بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾
صدق الله العلي العظيم
وقع البحث بين المفسرين في تحديد عالم الإشهاد وكيفية الإشهاد، كيف تم إشهاد الله للخلائق؟ وفي أي عالم كان هذا الإشهاد؟ وفي أي مرحلة كان هذا الإشهاد؟ وهنا ثلاثة تفسيرات للآية المباركة:
التفسير الأول: أن المراد بالشهادة الشهادة الوجدانية الفطرية.
الآية تشتمل على فقرتين: الفقرة الأولى: بيان مبدأ الإنسان.
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، لم يقل: وإذ أخذ ربك من بني آدم ذريتهم، هذا معروف، لا يحتاج إلى البيان، ذريتهم مأخوذة منهم، هو أراد أن يبيّن مبدأ الإنسان، أن مبدأ الإنسان هو النطفة، ﴿نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾، ﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾، أراد أن يبين أن مبدأ الإنسان نطفة من مني يمنى، ولذلك عبّر بكلمة الظهور، ولم يقل: من بني آدم ذريتهم، بل قال: من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، للإشارة إلى أن مبدأ هذا الإنسان، مهما كان هذا الإنسان عملاقًا، ومهما كان قويًا، ومهما كان صاحب وجود واسع ممتد، إلا أن مبدأه نطفة، من مني يمنى.
والإشارة إلى مبدأ الإنسان للإشارة إلى أن الإنسان لا يعرضه الطغيان والغرور؛ لأنه يرجع إلى هذه النطفة القذرة، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”ما لابن آدم والفخر؟! وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة“، ”"أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وهو ما بينهما يحمل العذرة“، إذا كان هذا مبدأ الإنسان فعلام الغرور وعلام الاستعلاء والتكبر؟! إذن، الفقرة الأولى أشارت إلى مبدأ الإنسان.
الفقرة الثانية: الإشارة إلى مسألة الشهادة.
بعد أن تمت مرحلة الأخذ، تحديد مبدأ الإنسان - وهو النطفة القذرة - قال: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ أنا إنما أخذت هذه الشهادة عليكم كي لا تحتجوا عليَّ يوم القيامة، أنا أخذت الميثاق والحجة التامة عليكم. هذه الشهادة في نظر كثيرٍ من علمائنا هي الشهادة الوجدانية الفطرية الموجودة في عالم الدنيا، لا يوجد عالم قبل هذا العالم، الإنسان بوجدانه وبفطرته في عالم الدنيا يشهد هذه الشهادة، أي إنسان بعد أن تكوّن من النطفة، بعد أن تكوّن في بطن أمه من نطفة من مني يمنى، ثم خرج إلى هذا العالم المادي، أي إنسان كان، إذا تأمل نفسه وجد ربه، ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.
أي إنسان يقرأ نفسه يصل إلى ربه، مهما بلغ هذا الإنسان من الاستكبار، من القوة، من العلم، من المعرفة، كل إنسان إذا رجع لذاته، تجرد عن الإغراءات، تجرد عن الإثارات، تجرد عن جميع المؤثرات الخارجية، إذا رجع إلى نفسه سيجد أنه عين الفقر، وعين الحاجة. هل يستطيع إنسان أن يدفع عن نفسه الموت؟! هل يستطيع إنسنا أن يدفع عن نفسه المرض؟! هل يستطيع إنسان أن يدفع عن نفسه الألم؟! أبدًا، مهما بلغ من القوة المادية أو العقلية، لا يمكن أن يدفع عن نفسه الألم. هذا الإنسان هو عين الفقر، لقرأ نفسه جيدًا لرأى أنه عين الفقر، وعين الحاجة، وأن هناك قوة لا حد لها، ولا نهاية لها، لولاها لانتهى هذا الإنسان، هو يستمد القوة، ويستمد المدد، ويستمد القدرة، من تلك القوة التي لا حد لها، ﴿أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾.
