يسعى الفن البحثي للإرتقاء إلى الواقع التاريخي (الحقائق) لاستثمار شغف الإنسان الساعي للنظر لجميع منافذ الموروث، وتلك أمانة تبيّن غنى الحقيقة، وما وصل منها إلينا؛ فالبعض مما وصل عبارة عن رؤى مؤدلجة سياسية، وهي عناوين إيحائية مهمة سعى إعلام الفترات الطاغوتية السابقة إلى تعليبها كرؤى جاهزة بالشكل الذي يحاولون به جعلنا نظر إلى رموزنا الخيرة برؤى فرعونية أو ما تسرب من جعبة التأريخ، ليعبر لنا عن وجهة نظر فردية موارية، تقتبس من الواقع التاريخي أحداثا وشخوصا ما، يخدمها كتقنية من تقنيات السياسة، معتبرة وجها واحدا من أوجه الحقيقة التمويه بها؛ فلذلك صدروا لنا تأريخا يصوّر حياة الحسين عليه السلام معتمدة على ثقل المواجهة العسكرية، وكأن الحسين عليه السلام لا يملك شيئا سوى واقعة الطف.
فنجد أن التاريخ المدسوس أراد أن يصوّر للعالم أن الحسين عليه السلام رجل زعامة وحرب، بينما موروثه المقدس يحمل الكثير من التشخيصات العلمية والأخلاقية والفلسفية والإرث الأدبي الخلاق، والبحث عن هذه المميزات لا يقلل شأن واقعة الطف التي هي ملحمة من أهم ملاحم الإسلام إيماناً بقيم الحرية والعدل الإنساني والكفاح المؤمن، ونجد أن الحبكة البحثية التي حركت عوالم القصد المؤثث النصية في بحث السيد محمد صادق الخرسان الموسوم (الإمام الحسين وجهوده في توعية الأمة....وهو من بحوث مهرجان ربيع الشهادة الخامس الذي اقامته الامانتان العامتان للعتبة العباسية والحسينية المقدستين ...) تقوم على كشف جميع الجوانب الحياتية والفكرية في شخصية الرمز المقدس الإمام الحسين بن علي عليه السلام، والتركيز على جهوده المعرفية التي كانت مرتكز نشأته في حياته، ليصل غياهب الجهل ودياجير الظلم عن الأمة، وهذه وجميعها من متطلبات البحث عن الحرية، ونحتاج في النص البحثي إلى سعي حثيث ليوازن حجم الموروث مع عموميات السمات الإمامية ثم يأخذها كصيرورة إيمانية وصيرورة استدلالية يشكل بنية التدوين؛ إذ يرى الباحث السيد الخرسان أن الحسين عليه السلام لم يتقدم لربى الجهاد إلا بعد أن استنفد الجهود الباعثة على الوعي والمحفزة للرجوع إلى الله تعالى...
وهذا المسعى نجده موائما جداً مع مؤثثات الشخصية الإيمانية، وليس من الغريب أن يحمل إمام بمواصفات الحسين ع هذا الترشيد في القول والإرشاد العملي كأدوات للعمل الثقافي الذي ارتكز على وسائل الإقناع. نحن حقيقة نشعر بوجوده في كل ثيمات المعروض التاريخي؛ ولذلك نجد هناك فئات استجابت لنداء العقل والضمير والأحداث التي شكلت الواقع التاريخي تمتلك الكثير من مساحات التأمل والرؤيا مهما بعد زمن الواقعة بحيويتها، فلم تطلع علينا بشكل مفاجئ لتباغتنا الواقعة، فهناك مرحلة تنامي، ولم تكن الواقعة إلا حين صارت هي السبيل التضحوي الوحيد في حينه من أجل أن يبقى بريق الحق، وأن لا تشوبه إرادة سلطوية جائرة أموية أو غير أموية ومثل هذا الموروث يحمل دلالات السعي الجاد وغير الحائد عن أداء الرسالة بأمانة. وقد لا تكون هذه المؤثثات الفكرية واضحة عند الغير، وقد تعددت تقنيات التدوين البحثي عند الباحثين والكتاب؛ فلذلك نجد في هذا البحث الارتكاز على عدة مهام تحليلية وأغلبها استدلالية، تأخذ منحى التبسيط الاستفهامي، فقد جاء في التمهيد البحثي:
لقد اهتم النبي الأعظم ص بالعلم والمعرفة بشرط متابعة منابعه الثرة...
