.
هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة المعترف بها عند الصديق والعدو، ولو أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة، في أدبه وخلقه وسيرته، ولأجل ذلك اعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان، على تلك السيرة، وجعلها جزءاً من القرائن الّتي استفاد منها كونه صادقاً في دعوته7.
تعليق