صعد الرجل تزفه فرحتي... همست في أذنه: كنت ابحث بين الناس عنك.. همس في اذني: لِمَ قلت الناس ولم تقل البشر؟ اصطدمت لحظتها فلم اكن بعد سحبت انفاس دهشتي.. اجبته: على ما اعتقد ان هذه المسألة بسيطة، فالناس اشتقت من (النوس) ويعني الحركة، بينما البشر تعني حسن الهيئة مشتقة من البشارة ولأن الناس أحسن من الحيوان هيئة سموا بشرا... قال الحاج: جيد وعليك ان تعرف ان الناس جمع والبشر واحد. قلت: يا حاج لكنه جمع والبشر في القرآن: (هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وتقول: محمد خير البشر يعنون الناس كلهم وثني بشرا.. وفي القرآن: (لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) لكنه لم يجمع ـ لكن ما معنى البشر؟ قلت مع نفسي: لابد ان اصمد امام هذا الرجل لأصل الى نتيجة ما، ولا ادري كيف تذكرت مفردة (بشرى)، فقلت: انه السرور. فعقب الحاج: بل هو ما يظهر من السرور اول من يخبرك الخبر، واذا سمعته ثانية لايعتبر بشارة، ولكنه يصبح خبرا سارا... تأملت مع نفسي قلت: لأحفر داخل العمق عساني استخرج اشتقاقات اخرى مثلما يفعل الحاج ـ فأشرت الى المثل (ماهش وبش) فقال: يبدو انك وصلت... فالبشاشة اظهار السرور وهي الخفة للمعروف وبـ(كسر الشين) تعني السهل المتناول، والرجل الهش يعني سهل العطاء، وهو شيء من الايجاب، ليس مثلما تتصورون اللين من الضعف والضعف من الانكسار...
سكت الحاج قليلا ـ قلت مع نفسي: لن اتركها ابدا بل سأبحث في ثناياها علني اجد شيئا فرحت اضربها اسداسا بأخماس توصلت الى شيء ظريف ولكن قبل ان انطق بشيء أدهشني الحاج حين قال: ها وجدت شيئا ويعني ان يدرك أني كنت ابحث في ثنايا الكلمة.
نعم ياحاج انا وصلت لشيء غريب !!! ما هو؟ قلت: ان البشر يختص بالخبر الذي يسر لكن ورودها في القرآن يختلف عن هذا المعنى فقال: كيف؟ قلت: وردت (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وعقب الحاج وفي قوله تعالى ايضا نقرأ: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) فعليك ان تدرك انها وردت من باب الاستهزاء بهم ــ سكت حينها الحاج وهو يتأمل في ويتبسم، قلت مع نفسي: هل هذه الابتسامة تعني التشجيع ام الاستهزاء بقابليتي او الاقرب للتفسير انه يشعر بالزهو لكونه نجح في تحريك ذهنيتي الراكدة نحو عمليتي التحليل واستخراج الاشتقاقات والبناء عليها وبالنسبة لي على ما يبدو كانت لحظات تجلي، فأنا لم اخض مثل هذه التجربة من قبل.. سألني الحاج: يبدو انك توصلت لشيء آخر ـ قلت: نعم وكلي ثقة بأن الذي اكتشفته صعب للغاية... كيف؟ قلت: لو بحثنا في أصل مفردة البشر، أجاب: مشتقة من البشرة ظاهر الجسد لتأثيره في تغيير بشرة الوجه، قلت: هذا ما أبحث عنه ـ اذن ياحاج مثلما الفرح يغير معالم البشرة فالحزن ايضا وعلى هذا الاستنتاج فالبشارة تشمل الخبر السار والحزين...
قال الحاج: ما توصلت اليه حقيقة لكنها ليست اكتشافا بل هي مطروقة ومعروفة ومدروسة ايضا لكن التحديد على الخبر السار يختص بالعرف المتداول وسواه اهمل العمل به ـ فقال الحاج: يا بني انا اخشى ان اتوسع في الموضوع فيصعب عليك الفهم وتتيه وسط لجة المفردات، كنت اريد ان اصيح: ليس هكذا ياعم اسس المحاورة، فأنت ما زلت تراني ضعيفا الى الحد الذي تخشى علي من التيه، لكن الحاج سرعان ما قطع علي احتجاجي حتى داخل نفسي وقال: ركزنا على مفردة الناس لكن هل ركزنا على مفردة الانام؟ قلت: هذه لا اعرفها وتيقنت حينها ان في جعبة الحاج مايزال هناك ماهو ثقيل، فعقب الحاج يراها العلماء انها تعظيم لشأن المسمى من الناس.. أصبح الخوض في هذا الامر صعبا علي، فهو اكبر من قابليتي كما شخصها الحاج حتى عدت لا استوعب منه الكثير مما ذكر في مفردة الناس من الانسي والاسم، ورأيت ان انكفئ والجأ الى صمتي وفي دواخل اعجاب كبير لهذا الحاج العجيب الغريب الذي ورطتني به الاقدار في سفر فأراني خور ما أنا فيه...
قلت: الحمد لله فنحن نمتلك في كل جريدة مصححا لغويا اختصاصيا... فابتسم الحاج وقال: ولكن لايعني ان لايدرك الاعلامي ما هو الاعلام. قلت: هذه الأمور نعرفها، فالاعلام يعني الاخبار. فقال: وما هو الانذار؟ قلت: هو اعلام معه تخويف، فاذا خوف الانسان غيره انذره. قلت: طيب والنذر؟ قال: هو ما يجعله الانسان على نفسه وتحدث عن الفارق بين الانذار والوصية؛ فالوصية منك لنفسك ولغيرك وتكون بالحسن والقبيح، فقال: يابني قد تعتقد ان مثل هذه التبايانات هي اختبارات اريد ان امتحنك بها او ربما تعتقد انها (حزورات) ظريفة لكن لو تمعنا في القرآن الكريم وتأملنا فيه لاحتاج الامر منا الى ادراك كل مفردة من المفردات العظيمة وانت رأيتك يا بني اعلاميا متجاوبا مطواعا للتعلم فانا لم أشأ اختبارك كما تظن.