الإنسان إذا قرأ نفسه وجد الحاجة والفقر كامنة في داخل ذاته، ”تؤلمه البقة، وتنتنه العرقة، وتقتله الشرقة“، مهما بلغ هذا الإنسان من القوة، فإنه معرّض لهذه الأحوال الثلاثة التي ركز عليها الإمام أمير المؤمنين . إذن، شهادة الإنسان بربوبية الله شهادة وجدانية فطرية، النفس تشهد بأنها فقيرة محتاجة إلى الله «تبارك وتعالى»، والآية ناظرة لهذه الشهادة الوجدانية الفطرية.
التفسير الثاني: أن المنظور إليه في هذه الآية المباركة هو عالم الذر.
عالم الذر - كما هو موجود في عدة روايات - أن الله «تبارك وتعالى» قبل خلق هذا العالم المادي، انتزع من كل إنسان ذريته، بدأ من آدم إلى آخر إنسان على الأرض، وانتزع من كل إنسان ذريته، فعندما فصل الجميع، وأحضرهم في عالم نوراني عقلاني كله نور وكله عقل، وطبعًا في هذا العالم أنوار أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، ولذلك أنت تقرأ في الزيارات التي ترشد إلى عالم الأنوار، عالم الأنوار جزء من عالم الذر، بقية البشر بمرتبة، وأهل البيت بمرتبة نورانية أرقى، ”خلقكم الله أنوارًا، فجعلكم بعرشه محدقين، حتى منَّ علينا بكم“.
وتقرأ في زيارة الحسين : ”أشهد أنك كنتَ نورًا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة“، وكذلك ما ورد عن النبي محمد : ”إن الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق هذا الكون بألفي عام“، ذلك العالم عالم الذر، العالم النوراني العقلاني، جمع فيه الأرواح كلها، ونبهها: ألست بربكم الذي خلقكم في هذا العالم وأوجدكم؟ بمعنى أنه خاطب الأرواح مخاطبةً لفظيةً أو مخاطبةً عقليةً، هذا أمر لم تحدده النصوص، هناك خطاب وصل إلى كل روح، إلى كل نفس، ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ هذه الشهادة وهذا الميثاق سيبقى رصيدًا إلى يوم القيامة ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾.
السيد المرتضى علم الهدى «رحمه الله» من أكبر علماء الإمامية، كان تلميذًا للشيخ المفيد «عليه الرحمة»، وأستاذًا للشيخ الطوسي «عليهم الرحمة جميعًا»، السيد المرتضى والكثير من العلماء أنكروا هذا العالم المسمّى بعالم الذر، وقالوا بأنَّ هذه الروايات ضعيفة السند، لا يعوَّل عليها، ولا تصلح أن تكون تفسيرًا للآية المباركة، وأوردوا اعتراضات على معقولية هذا العالم المسمّى بعالم الذر.
الاعتراض الأول: استحالة نسيان الميثاق.
عندما أوجدت هذه الأرواح والأنفس في هذا العالم المسمى بعالم الذر، إما أنهم لم يكونوا عقلاء، أو أنهم كانوا عقلاء، فإذا لم يكونوا عقلاء فلا وجه للاحتجاج عليهم وهم ليسوا بعقلاء، إنما يصح الاحتجاج على العاقل، إنما تصح إقامة الحجة على العاقل، وإذا كانوا عقلاء فلا يعقل أن ينسوا، بعد أن أحضرهم في عالم الذر وهم عقلاء، وأشهدهم على أنفسهم شهادة ميثاقية مغلظة، فلا يعقل أن ينسى أكثرهم هذه الشهادة، وإذا رجعنا إلى عالم الدنيا لم نجد أحدًا يذكر أنه أحضر في عالم، وأشهد على نفسه من قِبَل الله «تبارك وتعالى» بالربوبية، وتم ذلك الميثاق، لا أحد يذكر ذلك، لو كانوا قد أحضروا في عالم قبل هذا العالم بما هم عقلاء، وأشهدوا وأخذ الميثاق عليهم، لما نسي أكثرهم هذه الشهادة، لا يتصوّر أن ينسى أغلب البشر إلا جماعة قليلة - وهم محمد وآل محمد - هذه الشهادة، مع أنهم حضروها وهم عقلاء.
