تكمن أهمية صلح الإمام الحسن(ع) تاريخياً في أنه شكل منعطفاً كبيراً في مسيرة الدولة الإسلامية، وفي أنه أعلن عن بداية مرحلة جديدة في حركة الأمة، وفي أنه أظهر الخط الثاني القائم على أساس تتبع مسيرة الأمة من زاوية المعارضة.
وتكمن الأهمية كذلك من الناحية العلمية في أنه قدم للمسلمين تجربة غنية قامت على أساس التصدي لانحراف اجتماعي خاص.
ولكن ورغم هذه الأهمية فإن الصلح لم يحظ باهتمام كاف من قبل المؤرخين؛ وغالباً ما نجد أن مرورهم على هذا الحدث الهام لم يكن مروراً معمقاً، وتتبعهم له لم يكن كاملاً شاملاً، هذا فضلاً عن أن الروايات التاريخية قد نقلت بعض جوانبه وتركت جوانب أخرى؛ فكونت في النتيجة صورة ذات ملامح متفرقة لا تنمّ عن الحقيقة كاملةً..
من هنا حاولت في هذه الدراسة، بواسطة مسح بعض المصادر التاريخية المهمة، علاج جوانب الخلل في المعالجات السابقة، بالإضافة إلى دراسة الصلح من منطلقات غير عقيدية؛ لأن دراسته من الزاوية العقيدية لها جوابها القاطع القائم على أساس سيرة المعصوم(ع)، فاستندنا إلى الدراسة التاريخية لأنها دراسة ذات بعد علمي مرن يفسح المجال للتعامل مع الآخر بصورة أفضل، خصوصاً ذلك الذي لا يؤمن بعصمة الإمام الحسن (ع) وإمامته؛ فلهذا اتخذ الباحث المصادر غير الشيعية تحرزاً من الوقوع في اتهام الآخر له بالتعصب واللاموضوعية.
البلاد الإسلامية
استناداً للمصادر التاريخية فإنه وفي أواخر عهد عثمان، تفاقم الصراع الداخلي بصورة واضحة؛ مما أدى إلى قتله في النهاية، ولم يتوقف هذا الصراع لكنه اتخذ أشكالاً أخرى من حروب وتمردات عسكرية وصراعات على النفوذ والمواقع استمرت حتى أثرت على تولي الإمام الحسن(ع) للخلافة بعد استشهاد أبيه(ع).
ولا نريد هنا دراسة جذور هذا الصراع ولا وضع عثمان، بل الذي نريده هو وصف الحال التي كان عليها المسلمون في فترة تولي الإمام الحسن(ع) للخلافة.. ومن الواضح أن البلاد الإسلامية لم تنحصر بالمصرين البصرة والكوفة اللتين مثلتا قلب الأحداث، بل هي أوسع من ذلك، ولذا فإن حدوث أي اختلال في تلك البقاع، من الناحيتين السياسية والاجتماعية، يمكن أن يترك تأثيراً بالغاً على الدولة الحاكمة، ويمكن لنا أن نحدد صورة إجمالية عن أوضاع الأمة - آنذاك - عن طريق ما نقله المؤرخون عنها، حيث يمكن أن نصل إلى أنها كانت داخلة في خضم وضع متأزم ودوران على الذات وعدم اتحاد أفق وولاء فيما بينها.
فقبيل استشهاد الإمام علي (ع) أرسل معاوية جيشاً بقيادة بسر بن ارطأة إلى الجزيرة العربية، فقام بارتكاب مجازر في اليمن، كما أن الناس قد اجتمعوا على أبي هريرة في المدينة المنورة وبايعوه، وأن أهل مكة وقعوا في اضطراب وتخبط، ولم يهدأوا إلا تهيباً من جارية بن قدامة السعدي القائد الذي أرسله الإمام علي(ع) لمواجهة بسر وما أحدثه من فوضى.
أما بلاد فارس فإن واليها زياد بن أبيه استولى على ما في بيت المال هناك.. وهذا هو حال غير واحد من ولاة البلدان الإسلامية البعيدة.
أما مصر فإن الأمر قد تفاقم فيها بعد أن قتل عمرو بن العاص واليها محمد بن أبي بكر، واغتيال مالك الأشتر الوالي البديل وهو في الطريق إليها، وغير ذلك من الأحداث(1).
الإمام الحسن(ع) وموقف الأمة
بويع الإمام الحسن(ع) للخلافة بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع)، وقد كان ذلك بترشيح من قبل قيس بن سعد بن عبادة في أشهر الروايات(2)، وفي رواية أخرى عبد الله بن عباس(3).
ويلفت النظر تأكيد بعض المؤرخين على أن الإمام علياً(ع) لم ينص على الحسن (ع)، رغم أن هناك قرائن تشير إلى أن المقربين من الإمام علي (ع) كانوا قد تحركوا وفق علمهم بوجود النص، كما هو الحال بالنسبة لعبد الله بن عباس وقيس وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وآخرين؛ وهذا هو أحد جوانب الغموض الذي يكتنف مصادر التاريخ.
