من يقرأ طموح شاب يستطيع أن يفهم نوع العطش الذي يقوده الى جوهر الحياة، وميسان من المدن الجنوبية التي لها ألفة عجيبة مع المفهوم التضحوي، لذلك كانت الأحزاب والتيارات السياسية تحاول التأثير على فكر أبناء هذه المدينة بما يتناغم مع ثورية أهلها وناسها.
وربما أعمار هؤلاء الشباب لا تسمح لهم بالانغماس في التفاصيل الفكرية لكل انتماء، لكنهم ادركوا تماما أن معنى الحرية هو البحث عن الانتماء، وكل تلك الأفكار المتنوعة الصاخبة ومنها الهادئة، لا تقدر أن تروي عطش من يبحث عن الهوية.
اراد منتظر هاني أن يدخل منتصف العقد الثاني من عمره، وهو واثق من خطوته وخاصة بعد النجاحات التي حققها في عالم الدراسة، والشهرة التي حققها كلاعب كرة قدم، وحضوره الفاعل في الجلسات الثقافية العامرة بالشعر وشعبيته، وخفة دمه، ورزانة شخصيته كشاب عاقل، مما تجعله يحمل الهم الوطني.
فكان يترصد جميع اخبار الحرب والمواجهة مع داعش، ويحلم بالالتحاق الى الجبهة كمقاتل عراقي يقاتل تحت راية الحشد الشعبي بانتمائه العراقي غير المجزأ تحت أطر هامشية.
أرادوا أن يحاوروه في معنى الانتماء، فأجاب وهو يقف بسنواته الفتية وثقافته المتمرسة على التأمل:ـ أي حوار يبعدنا عن الانتماء الحقيقي لجوهر الدين والوطن هو مخترق، لقد فهم منتظر حدس المرجعية المباركة حين أطلقت نداء الفتوى لتبعد خراب السياسة والتحزبات عن الانتماء الوطني، الجميع ينادي بالحرية والتحرر والمرجعية المباركة نادت باتخاذ فعل تضحوي قياسي يتواءم مع حجم المواجهة:ـ دعوا التنظير عنكم وتوجهوا الى الجبهات ودعونا اليوم من مساحات التنظير.
لم يبلغ منتظر السادسة والعشرين بعد، وامتلك كل هذه البصيرة، والتي جعلته يقف وسط مقهى القضاء وهو يلاحظ ان تلك المقهى قسمت قنفاتها على شكل دوائر وكل دائرة تتبع لمسميات حزب ما وتيار ما، ولا يسمح لبقية الرواد الجلوس إلا ضمن حدودها العامة.
فقال: أنصحكم وأنا أصغركم.. اجمعوا الآراء كلها وصبوها في صالح الوطن، ولو فوتم فرصة استثمار هذه الفتوى سيأتي اليوم الذي تعجزون فيه عن تكوين اسرة واحدة قويمة..!
كيف لكم أن تتدارسوا وقائع شعوب وأمم وتتعاطفون مع شعوب العالم كله، وتهملون واقع بلدكم العراق..؟!
لقد تركتم السواتر بعيدا عن نقاشاتكم، والساتر برزخ، كل جانب منه له هويته ولا ثالث بينهما.. لماذا لا تفهموا نداء الفتوى وجوهر حكمته.. الأوطان أمانة، ونعمة لا تقدر بثمن، ولا يعرفها الانسان إلا حين يفقدها لا سمح الله.
عقب حينها احد رواد المقهى من الشيوخ: ألا تنظرون الى بلادكم تحترق واسرائيل تعيش آمنة بهدوء وسلام..! يبدو ان بعض الحوارات استطالت فأغضبت منتظر هاني الذي سرعان ما قطع الحديث، وراح يركض الى خارج المقهى، مما جعل رواد المقهى باختلاف هوياتهم بقلق شديد، وما هي إلا ساعة عاد ومعه سلم خشبي ومطرقة ولوحة اعلانية رفعها وإذا بها مكتوب عليها (شارع الشهيد منتظر هاني)، وكأن شيئاً لم يحدث..!
كل راح ينصهر في مناقشاته وقناعاته، وبعد مضي أيام قلائل، وإذا برواد المقهى جميعهم يخرجون لاستقبال جنازة الشهيد منتظر هاني، وقرر أبناء المنطقة رفع الحدود الدائرية، وصار اسمها (مقهى الوطن).