مثلًا: أهل الجنة يذكرون أحوالهم في الدنيا، ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾، وأهل النار يذكرون أحوالهم عندما كانوا في الدنيا ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ﴾، فأهل الجنة والنار يذكرون أوضاعهم في الدنيا، وأهل الدنيا لا يذكرون أوضاعهم في عالم الذر، ولا يذكرون هذه الشهادة البتة، وهذا الميثاق الذي أخذ عليهم؟! هذا غير معقول.
وعلى فرض أن النسيان ممكن، لنفترض أنهم نسوا فعلًا، إذن لا تصح الحجة عليهم، إنما تصح الحجة على من كان متذكرًا، وأما من كان ناسيًا فكيف تصح الحجة عليه؟! لا معنى لأخذ الحجة على شخص سينسى هذه الحجة وسيغفل عنها، أخذ الحجة عليه مع أنه سينساها وسيغفل عنها لغوٌ لا أثر له، بل ستكون الحجة له وليست الحجة عليه، بل سيحتج على ربه ويقول له: أنت خلقتني في عالم، وأشهدتني على نفسي، ولكنني نسيت الشهادة، فكان بإمكانك إذا أردت الحجة أن تأخذ في عالم أتذكر شهادته وميثاقه، لا أن تخلقني في عالم لا أتذكر شيئًا من شهادته وميثاقه، فالحجة للعبد على ربه، وليست الحجة لله على عبده.
هذا الاعتراض إنما يتم لو حصل للإنسان نسيان الشهادة بالكلية، أما إذا كان النسيان إنما للتفاصيل، وأما أصل الموضوع - وهو الاعتراف بالربوبية - فهو مذكور، فهذا لا يمنع من صحة الاحتجاج. مثلًا: شخص أقرضه قرضًا، أقرضه مئة ألف ريال، وآخذه إلى بيتي، وأحضره، وأحضر شاهدين عليه، وأكتب ميثاقًا عليه، ويوقّع على هذا الميثاق، ثم يخرج من بيتي وينسى، بعد عشرين أو ثلاثين سنة ينسى هذا الدين، ينسى تفاصيل الدين، ولكنه لا ينسى أنه مطالَبٌ في الجملة، يذكر أنه مطلوبٌ لشخصٍ بدينٍ، أما تفاصيل هذا الدين وكيف تم وكيف صار، لا يذكر ذلك، هذا لا يمنع من صحة الاحتجاج عليه.
المجتمع البشري بعد وجوده في هذا العالم المادي، صحيح عرض عليه النسيان، ولكنه نسي تفاصيل عالم الذر، لا أنه نسي أصل الشهادة، وهي الاعتراف لله «تبارك وتعالى» بالربوبية، فأي إنسان إذا رجع إلى نفسه، متخليًا عن جميع الرواسب والمؤثرات، يجد أن في نفسه اعترافًا بربوبية الله «تبارك وتعالى»، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾. إذن الاحتجاج يصح لأن المشهود به - وهو أصل الاعتراف بالربوبية - لم يزل مذكورًا ولو ارتكازًا وإجمالًا، وإن لم يكن مذكورًا بنحو تفصيلي.
الاعتراض الثاني: اللغوية.
هذا العالم لغو، ما هي الفائدة منه؟! ما هو الهدف من عالم الذر؟! الهدف من عالم الذر اعتراف الإنسان بربه، هذا الهدف يمكن تحقيقه في عالم الدنيا، كما ورد في الأحاديث الشريفة: ”إن الله «تبارك وتعالى» جعل على الإنسان حجتين: حجةً ظاهرةً، وهي الأنبياء والرسل والأئمة، وحجةً باطنةً، وهي العقول“، زرع في عقل كل إنسان دليله على ربه، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، هناك طريق آفاقي، وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وهناك طريق أنفسي، وهي الشهادة الوجدانية بالفقر والحاجة إلى الله «تبارك وتعالى».
