الجامعة المستنصرية
تعرضت الدول الاسلامية منذ فجر الرسالة المحمدية إلى هجمات وﺑﺎئية فتاكة كالطاعون والكوليرا والجدري علاوةً على أمراض إنتقالية آخرى ، اثرت انعكاساتها وأﺛﺎرها السلبية على حياة المجتمع الاسلامي والانشطة الحياتية بكافة مجالاتها. ومن اجل ذلك وقف المنظور الاسلامي منذ بداية الرسالة المحمدية من قضية الاوبئة والجوائح التي تتعرض لها المجتمعات الانسانية بشكل عام عبر منهج علمي متطور يقوم على اساس التدابير الصحية من مختلف جوانب العلاج النفسية والغذائية والطبية والمكانية كالبعد المكاني والحجر الصحي وهي من ركائز التدابير الصحية لمواجهة انتشار الاوبئة الى وقتنا الحاضر .
- ذكر الاوبئة في القران الكريم .
تتباين ايات القران الكريم في ذكر الامراض والجوائح التي تصيب الانسان والطبيعة , حيث وردت ( 416) اية قرانية تشير في مجملها الى قوانين الله على عباده في هذا المجال , لاجل تحقيق غايات ووظائف معينة ومتباينة في الوقت ذاته , وتشير الادبيات التي تتابع علاقة القران الكريم بميدان العلم اجمالا والطب خاصة أن الآيات القرانية في هذا الموضوع أو التي يمكن استنباطها ليست جميعها على سنن واحدة من حيث الدلالة على الموضوعات الطبية، وإنما غالبها يؤخذ منها بالاستنباط في الأمور الطبية. يبلغ عددها في الطب النفسي 130 آية، وفي وظائف الأعضاء 59 آية، وفي علم الأجنة 36 آية، وفي ما يخص النساء 21 آية، وفي العيون 10 آيات، وفي طب المجتمع 43 آية، وفي التشريح 19 آية، وفي الأنف والأذن والحنجرة 15 آية، وفي علم الوراثة 15 آية، وفي الطب الغذائي 18 آية، وفي العناية بالمريض 10 آيات، وفي الجلدية 9 آيات، وفي الطب العلاجي 8 آيات، وفي الجراحة 8 آيات، وفي الشيخوخة 6 آيات، والأطفال 5 آيات، وفي الطب الشرعي 4 آيات، فالمجموع النهائي لعدد الآيات التي تناولت هذه القضايا بصورة مفصلة، أو إجمالية، وبصورة واضحة، أو أنها يفهم منها هي 416 آية مع المكرر.
وفي ايات اخر تشير الى اهمية العلاج في البحث عن الاغذية الرئيسية والمتنوعة وفوائدها التي عادة تكون علاجاً لامراض عديدة هذا مع ضرورة توفير البيئة الملائمة والمناسبة لذلك المرض , كما ورد في الاية القرانية التي تتحدث عن النبي يونس عليه السلام " فنبذناه بالعراء وهو سقيم (45) وانبتنا عليه شجرة من يقطين ". سورة الصافات . وفي حالات اخرى تأتي سنة الله في اصابة عباده بامراض مختلفة كنوع من الابتلاء الرباني لمعرفة مدى قوة ايمان عبده وصبره على الاذى , كما هو حال النبي ايوب عليه السلام في سورة ص الاية 44" انا وجدناه صابراً , نعم العبد انه اواب "". وهناك اية تذكر ان الاصابة بالامراض تأتي من الحشرات كقوله تعالى " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وان تسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " سورة الحج ، الاية 73
اما الجائحة او الاوبئة فغالباً ما ترتبط بتحولات عديدة وتغيرات في الانظمة الاجتماعية والسياسية هذا الى جانب تأثيرها الاقتصادي على تلك البلدان , ويرى من خلال كتب التفاسير والاحاديث النبوية ان غالبا ما يفهم من تلك الجوائح هو اشارة الى دخول مرحلة عقوبه اللاهية بسبب الانشغال بالمستقبل والخصوصية الفردية وما يرافقها من ظلم وجور على المستضعفين في الارض , حتى تصبح تصورات حياة الناس حينما تحتاجهم تلك المتغيرات العديدة في مداخل التاريخ ورهنا للذكريات , وذلك لاجل تقديم نظام اصلح لنجاح الامم وملتقيا مع الحقوق الربانية الحكيمة الهادفة الى العدالة والرحمة بين البشر.
وهناك ايات قرانية عديدة في هذا الصدد تشير الى الصورة التي تبرز مدى غرور الانسان في قدرته على تسير مقدرات الارض بعيداً عن ارادة الخالق , كما ورد في قوله تعالى في الاية الكريمة من سورة يونس الاية 24 :
" وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا
فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالامس كذلك نفصل
الايات لقوم يتفكرون " .
وفي ايات اخرى في قوله تعالى :
" ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم
بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " اية41 سورة الروم .
- تأويل الاوبئة في فكر المذاهب الاسلامية .