القرآن الكريم والحديث الشريف وأهل البيت عليهم السلام... لكن الإرادة السلطوية حكمت بعد رحيله بعدم تدوين الحديث الشريف، مما أثر بقوة على مساحة نشره وتقليص دوره، فذهب هذا العنوان البهي سوى ما بقي في الصدور، وهذا أيضا كان يشكو من التكتم عليه خشية الجلد والسجن والتعذيب، فدرج مع حامليه وحافظيه، وبهذا ضاعت ثروة فكرية كبيرة، وتابعت السلطة العباسية الفعل الأموي، فنجد ثمة هدف تدويني يشكل أنصاف رمز مقدس ومشروع أكبر ينافح تلك الوسائل العلمية البحثية بمعالجة قلة الرصد الروائي الحديث عند الأئمة ع وهذا بطبيعته سيعالج السبب الرئيسي لمنع الحديث الذي ابتغى ترك مساحة للتحريف والتزوير وابعاد قسري مستبد للدال الحديثي والساعي لترك علامات استفهام حول المروي الصحيح لأهل البيت عليهم السلام والصحابة التابعين.
يرى أهلُ النقد الحديث، أنَّ منع تدوين الحديث يمثل اختراقا للذات الإنسانية، وتدمير حريتها، مع وضوح الموقف الإيماني الذي أنشِئ لغاية بناء مرتكز توازني أثر عمليات التضخيم السلبي، وهذا لا يمكن أن يتمَ بوجود الإيجاب المؤثر؛ فيستغرب السيدُ الباحث لبعض أصحاب الصحاح بأن هذا البعض لم يروِ عن الإمامين الحسنين عليهما السلام أصلا ليصلنا كتابه الصحيح، وهو خال من رواية عن الإمام الحسين عليه السلام، وأولاده الأئمة الأطهار، مع كون البخاري مثلا معاصرا للأئمة (الجواد - الهادي - العسكري) عليهم السلام، فمن حقنا أن نقف عند بعض سمات التاريخ المروي، ونحمل هواجس الرؤيا (المعاناة التاريخية) لمنطلقات أي إجراء نقدي، يعد فنياً موازاة يتوخى منها الإقناع والمتعة الروحية، وهذه بحد ذاتها سمة من خصائص الفن البحثي، لتصل عن طريق الإستدلال إلى مكونات مقص الرقيب، الذي قطع علينا ما صدر من الأحاديث لخلق تشويشات سببها قلة (المروي، والشاهد) وتسليط الضوء على نماذج لا سبيل لفحصها السندي. فيدلنا محور البحث الى تواصل الجهود في توعية الأمة.
وقد سخر الأثر الإستدلالي الاستنتاجي طلبا للقناعة، نستدل عليه من الأمور المعنية بالإمامة، ومعناها ومتطلباتها، لنستخرج منها الملمح العقائدي والقرآني والفقهي والأخلاقي والروحي، اشتباك خيوط التخصص المعرفي بالسلوكي سعيا لتمثيل سمات الشخصية التاريخية الرمز من خلال العام؛ فالإمام علي عليه السلام يرى في بيان ما يترتب على الإمام من واجبات كالإبلاغ في الموعظة، والإجتهاد في النصيحة، وإحياء السنة، وإقامة الحدود والحسين عليه السلام كسائر الأئمة له تأصل بالخير مثلما لباقي الأئمة الذين عرفهم أمير المؤمنين بقوله المشهور: (لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه) وهذا القول سيمنحنا استدلالا قيّما على أثر يعد جزءا من المقدس الإمامي العام، ليكون من صميم اهتمامات الحسين ع هو توعية الأمة وتثقفيها بما يلزم التزامها.