إذن، إذا كان الهدف من عالم الذر إيصال الإنسان إلى ربه، فهذا الهدف ممكن تحقيقه في عالم الدنيا، فلا حاجة إلى أن يخلق الإنسان في ذلك العالم، ويشهده على نفسه، ويؤكد له الميثاق والعهد، ثم يخلقه في عالم الدنيا مرة أخرى، وينسى تلك الشهادة، فيضطر إلى شهادة أخرى. إذن، إيجاد عالم الذر لغوٌ لأن الهدف منه يتحقق في عالم الدنيا.
هذا الاعتراض أيضًا إنما يرد على الروايات التي تحدثت عن عالم الذر لو كان المقصود بعالم الذر مجرد إقامة الحجة، أما لو كان المقصود بعالم الذر إتمام الحجة لا مجرد إقامة الحجة، بمعنى أن الله «تبارك وتعالى» يريد أن يقول للإنسان يوم القيامة: أنت لم تمر عليك مرحلة من مراحل وجودك إلا وقد أقمت الحجة عليك فيها، عندما كنت في عالم العقول - عالم الجبروت - أقمت عليك الحجة، عندما كنت في عالم الملكوت - عالم النفوس - أقمت عليك الحجة، عندما كنت في عالم الناسوت - عالم المادة - أقمت عليك الحجة، لم تمر في وجودك بمرحلة إلا وكانت الحجة عليك ظاهرة واضحة لله «تبارك وتعالى». المقصود بإيجاد الإنسان في عالم الذر وإشهاده هو إتمام الحجة، لا أصل إقامة الحجة، كي يقال بأنه يستغنى عن ذلك بعالم الدنيا. أراد الله «تبارك وتعالى» تظافر الحجج وتواترها على هذا الإنسان، ولذلك ذيّل الآية بقوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ أنت لا حجة لك يوم القيامة، حجج متظافرة متواترة.
أنت عندما تتأمل وتقرأ بعض الروايات، تجد بعض الروايات تقول: بمجرد.. طبعًا الإنسان قبل أن ينزل إلى عالم الدنيا، قبل أن يهبط إلى هذا العالم المليء بالأشواك والأوساخ والأقذار، قبل أن يهبط الإنسان إلى هذا العالم كان في عالم نوراني خاص، وكان مطّلعًا على هذا العالم، يعرف هذا العالم الذي سيقبل عليه، يعرف هذا العالم الذي سينتقل له، ولكنه يعرف أنه أيضًا باختياره أن يكون صالحًا وأن يكون فاسدًا، وله مقام معين في ذلك العالم، العالم النوراني قبل نزوله إلى هذا العالم، له مقام كان يعيش فيه ويشاهد فيه آيات ربه، وإذا جاء وقت هبوطه يبكي الإنسان؛ لأنه سيدخل عالمًا مليئًا بالمدافعات والصراعات، مليئًا بالتحديات، يبكي هذا الإنسان لأنه سينتقل من عالم النور، من عالم الحضور، من عالم الشهود لآيات الله، إلى هذا العالم المادي، ثم يهبط.
يهبط فيعيش هذه المسيرة، بصراع، بأخذ ورد، بمواجهة مع النفس، بمواجهة مع الشهوة، وهكذا.. ينتصر، يفشل، يصعد يومًا، وينزل آخر، إلى أن تنقضي هذه الحياة، بعد خمسين سنة، أو ثمانين سنة، أو مئة سنة، أيًا كان مقدارها، انقضت هذه الحياة، بأول لحظة تعرج الروح إلى بارئها، بأول لحظة يفترق فيها عن هذه الدنيا، ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾، بأول لحظة ينكشف له المقام الذي كان فيه قبل أن ينزل إلى هذه الدنيا، حالًا أمامه يرى مقامه الذي كان فيه قبل هبوطه إلى هذا العالم، قبل نزوله إلى هذا العالم، حالًا ينظر إليه، هذا كان مقامك قبل خمسين سنة، قبل عشرين سنة، قبل ثمانين سنة، قبل مئة سنة، كنت في هذا الموقع، كنت في هذا المقام، وكنت تبكي على فراقه، وكنت حزينًا على فراقه، الآن رجعت، ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، رجعت كما كنت.