علي حسين الخباز, [19/04/2021 05:20 م]
يعد هذا الموضوع حلقة من حلقات التفاعل مع رمزية الاوبئة والجوائح عبر تفسيرات قرانية ونبوءات دينية ومذهبية مختلفة وذلك عبر التعرض في دلالة جمعية في الاحاديث النبوية او المذاهب المختلفة , فقد ارتبطت الاحاديث النبوية في تفسير الجوائح حول جانبين الاول بانه اية من ايات الله يسلطها الله علي عباده استناداً الى التفسير القراني للايات التسعة التي اظهرها الله على فرعون وقومه وكان ( الرجز) أي الطاعون هو العذاب الذي سلط عليهم عندما مات ( 70) الف شخص في يوم واحد كما يذكر بعض المؤرخون والمفسرون( 8) كما جاء ذلك في سورة الاعراف اية 134
"ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما
عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن
معك بني اسرائيل " .
اما الجانب الثاني من الرؤية النبوية فكان في طرح بعض الصور والمشاهدات الايجابية للجوائح والاوبئة التي تأتي في احياناً كثيرة بصيغة الشهادة وفي الاحاديث النبوية الشريفة التالية عندما قال رسول الله في صحيح مسلم " الطاعون شهادة لكل مسلم" (9), وفي حديث اخر في الموضوع ذاته أي الطاعون انه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء " , فجعله الله رحمة للمؤمنين , فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً , يعلم انه لن يصيبه الا ما كتب الله له , الا كان له قبل اجر شهيد.
اما في مخيلة الفكر المذهب السني التقليدي جاء العلاج مع رمزية الاوبئة من خلال الاحادث النبوية وطرح ذلك في الثقافة الاسلامية تعد واقعة عمواس التي ذهب فيها من الصحابة كلا من معاذ بن جبله , وعبيد الله بن الجراح وغيرهم فكان هذا الحدث طريقاً نموذجياً للوصول الى الجنة كما هو حال الجهاد في سبيل الله (11).
اما فكر مذهب الاثنى عشر فقد ارتبطت رمزية الاوبئة في تفسيراتهم وادبياتهم استناداّ الى روايات اهل بيت النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم في كونه من ايات اخر الزمان ومن ايات ظهور الامام المهدي بعد غيبته منذ ( 329 هـ) ويذكر في ذلك محمد باقر المجلسي في كتابه بحار الانوار ان الامام عليه السلام يذكر عن هذا الشأن أي علامات ظهور المهدي انه :
" قدام القائم موتتان موت احمر وموت ابيض حتى يذهب
كل من سبع خمس , والموت الاحمر السيف والموت الابيض
الطاعون ",
كما يذكر الامام محمد الباقر وهو الامام السادس في ائمة الاثني عشر قائلاً : " لا يقوم القائم الا على خوف شديد وزلزال وطاعون قبل ذلك ".
كما يربط الفكر الشيعي الامراض في التفسير التوفيقي الذي جمع التفسيرات الطيبة مع الاثار النبوية ذات الطابع العيني كما يربط العلاج الطبي مع ثوابت ورموز المذهب السني . وغيرها من الاحاديث العددية المروية من اهل البيت عليهم السلام في الايات والدلائل التي تسبق ظهور القائم والاحداث التي تربط بظهوره.
- التدابير الاسلامية لعلاج الاوبئة . تشير الاحاديث النبوية الشريفة والايات القرانية التي تعنى بالجانب الصحي للانسان الى حثَّ المسلمين الى الالتزام بالنصائح والتوجيهات الوقائية من الأمراض، فالإنسان في نظر الإسلام أكرم مخلوق على وجه الأرض، فقال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وفيه من الأسرار التي جعلته ان يكون في قوله تعالى " ان اكرمكم عند الله اتقاكم ". وتنوَّعت هذه التوجيهات للاهتمام بكافَّة جوانب الوقاية من الأمراض، ومن أبرز تلك التدابير الوقائية.
- العلاج بالتربية الايمانية بمعنى اهمية العامل النفسي في التدابير العلاجية من خلال الإيمان بالله تعالى وبالقضاء والقدر، وإرجاع الأمر كله إلى الله تعالى مع الأخذ بجميع الأسباب المتاحة لدفع المرض، والأخذ بالحيطة والوقاية قبل الوقوع والإصابة، ثم الأخذ بجميع الأسباب المتاحة للعلاج والشفاء.