لقد بدا النصُ البحثي على وحدات بنائية متصلة، تتنامى عبر نسيج موضوعي يجمع كلّ حيثيات الوضوح وتفاصيل الموضوع وبناء المجتمع الصالح الذي يُراد له أن يكون القدوة الأداة الفاعلة، لإصلاح بقية المجتمعات المتطلعة الى العدل، الساعية لتأمين حقوقها الإنسانية. هي تشكلات الوعي وليست صياغات تأويلية أو تخيلية، تردم بها فجوات التاريخ. كان الحسين عليه السلام ساعيا لتوطيد دعائم البناء الذاتي استعداداً لانتقاله في المساهمة في بناء الغير. وصاحب مثل هذا المشروع يحتاج الى إشراقة روحية، وتلك دلالة تضيء معالم النص التاريخي، وتكشف الكثير من حيثيات التشخيص الاستدلالي.
لابد لمن يتصدى لعمليه التغيير أن يرتكزَ على قوة العامل النفسي لدى الفرد الى إيمان، ترسيخ عقيدة، ارتباط قوي بالأس الجذر القرآني. ومثل هذه الأحكام لا تحتمل التنظير. الثورات تطبيق فعلي يستند الى قابلية الاهتمام، وهذا التشكيل المعنوي لا يتوفر إلا في سطوع الحكمة، وقوة الإشعاع الإيماني المؤثر، ولا يستحكم لفرد ما لم ينشأ على تربية أخلاقية وروحية متسامية؛ فكانت له أدعية ومآثر وشرح في العقائد مما يخص التوحيد، لنفي التشبه والتشبيه عنه تعالى، وحين سألوه عن معرفة الله قال عليه السلام: (معرفه أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته) وله بيانات مهمة عن الأعمال التي تعرض على الله عز وجل كل صباح، وعن القدر وبيان الملمح القرآني، والحديث عن أناقة ظاهرة، وعمق باطن، والحث على قراءته والاستفادة من نفحاته وتفسيره...
وقد تناغمت لغة البحث مع تنوعات المتابعة ببلورة الرؤيا الكلية، تنسجم والمعنى الأنقى لتجربة إمام معصوم عالج جميع الملامح برؤى يقينية، أسهمت في خلق فضاء إيماني لو ألتزمت الأمة في تلك المعطيات. فنجد الملمح الفقهي الذي ارتبط عنده في موضوعات الصلاة والصيام والحج، وفي الوصية واللقطة والهبة... مما يدلنا على مشاركته الواسعة في مديات التكليف، سعيا لتوحيد الهوية الفقهية، والعمق الوجداني الساعي لالتزام أفضل.
دلالات توصل إليها السيد الباحث، ليستدل من خلالها على ابعاد احتمال الاختصار على موضوعة خاصة، ونجد كذلك رغم الانحسار النسبي إصدار المنظومة المعرفية لدى الأئمة الأطهار عليهم السلام لم تقتصر على جانب دون آخر، بل كانت شاملة لمختلف الموضوعات الحيوية، وأجمل ما في هذه البحوث أنها لا تريد أن تسرد وقائع بل تبحث عن دلالات تستدل من خلالها لإظهار القيم التي حاول إعلام القرون المنصرمة على إضمارها. ليصل بنا بحث السيد الخرسان الى نتيجة مهمة فحواها أن ليس هناك أزمة في الأحاديث عن الحسين عليه السلام، فأن الأزمة تكمن في البحث عنها. أغلب المصادر حملت المعنى المروي منه أو عن جده ص مع آراء أخر... ونتيجة واضحة في مشاركة الحسين عليه السلام في توعيه الأمة وترشيد اختياراتها.