أنت كنت في هذا العالم بلا أب ولا أم ولا ارتباطات ولا علاقات، الآن رجعت كما كنت، انظر إلى موقعك، فإذا كان قد خسر الموقع فشل في الامتحان، فترة الامتحان التي مر بها في الدنيا فشل فيها، سقط، يتحسر على ذلك الموقع، الموقع الذي كان فيه قبل الهبوط إلى الدنيا، يتحسر عليه، يتألم، كيف خسرت هذا الموقع؟! كيف رجعت محبطًا، فاشلًا في الامتحان؟! وإذا كان قد نجح في الامتحان بإرادته وصموده رأى موقعًا أعظم، ورأى موقعًا أكثر نورانيةً وأكثر ازدهارًا، فتسر وتقر عينه بهذا الموقع الجديد.
هذا الإنسان كان له أخلاء وأصحاب قبل أن ينزل إلى هذا العالم، وكان لهم مواقع، كل واحد له موقع، إذا رجع ورأى أن أخلاءه الذين كانوا معه في العالم السابق قبل عالم الدنيا قد بقوا على مواقعهم أو حصلوا على مواقع أسمى، أما هو فقد فشل في الامتحان، وفشل في معركة التحدي، فإنه يزداد ألمًا وحسرةً على أنه فارق هؤلاء الأخلاء. إذن، الغرض من عالم الذر إتمام الحجة على هذا الإنسان، لا أصل إقامة الحجة.
الاعتراض الثالث: استحالة تعدد الشخصية.
إن لازم عالم الذر تعدّد الشخصية، وتعدّد الشخصية أمر محال، وُجِد هذا الإنسان في عالم الذر، كيف وُجِد؟ لم يوجَد بروحه فقط، بل وُجِد بجسمه، لأن القرآن يقول: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي أنه كان أخذًا ماديًا لا أخذًا روحانيًا فقط، وجد في عالم الذر بجسم، وجد الإنسان في عالم الذر وجودًا ماديًا، فتحققت له شخصية، ثم وُجِد في عالم الدنيا وجودًا ماديًا آخر، فصارت له شخصية ثانية، فلازم القول بعالم الذر تعدد الشخصية، وتعدد الشخصية محال؛ لأن لازمه أن يكون الإنسان غير نفسه، أنا كنت شيئًا، والآن أصبحت شيئًا آخر.
هذا اعتراض سجّله بعض علمائنا، ولكنه ليس صحيحًا؛ لأن شخصية الإنسان بروحه لا بجسده، مهما تعدد هذا الجسد، مهما كان هذا الجسد، الإنسان منذ يوم ولادته إلى يوم وفاته يتلبّس بأكثر من ألف جسد؛ لأن هذا الجسد في حال تجدد وتغير، في كل آن يمر على الإنسان تموت ملايين الخلايا من جسده، وتحيا ملايين أخرى من جسده، جسده في تجدد، في تغير، في كل آن، في كل لحظة، في كل وقت، هذا الإنسان يمر بآلاف الأجساد، ولكن شخصيته واحدة، شخصيته بروحه. ولذلك يقولون: الجسد غير الروح، لماذا؟ يقولون: غير المتغير غير المتغير، الجسد متغير، الروح ليست بمتغيرة، فالجسد غير الروح.
إذن، الإنسان شخصيته بروحه، وإلا فماذا تقولون في الرجعة؟! إذا قلنا بأن تعدد الشخصية محال، فماذا تقولون في الرجعة؟! قطعًا الرجعة ثابتة، أن الله «تبارك وتعالى» يُرْجِع بعض الأموات أحياء بأجسامهم المادية إلى هذا العالم المادي مرة أخرى، رجوع بعد الأجسام أحياء إلى هذا العالم المادي أمر مسلَّم به، هناك خلاف في التفاصيل، من الذي يرجع، ومن الذي لا يرجع، ومتى وقت الرجعة... إلخ، هذا خلاف في التفاصيل، وأما أصل الرجعة ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾، أصل الرجعة لا كلام فيه، بعض الأموات يرجعون أحياء بأجسامهم المادية، هل هذا محال وقد دلت عليه الروايات المتواترة؟! إذن، لا يلزم من تعدد الجسد المادي، أو تعدد النشأة، كان في نشأة بجسد، صار في نشأة بجسد آخر، طبعًا معالم ذلك الجسد تختلف عن معالم هذا الجسد، لا يزلم من تعدد النشأة وتعدد الجسد تعدد الشخصية، شخصية الإنسان بروحه لا بجسده، وبالتالي فهذا الإشكال غير وارد على من يقول بعالم الذر. إذن، الروايات إن تمت سندًا فعالم الذر عالم ممكن لا إشكال فيه.
