ح5
انتبه لقوله تعالى وأجبني: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ) فما الفارق هنا بين نزّل وأنزل، هل وضعت هذه الاضافة اعتباطية أم هناك فعلا فارق بين نزل وانزل؟
قلت: هناك فارق يا حاج، قد يصعب عليّ لكني أرى الفارق بين التدريجي والدفعة الواحدة، لكن هذا عندي غير مقنع!! قال: كيف يا بني اتتوصل الى الحل ثم تتنصل منه؟ قلت: ياحاج يقول الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فقال وهو فرح جدا: جميل يا ولدي انتباهتك رائعة، واقتناصاتك للمعنى خطيرة يا صديقي، وهذا يا بني يُسمى مطلق من غير ان يترك اي اعتبار للتدريجية، والمراد انزاله الى السماء الدنيا، ثم نزل تدريجيا او على دفعات...
كنت احاول ان ألوذ بصمتي، ولكن الرغبة في التواصل تشتد بي ايضا، ولكن فرحة الحاج بتواصل الحديث جرفتني معها وهو يقول: انتبه يا بني لقوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ثم انظر في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قلت: إذن علينا يا حاج التركيز على مفردتي (أعطيناك ـ آتيناك) وانا اعتقد ان (اعطيناك) لها خصوصية فردية؛ فالعطاء للرسول (ص) وحده. قال: جيد و(آتيناك) للجميع فان القرآن لجميع الامة...
انتبه الحاج لما أعانيه، فطراوة الموضوع كدت أفقدها حين أولجني سمات الاختصاص التي تحتاج الى رؤى اختصاصية، فحديثنا كان يدور عن عموميات التعامل اليومي الشامل، فلذا تعبت حقيقة، وقلت: عذرا يا حاج لأمدد جسدي.. قال: تفضل خذ راحتك، ولكنك قلت جسدي ولم تقل بدني مثلما يقولها أغلبنا!!
قلت: اعتقد ياحاج ان البدن هو القسم العلوي من الجسد، وجسم الانسان كله جسد؟ قال الحاج مشجّعا: جيد... وبعدها غطّ الحاج في سبات عميق، وكأنه لم يخُض مدارج حديث، خشيت اني قد أزعجته، فقلت: المعذرة يا حاج اخشى اني شطحت في التعبير؟ فقال: لا يا بني انا حزين اساسا، وانت كنت ممتعا فأنسيتني الشيء الكثير من هذا الحزن... قلت: يا حاج يبدو انك لم تتعوّد السفر، فلو شئت نم قليلا لترتاح؟ قال: لا ولكني لم اتعوّد (البيتوتة) خارج الدار. ابتسمت حينها وقلت: لِمَ قلت بيتوتة؟ قال وهو على سباته دون ان يلتفت إلي: لأن البيتوتة خارج الدار قضاء مدة خارجه سواء نمت أم لم تنَم.
التفت إليّ قائلا: يا بني انت رجل اعلامي يعني لابد أن تعي دقة التعامل مع المفردة مثلا هناك من يقول: ان الخليفة الفلاني هو التالي لنبي الله (ص) نحن نقول: لكن الإمام عليا هو اول تابع للنبي (ص)، وهنا لايعني ان عليا عليه السلام استلم زمام الخلافة بعد النبي (ص) بل هو استلم شيئا اكبر من الخلافة السياسية، هو اول من تدبر بتدبير الرسول بينما التالي تولى امورا ادارية، دعني أسال؟ قلت: تفضل.
قال: ما معنى التدبير؟ ربما تغيّر الحال الآن فأصبحت القضية لا تعني الحرج او الإحراج، واخذت جانب المنفعة والتحاور، هذا ما سعى الحاج أن يرسّخه في دواخلي لرفع الكلفة او الحرج، ورغم كل ذلك اشعر انه لابد من اثبات ما يؤهلني لأكون رجل اعلام...
قلت: التدبير يعني النظر نحو الأمور من اجل اصلاحها. قال: طيب وما التقدير؟ تلعثمت قليلا قلت: النظر نحو الأمور من اجل اصلاحها. قال: لابد من معنى يختلف بينهما عليك أن تنظر الى اصل الكلمة. قلت: اعتقد اني فهمت الأمر فالتدبير ادبار الأمور ويعني النظر لعاقبتها، وهي معالجة ليست آنية. قال: جيد...
وحاول أن يستأنف فسمعني اقول: لاحول ولا قوة الا بالله... فهنا ابتسم الحاج بوجهي: ارجوك افهم الأسئلة على انها تحاورية وليست اختبارية، افهمها لطلب المنفعة وقضاء الوقت في اشياء نافعة، وانا لم اتحمّس مسبقا لمثل هذه التحاورات، ولا اهتم بها إلا في حال اجدها في مكانها المناسب، وانت رجل اعلامي اي رجل واجهة، فلابد من الاعتناء بك واعدادك الاعداد المناسب الذي يعد به الرجال المتصدين لسوح الميادين. قلت: اسأل يا حاج؟
فقال: ما هو التذلل؟ قلت: افتعال الذل او دعني اختار لك تعريفا ادق ادخال النفس في الذل. فأجاب: جيد فهل هو ذم ام مديح؟ قلت: مديح طبعا. قال: وما اسم فاعله؟ قلت: المتذلل... قال: وهل يسمى الذليل؟ قلت: فهمت الأمر يا حاج، والله انك تبحث عن خفايا الأمور، التذلل اعتراف بالعجز، وحين يكون لغير الله تعالى اعتبر فيه التذلل مشينا...
صاح بفرح جيد: يا ولدي، ها انت تصل للمفهوم بسرعة غير متوقعة وما فرقه عن التواضع؟
نظرت إليه: ما قضية هذا الرجل فهو يحاصر المعلومة من كل الإتجاهات، قلت: التواضع اظهار قدرة من المتواضع الأعلى الى الأدنى. قال: كيف؟ قلت: يقال الملك متواضع لخدمة الناس اي يعاملهم معاملة من لهم القدرة عليه، ولا يقال الملك تذلل لخدمه... قال: جيد وسكت.
أعجبني
تعليق