كان يوم الثامن من ربيع الأول ، لعام 260 هجرية يوماً كئيباً في مدينة سامراء حيث انتشر نبأ استشهاد الإمام العسكري في عنفوان شبابه .
عطلت الأسواق وهرع الناس إلى دار الإمام يبكون وشبَّه المؤرخون ذلك اليوم الحزين بيوم القيامة ، لماذا ؟ لان الجماهير المحرومة التي كانت تكتم حبها واحترامها للإمام العظيم خشية بطش النظام .. أطلقت اليوم العنان لعواطفها الجياشة .
آه كم عانى أهل بيت النبوة في سبيل ترسيخ دعائم الدين ونشر قيم التوحيد .
كم سفكت دماءهم ، وهتكت حرماتهم ولم ترع حقوقهم وقرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
حقاً كم هي عظيمة محنة أولياء الله تعالى على مر العصور .. وكم هو عظم مقامهم عند ربهم وأجرهم !
وهذا الإمام العظيم الذي يرحل عن دنياهم ، ولم يتجاوز عمره السادسة والعشرين . كم كابد من ألوان المحن ، منذ عهد المتوكل الطاغوت التافه الذي ناصب أهل بيت الرسالة ـ العداء ـ وهدم قبر أبي عبد الله الحسين (ع) .. وإلى عهد المستعين بالله الذي حبس الإمام عند واحد من أشد رجاله عداوة لآل البيت .. ( اوتاش الذي اهتدى بالإمام بعد ان رأى منه الكرامات ) . وكاد ان يقتل الإمام لولا ان الله لم يمهله فخلع عن السلطة .
وإلى عهد المعتز الذي عمد على سجن الإمام فتضرع الإمام إلى الله حتى هلك .
وحتى عهد المهتدي الذي ظل يضايق الإمام حتى اعتقله وأراد قتله ولكن الإمام أخبر واحداً من أصحابه واسمه أبو هاشم بما يلي :
يا أبا هاشم ان هذا الطاغية أراد قتلي في هذه الليلة . وقد بتر الله عمره ، ليس لي ولد وسيرزقني الله ولداً 1 .
وأخيراً في عهد المعتمد الذي لم يزل يؤذيه حتى اعتقله .
بلى عاش الإمام أكثر أيام قيادته في محن وها هو يقضي نحبه . هل مات حتف أنفه . أم دسَّ إليه السم ؟
لقد كان السم من أشهر وسائل الإغتيال عند السلاطين في ذلك العهد . وكانت خشيتهم من أمثال الإمام من القيادات الدينية المحبوبة تدفعهم إلى تصفيتهم بمثل هذه الطريقة .
ويزيدنا دلالة على ذلك طريقة تعامل النظام مع الإمام في مرضه حيث أوعز الخليفة إلى خمسة من ثقاته بملازمة الإمام في مرضه ، وجمع له بعض الأطباء ليرافقوه ليل نهار 2 .
لماذا ؟ يبدو ان هناك سببين لمثل هذا التصرف الغريب :
أولاً : محاولة التنصل عن مسؤولية اغتيال الإمام ، أمام الجماهير . وحسب المثل المعروف عن السياسيين : أقتله وابك تحت جنازته .
ثانياً : كان معروفاً عند كل الناس وبالذات عند الساسة ، ان أئمة أهل البيت يحظون باحترام أوسع الجماهير وان الشيعة يعتقدون بان الإمامة تنتقل فيهم كابراً عن كابر . وها هو الإمام الحادي عشر يكاد يرحل عنهم إذاً لابد ان يكون هناك وصي له فمن هو هذا الوصي ؟ كان الخلفاء العباسيون يحاولون دائماً معرفة الوصي عند شهادة واحد من الأئمة . وكان الأئمة يخفون أوصيائهم عند الخوف عليهم حتى يزول الخطر .
ومن جهة اخرى كانت أحاديث المهدي المنتظر سلام الله عليه قد ملأت الخافقين وكان العلماء يعرفون انه الوصي الثاني عشر . ومن غير المعقول الا يعرف سلاطين بني العباس شيئاً من تلك الأحاديث . لذلك تراهم يبحثون عن المنتظر بكل وسيلة لعلهم يقدرون على اطفاء نوره الإلهي .. ولكن هيهات .
من هنا اتخذ المعتمد العباسي تدابير استثنائية عندما ثقل حال الإمام وأشرف على الرحيل .
اما بعد وفاته فقد أمر بتفتيش داره ، ومراقبة جواريه ، ولم يكن يعرف ان الله بالغ أمره وان الإمام المنتظر قد ولد قبل أكثر من خمس سنوات وانه قد أخفي عن عيون النظام . وان صفوة الشيعة قد بايعوه .
وهكذا رحل الإمام بسم المعتمد 3 وبعد وفاته وغسله وتكفينه صلى عليه من طرف السلطة أبو عيسى ابن المتوكل نيابة عن الخليفة وبعد الفراغ كشف وجه الإمام وعرض على الهاشميين والعلويين ـ بالذات ـ وكبار المسؤولين ، والقضاة والأطباء وقال هذا الحسن بن ( علي ) بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه ، وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ومن المتطَّببين فلان وفلان ، ثم غطى وجهه الشريف 4 .
وهذا الاجراء جاء لنفي تورط السلطة في قتل الإمام . مما يدل على أنها كانت متهمة من قبل الناس بذلك .
هكذا رحل الإمام . وخلف وراءه مسيرة وضاءة ليهتدي بنورها الأجيال .. ودفن في مقامه الشريف في مدينة سامراء عند قبر والده حيث لا يزال المسلمون يتوافدون للسلام عليه .
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً ..
وسلام الله على شيعته واتباعه إلى يوم القيامة 5 ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- 1. المصدر : ( ص 254 ) نقلاً عن مهج الدعوات : ( ص 274 ) .
- 2. المصدر : ( ص 267 ) عن الإرشاد : ( ص 383 ) .
- 3. المصدر : ( ص 267 ) عن الارشاد : ( ص 383 ) .
- 4. المصدر : ( ص 268 ) نقلا عن الإرشاد : ( ص 383 ) .
- 5. المصدر كتاب: الإمام العسكري (عليه السلام) قدوة و أسوة ، لسماحة السيد محمد تقي المدرسي دامت بركاته.
تعليق