التفسير الثالث: أن الآية تشير إلى مرور الإنسان بعالم إجمالي وعالم تفصيلي.
الإنسان مر بعالمين: عالم إجمالي دفعي، وعالم تفصيلي تدريجي. بيان ذلك: نحن عندما نلاحظ الآيات القرآنية، نجد بعض الآيات ظاهرها أن الوجود أمرٌ دفعيٌ وواحدٌ، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾، الوجود أمر واحد وأمر دفعي، وعندما نقرأ بعض الآيات الأخرى نجد أن الوجود ليس واحدًا، بل الوجود كثير، وليس دفعيًا، بل هو تدريجي، مثلًا: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فكيف نوفق بين هذا وهذا؟ آية تقول: الوجود واحد ودفعي، وآية تقول: الوجود كثير وتدريجي، فكيف نوفق بين هذين؟
التوفيق بين هذين بهذه الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، أي أن الإنسان يمر بمرحلتين، كل موجود على الأرض يمر بمرحلتين: مرحلة وجود إجمالي، ووجود تفصيلي. الوجود الإجمالي عندما قال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ أي: كان موجودًا عندنا وجودًا مختزنًا، كان موجودًا عندنا وجودًا إجماليًا، الآن يبدأ وجودًا آخر، وهو وجود تفصيلي، له طول، عرض، عمق، أب فلاني، أم فلانية، أصدقاء فلانيون، زوجة فلانية، له كذا من الرزق، له كذا من الرزق، له كذا من الشقاوة، هذه كلها تفاصيل، كما يفصّل الثوب، حيث تؤخذ قطعة قماش وتُخَطَّط، وكما تؤخذ قطعة أرض وتُخَطَّط، فتصبح مبنى أو مدرسة مثلًا، ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾، أقداره وحدوده معلومة.
إذن، مر هذا الإنسان بوجود إجمالي غير محدّد، لا حدود له، ثم نزل إلى وجود تفصيلي محدّد. الوجود الأول كان وجودًا دفعيًا لا وجودًا تدريجيًا، وهذا معنى ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾، الوجود الأول كان وجودًا فعليًا، لا حركة فيه، فهو وجود عين الكمال، لأن الوجود الأول عين الكمال فهو وجود دفعي لا حركة فيه، وأما الوجود الثاني فهو وجود مشوب بالنقص، ولذلك يعيش حركة، ينتقل من نقص إلى كمال، ومن كمال إلى أكمل، الوجود الثاني وجود تدريجي متحرّك يعيش من نقص إلى كمال، فهو يعيش الحركة.
في الوجود الأول، كان لا يرى الإنسان إلا ربه عز وجل، الإنسان في وجوده الأول - وهو الوجود الإجمالي - كان لا يشهد إلا ربه عز وجل، لا يشهد شيئًا آخر، أما الوجود الثاني فهو يشهد الخلائق المتنوعة المتغيرة، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾، المراد بالشهادة الوجود الإجمالي الذي مرَّ به الإنسان، وكان وجودًا فعليًا دفعيًا، هو فيه عين الكمال، هو فيه لا يشهد إلا ربه، لأنه عين الكمال لا يشهد إلا ربه، ثم نزل إلى هذا الوجود التفصيلي الكثير، وهذا ما يعبّر عنه علمائنا بقولهم: هناك فرق بين كون الوحدة في عين الكثرة، والكثرة في عين الوحدة. الوحدة في عين الكثرة هي المرتبطة بذلك العالم، بذلك الوجود الإجمالي، والكثرة في عين الوحدة هي المرتبطة بهذا الوجود التفصيلي.
تعليق