علي حسين الخباز
:- لقد وصلنا.. قلتها والمرارة تتسرب في داخلي، وتكاد تخنقني..، كيف لي أن أواجهه وانا احمل جثة ابنه الوحيد شهيدا، هذا الرجل الذي طالما حدثني فؤاد عن حكمته وصلابته، كنت أتمنى أن ألتقيه في مناسبة مفرحة، المهم أني لم أره بين حشد اللاطمات، فجأة ظهر ليتقدم نحوي رجل ثابت الخطوة قوي الجنان، قبلني بمرارة وقال: لا تدع أحداً ينزل الجنازة يا ولدي، لتأخذه مباشرة الى المغتسل..!
أعتقد ان مثل هذا الاجراء يريد به الحاج مطر أبو الشهيد فؤاد أن يخفف وطأة العويل عن نساء البيت، فيبعد الجنازة عنهم، وبرر لي بشكل أدق حكمته النادرة في المغتسل أن أهلنا علمونا ان البكاء يؤذي الموتى، وأنا أرى اننا متى ما ادركنا معنى الشهادة، استقبلنا شهداءنا بالزغاريد.
قد تكون هذه الحكمة موجعة لأب يفقد وحيده، وأنا أرى كل شيء فيه يبكي إلا عينيه، أتحسسه بكل جوارحي، كنت أقول لفؤاد: لا تدع أحداً يحملني الى مثواي سواك، كان يرد:ـ لا ندري مَنْ سيحمل مَنْ يا علي:ـ اسم الله عليك يا فؤاد، فابنك بالمهد الى الان لم تألف مناغاته كلمة بابا،.
بالمناسبة.. كان يدور في رأسي أن أسأل الحاج مطر عن ابن فؤاد، وكأن الحاج أدرك ما يدور في رأسي، ألقى نظرة هادئة نحوي وقال:ـ الذي يهد الحيل يا ولدي أن ابنه لأول مرة يناغي: بابا.. بابا.. لكنه يناغيها بإلحاح عجيب، قضى الليل يناغي بابا.. بابا.. لم نكن ندري انه يودع أباه.. حملنا الجنازة الى حيث مرتقى الشهادة، فبدأ زحام المشيعين من الاقرباء والأصدقاء والجيران يبعدني عن الجنازة، وكان الحاج مطر يأخذني بيديه ليجعلني في مقدمة التابوت، وكأنه يريد ان تكون رأسي بجانب رأسه، عله يهمس لي ما يريد، يقول لي: كن بجنبه، كان يحبك كثيرا يا علي، وعليك ان تكون قريبا منه، تحمله الى مثواه كما تعاهدتما.
يبدو أن هذا الرجل يعرف كل شيء عن علاقتنا وسر اخوتنا، لكني كنت انظر اليه بحزن، وأشعر انه على وشك الانهيار، وأصبح لا يستطيع الكلام، وهو يتماسك امام الناس بقوة ما يمتلك من صبر وايمان، وعندما وصلنا قرب الدار أومأ فهمس في أذني: لا تدعهم يأخذون فؤاد الى البيت، وخذ جنازته الى الجامع، وفعلاً قدت الجنازة الى الجامع دون أن يعترض احد؛ لكونهم عرفوا انها رغبة الحاج مطر.
وبقيت بجنب جنازة فؤاد ملتصقا بتابوته، صامتا لا امتلك ما يساعدني على الصبر حتى الدموع لم تعد تعينني، وأنا بعين قلقي للحاج مطر الذي أصرّ على جلب حفيده ليقضي هذه الليل جنب أبيه، وهو يقول: فؤاد هذا ابنك بجنبك؛ كي تسمع منه ما كنت تتمنى أن تسمع، فهو صار يناغي: بابا يا فؤاد بابا.. وقبل الفجر غلبني النعاس، نمت وإذا برؤيا حلمت بها.. فؤاد يوقظني من منامي، وهو يصرخ: أبي الحق أبي يا علي فنهضت مرعوبا، فاذا به قرر ان لا يترك فؤاد يذهب الى مثواه وحيدا، وحين حملوه انتبهت الى وجود الرضيع، وهو ما زال يناغي: بابا.. بابا