- الحث الى طلب علم الطب . فقد رُوِي عن النبي صلَّى الله عليه واله وسلَّم في حديثه الشريف " ما أنزَل الله داءً، إلاَّ أنزَل له شفاءً" ، وهي دعوة علمية لضرورة تقصِّي اسباب المرض وعلاجه ، ومن ثَمَّ ربْط الرعاية الطبيَّة والصحيَّة بالعلم. كما اهتمَّ النبي محمد صلَّى الله عليه واله وسلَّم على ضرورة الابتعاد عن الشعوذة والخُرافات وأواصر الجاهلية التي كانتْ تعوق تقدُّمَ العلوم الطبية ، وأقام النبي في المدينة المنورة أوَّل مركز صحي في المسجد النبوي ؛ حيث كان فيه موضع لعلاج الجَرحى والمرضى، كما أمَر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في منهجه الصحي بالتداوي، فقد صحَّ عنه أمْرُ البعض بالتداوي بالحِمْيَة، وقطْع عِرْقٍ لبعضهم، وكي آخرَ، وقال للامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه وكان قد رَمِد " لا تأكُلْ من هذا - يعني: الرطب - وكلْ من هذا؛ فإنه أوْفَق لك" ؛ يعني سلقًا قد طُبِخ بدقيقٍ أو شعير.
- الحَجْر الصحِّي في منهجية الرسالة المحمدية. كانت التوجيهات النبوية الخاصة بالتدابير الوقائية تجاه الاوبئة والأمراض الوبائية مِن أوائل ما وضع من قواعد لِمَا يُعرَف حديثًا "بالحجر أو العزْل الصحي"، حيث بيَّن النبي محمد صلَّى الله عليه واله وسلَّم الإجراءات الصحيَّة في حالات الأوْبئة والجوائح ، فقال: " إذا سمعتم به بأرضٍ، فلا تقدموا عليه، وإذا وقَع بأرضٍ وأنتم بها، فلا تَخرجوا فرارًا منه " .
وأيضًا حرَص الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم على عدم انتقال العدوى من المرضى للأصحَّاء، فقال: ((لا يُورد ممرضٌ على مُصِحٍّ)) (18) وغيرها الكثير. فمن الآليات الوقائية من الأوبئة في الإسلام :
الحجر الصحي وهي على نوعان:
1- الامتناع عن الفرار من الوباء فقد ثبت عنه : أنه قال عن الطاعون «إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فلاَ تَقْدمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ.» .
2- الامتناع عن الدخول على الغير في حال المرض وقال في هذا المورد «لا يورد ممرض على مصح» وإن كان هذا في معرض الحديث عن الإبل، لكن تعتبر من القواعد الوقائية، فإن كان بين الناس مريض فلا يرد عليهم أي لا يختلط ولا يدخل عليهم .
هذا ولم يذكر الدواء لأن ذلك مرده الى الجهد الانساني ليكون سببا في طلب الشفاء، وحث على الوقاية بطرق عديدة التي مازالت منهجا معاصرا أمام ترسانة العلوم والبحوث الحديثة، هذا مع التاكيد على التربية الروحية بالتركيز على علاقة الله بعبده وأن الشفاء من الله ، لذلك كان من قول إبراهيم عليه السلام «وإذا مرضت فهو يشفيني». هذا الى جانب الاخذ بالاسباب المادة للعلاج كما في قوله تعالى في الحديث القدسي الشريف " ابى الله الا ان تسير الامور باسبابها "
تُعَدُّ النظافة شعار الحضارة الإسلامية منذ التاسيس عندما جعَل الله الطهارة من صفات المؤمنين في الاية الكريمة " وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " سورة البقرة الاية 222، وجعَل الوضوء شرطًا لإقامة الصلاة، وهناك العديد من الأحاديث النبوية التي تحضُّ على نظافة الجسم والباس والبيئة بشكل عام ، وهي بدورها تشكل أحد أهمِّ أسباب الوقاية من الأمراض والتغلُّب على اسبابه من خلال توفير التعقيم والادوات اللازمة لمكافحة الفايروسات والطفيليات والبكتيريا.
ومن التدابير الوقائية الاسلامية الاخرى لعلاج الاوبئة كانت الرياضة وهي من التدابير التي دعا اليها القران الكريم كما ورد في الاية الكريمة " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ " سورة الأنفال الاية (60 ) ودعى النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم وحثَّ عليها لزيادة قوة المسلم لدواعي الجهاد عن دين الله، والأصل الشرعي لهذا الاتجاه بقوله الكريم " المؤمن القوي خيْرٌ وأحبُّ عند الله من المؤمن الضعيف" ، وقد تضمَّنت الأحاديث النبوية جملة من الرياضات المهمَّة التي حثَّ عليها ويأتي على رأْسها الرِّماية والفروسية والسباحة والمبارزة.
إن المستجدات الطبية يحتاج حلها من الناحية الشرعية إلى تعاون علماء الدين مع الأطباء، فالأطباء يكشفون عن حقائقها وتفاصيلها، والشرعيون يصدرون عن فهم ورؤية أحكامها، وبذبك يتحقق التكامل والدقة. العلاقة بين الفقه والطب علاقة وثيقة في مجالات متعددة، نذكر أهمها بإيجاز شديد، وهي: أولاً: أن جميع مسائل الطب تخضع في الإسلام لأحكام الشريعة من حيث الحل والحرمة، ومن حيث الالتزام بالأخلاق والآداب المطلوبة