وعندما تسلم الإمام الحسن زمام الخلافة في أعقاب سلسلة أحداث ما قبل عهده، كان أبرزها استشهاد والده الإمام علي (ع) الذي أحدث فراغاً في حركة الأمة وتطلعاتها، ورغم كون الإمام الحسن (ع) من ناحية المؤهلات الذاتية قادراً على سد الفراغ فإن الأمة لم تلتفت إلى هذه الأهلية في فترة قصيرة؛ ولذا نجد أن الفترة التي حكم فيها الإمام (ع) لم تكن طويلة، إضافة إلى أنها شهدت حملة إعلامية قوية ضده من قبل معاوية.
فقصر مدة حكم الإمام الحسن (ع) في الخلافة، والإعلام المضاد، وسوء تعامل الأمة مع أهليته - وهي النقاط التي سنفصلها لاحقاً - تسبب في حدوث ضبابية وعدم وضوح رؤية في منظار الأمة لقائدها:
هذا إضافة إلى أن الأحداث التي وقعت قبل الصلح وتلك التي اقترنت معه وبعده، توضح لنا نقطة هامة جداً هي أن الأفق لم يكن متحداً تماماً بين الخليفة وأمته.
ولو استقرأنا الأحداث فإنا سوف نجد:
1- عندما خطب الإمام الحسن بعد بيعته قال: (تسالمون ما سالمت وتحاربون ما حاربت)، وذلك كشرط لقبول تسلم الخلافة، نجد أن المجتمع قد تعامل مع هذا الشرط تعاملاً سلبياً؛ فيرى الطبري أن الأمة ارتابت (لأنه لا يريد الحرب)(4، في حين أن ابن الأثير قد نقل أن ارتياب الأمة كان لأنه أراد الحرب(5).
2- إن ابن عباس قد هرب والتحق بمعاوية، والطبري نقل أن الهارب هو عبد الله(6)، أما ابن الأثير واليعقوبي فإنهما نقلا أنه عبيد الله، ويضيف اليعقوبي على هذا أن ثمانية آلاف من الجنود قد التحقوا معه بمعاوية(7).
3- لقد أشيع في قوات قيس الأمامية أن الإمام الحسن(ع) قد صالح، وأشيع في قوات الإمام الحسن(ع) مصالحة قيس، رغم عدم حدوث هذا(8).
4- في الوقت ذاته أرسل معاوية للاجتماع مع الإمام الحسن(ع) جماعة فيهم المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عامر بن كريز، وبعد أن خرجوا من الاجتماع أشاعوا في الجيش مصالحة قائدهم رغم أن هذا لم يحدث(9).
هنا يتوقف اليعقوبي عن سرد الأحداث، وينقل أن الصلح قد أبرم بعدها، فقد وصل إلى قمته وطعن الإمام الحسن، وبوصول معاوية إلى العراق اضطر الإمام(ع) للصلح.
5- يضيف الطبري أن الصلح قد جاء بعد أن أشيع في الجيش مقتل قيس بن سعد(10).
وإذا ما لاحظنا سلسلة الأحداث هذه فسنرى أن حالة التمرد وعدم الطاعة كانت مبطنة في واقع الأمة و(لا شعورها)، وإن ذلك كان سبباً في الفوضى وتفاقمها..
ولكن ما هو السبب الذي دفع الأمة إلى التمرد على قائدها، وبالصورة المتقدمة؟!.
وللجواب على هذا السؤال، نطرح عدة احتمالات:
أ) أن يكون السبب هو علم الأمة بأن قائدها سيصالح وذلك بحسب تصورها، وهذا الافتراض يقود إلى افتراض آخر هو أن الأمة كانت رافضة لمصالحة معاوية وتريد الحرب معه على أية حال، ولهذا تمردت.
غير أن افتراض مثل هذا الأمر صعب لمن يلاحظ الروايات التاريخية، ومنها رواية ابن الأثير السابقة التي ذكرت ارتياب الأمة لأنها لم ترد الحرب، ورواية أخرى له تذكر أن الأمة عندما خيرها قائدها بين الحرب والسلم اختارت السلم قائلة: (البقية البقية!)(11)، وكذلك رواية ابن أبي الحديد التي تقول إن دعوة الإمام الحسن للناس إلى القتال قد قوبلت بالسكوت وعدم الاستجابة إلا أن تحريض جماعة، منهم عدي بن حاتم، هي التي أدت إلى الاستجابة والموافقة على الحرب(12).
وكذا ما نقله الطبري من أن قوات قيس الأمامية قد اختارت الدخول في طاعة معاوية بعد أن خيرهم بين الحرب والدخول في طاعته(13).
وكذلك لو لاحظنا كلمات للإمام علي (ع) وهو يخاطب الأمة نفسها التي كانت مع الإمام الحسن(ع) لرأينا أن هذا الاحتمال بعيد؛ إذ يقول أمير المؤمنين(ع): (أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس إلى المعونة وطائفة من العطاء فتفرقون عني وتختلفون علي؟! إنه لا يخرج إليكم من أمري رضى فترضونه ولا سخط فتجتمعون عليه)(14).
ب) إن المجتمع الكوفي كان يرى الإمام الحسن (ع) غير قادر على الحرب، لكنه راغب بالقضاء على معاوية وغير قادر على تحمل مسؤولية ذلك، وذلك للإرهاق والتعب الذي أصابه من جراء حروب ثلاث في سنوات أربع.
تعليق