تتنامى مدركات أي منجز تاريخي فاعل مع وجدانيات الموقف الانساني من جميع اوجه التكوين المعنوي، وموضوع هجرة النبي(ص) الى يثرب من المواضيع التي انفتحت على العديد من القيم المعنوية، ومنها النظر الى موضوع الهجرة كهدف يواجه جميع الأنبياء، فقد أصبح التهجير هوية سامية وعنواناً مهماً من عناوين البلاء الرسالي، فهو وحد هويات الأنبياء، وقدم الهجرة دلالة من دلالات النفي، فمشركو مدين طردوا شعيب (عليه السلام)، ونبي الله ابراهيم(عليه السلام) هُجّر، ولوط(عليه السلام) ابن اخيه طردته اهالي سدوم وعمرة، وارتبط موضوع الهجرة بالتعذيب والفتنة، ونبي الله موسى(عليه السلام)، بفضل العزلة والهجرة وكان من اهداف رسالته ان يهاجر نبي الله اسرائيل من مصر.
ان التهجير شكل غريزة عند كبار المشركين، وكان الرد دائماً على هؤلاء الناس هو الغضب الالهي عليهم وتدميرهم، أما في هجرة خاتم الأنبياء محمد (ص) لم يجر اي عقوبة الهية عليهم، فقد تحولت العقوبة الالهية من الدنيوية الى اخروية، فما عاد اهلاك القريشي وارد، ولهذا تحولت الهجرة من مجرد هروب الى عملية جهاد، مبتدئاً بجهاد المواجهة وبعدها القتال، فلو نظرنا الى الهجرة النبوية وهي التي كانت دلالة من دلالات استباقية في تشخيص ورقة بن نوفل (هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى.. ليتني اكون حيا اذ يخرجك قومك).
البعض يسأل عن اسباب الهجرة من مكة الى المدينة المنورة، فهي أولاً لعدم تقبل مكة للإسلام ابتداء، وبالمقابل استعداد المدينة المنورة لقبول دعوته، وحين التقى النبي(ص) ستة اشخاص من الخزرج، كان لهم معرفة في استباقية خبر اشاعه اليهود بقرب ظهور النبي(ص)، ولذلك سرعان ما انتشر الاسلام في كل دار في المدينة المنورة، وأصبحت المدينة أرضاً خصبة لبناء الدولة، شعب وسلطة ودولة، بعدما نكلت به قريش واضطهدت المسلمين، فأصبحت الهجرة من ضرورات الحياة، وإقامة الدولة الاسلامية تكليف لبناء مدينة مدنية ليست محلية او قومية، وإنما مدينة عالمية.
ولابد لمن يتأمل في سمات هذه المدينة، سيجد أن أهم النتائج التي سمت بالهجرة النبوية هي السعي لنجاة النبي محمد(ص) والمسلمين من براثن قريش، وقد استكلبت حتى وصلت محاولاتها الى القتل، ومن ثم اقامة الدولة الاسلامية والمجتمع الاسلامي وترسيخ مبدأ الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والقضاء التام على الاحقاد التي كانت مشتعلة في صدور القبائل المتناحرة، وتوحيد الأمة تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله..
تعليق