يذهب الباحثُ باتجاهات نقدية مهمة؛ إذ يرى أن التفاعلَ الثقافي المؤثر يحتاج الى أرضية خصبة تحمل ثمارَ التأثير، وأي عزوف عنه يعني مشكلة المجتمع وليست مشكلة الإمام. ولم تكن مساعي التحجيم عبثية بل كانت سياسية منظمة حاولت إبعاد الروح والفكر لترك فسحة للتماثل التلقيني المؤدلج، حسب مواصفات سلطوية معروفة. ورغم تلك الاجتهادات الساعية لإنهاك عملية التوصيل استطاع الفكر الحسيني من التواصل المدهش عبر العديد من الوسائل الروحية الناشطة التي استلهمت روح المسالمة المؤمنة والمجاهدة العلمية أو العملية كممارسة سلوكية تربوية، عالجت تطبيقَ العديد من الأمور كالحرية والعمل، واستثمار مساحة الأدعية للتوعية الجماهيرية، والاستفادة من ثمار الربط الروحي، والحث بإشاعة أجواء ثقافية ذات خصوصية تنفتح على عدة منافذ ترفد الواقع الإسلامي لما يحتاجه من علوم ومعارف، لكن إضافة لهذا المحتوى المتنوع عرف عن الحسين عليه السلام بتفعيل الجانب الجهادي، عند استحكام الحل العسكري.
ويرى السيدُ الباحث أن ذلك يعني عدم توفر فرص الاحتفاظ بقيم ومثل مؤمنة دون النهوض التصحيحي - (الجهاد - التضحية) ويسعى لمساحة من التفرد لعرض ثيمات فاعلة، كعدم تحديد أدوار الأئمة عليهم السلام بأطر وظيفية في ساحة السلم أو الجهاد، بل هناك اشتراك عام والتقاء قيمي رفيع، بحيث لا تخصص سمة مركزة دون غيرها بحجة المرحلية، ولابد من دراسة كاملة متأنية تستقصي الشواهد لمعرفة نقط الشهرة والتعريف بها، ولا يصح الحكم بأنه متخصص في هذا الأمر بإهمال الجوانب الأخر، فهذا لو تم - لا سمح الله - سيخالف مبدأ المعصومية والتماهي مع هكذا فكرة، يطل على يقينية تحملها البنية التعبيرية تولج الحقائق بملمح شعوري يتجلى في متعة البحث عن بؤر معرفية عند الرموز المقدسة، لكونها تدب عن دين الله، وتدعو الى الحكمة والموعظة والحجة البالغة؛ أي مراعاة الحالة حسبما تقتضي المرحلة لحل الأزمات وتأثيرها وكل قرار له سماته وظروفه ومعانيه، ولابد إذن من معرفة هذه البذور لفهم الأوضاع والظروف المحيطة، لتتبين بعض وجوه الحكمة الواعية.
تتوزع الملامحُ جميع جهات الموضوع، وصولا إلى تكامل بحثي يحمل القضية من جميع أوجهها، لتشكيل مسار واضح يعتمد البيان. وانتقال الباحث في بحثه إلى الملمح الأخلاقي الذي يعتبر مسعى تربوياً ليربي الأمة أخلاقيا، بما كان يتصف بالحلم وبيان التكليف، ليبرز لنا شخص الحسين ع فاعلا... تلك تفاصيل بحثية تنامت عبر سبيل استدلالي، يبحث عن حصيلة التوفيق في تقديم رمز إيماني، وخاصة عندما يلجأ إلى الملمح الروحي (الدعاء) مما يشع الاستعراض بمضامين تشتمل دعاء يوم عرفة الذي حرك الكثير من الإدهاش لوجود المضامين الزاخرة.
وقد ركّزَ السيدُ الباحث الخرسان على مسألة في غاية الأهمية، قد وردت في المتن البحثي على نحو استنباط رؤيوي سعى لنقف ما وراء الكلمات وصولا الى قناعة تامة بأن إهتمام الحسين ع بالدعاء جاء لتفعيل بعض المضامين والمطالب، وهذا يقودنا الى فاعلية التنوع المعرفي لتوجهات الأمة، فلابد كما يرى الباحث عدم اقتراح مزاجي ليطالب المعصوم أن يسير بما يقتضيه (الرأي - الرغبة) فتلك خلافة إلهية تعمل لمتطلبات المصلحة العامة، تنطلق وفقاً لتقديره، وهذا يظهر نتيجة عدم دراسة كلية محكمة للظروف. وقد شغلت الباحث تلك المعاني السامية التي تنوعت بروايات عالجت مختلف قضايا الإنسان بعلاقاته مع الخالق والمخلوق، وبلورة الحالة الصحيحة؛ إذ تنوعت العقائد والتفسير والأحكام والأخلاق والدعاء.
=
تعليق